حين مات عبد الناصر خرج أكثر من أربعة ملايين مصري يبكونه ويودعونه، فقد أحب المصريون عبد الناصر وغفروا له أخطاءه في هزيمة 1967 م وغيرها، وحين قتل السادات لم يتعاطف معه غالبية المصريين، وانقسم الناس حوله بين معجب وكاره، ولم يمش في جنازته غير نفر قليل من الشخصيات الرسمية المحلية والدولية التي حضرت كأداء بوتوكولي، وضن المصريون عليه بجنازة شعبية رغم أنه انتصر في حرب 73 واسترد لهم سيناء. إذن يبدو أن معايير الشعوب في الحب والكراهية وتقدير الرؤساء لها حسابات خاصة يتصل بعضها بالتركيبة الشخصية للرئيس والبعض الآخر بتلك العلاقة الخاصة بينه وبين الشعب ثم أخيرا إنجازاته أو أخطائه.
ولقد عاصر مبارك الرئيسين وشهد نهاية كل منهما، ولكنه شهد بشكل خاص ومباشر مصرع السادات برصاص كارهيه من القوات المسلحة ومن خارجها، وكان من المتوقع أن يتأمل الرئيس في مسألة علاقة الرؤساء بشعوبهم ومتى يرضون عنهم ومتى يرفضونهم ومتى يكرهونهم، ومتى يغتالونهم معنويا أو جسديا، ولكن يبدو أن هذا لم يحدث، والدليل هو ما وصل إليه الحال في ثورة المصريين وخاصة الشباب في 25 يناير والذي نستطيع رصده من خلال مشاعرهم وهتافاتهم ضد الرئيس ونظامه تلك المشاعر التي كانت تتراوح بين الرفض والغضب وتعلو في أحيان كثيرة حتى تصل إلى الكراهية. وكان الظن أنها مشاعر عابرة فجرتها طريقة تعامل الشرطة مع المتظاهرين ووفاة عدد كبير منهم بالرصاص المطاطي والحي والدهس بالسيارات والاختناق بالقنابل المسيلة للدموع، ولكن اتضح مع مرور الوقت أن هذه المشاعر تستمر وتتأكد وتزداد.
لقد ردد الثوّار هتافات مدوية: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ثم تطورت لتصبح "الشعب يريد إسقاط الرئيس"، ثم تطورت لتصبح "إرحل ارحل يا مبارك"، ثم تطورت لتصبح "الشعب يريد محاكمة الرئيس"، ثم تطورت بعد ذلك إلى عبارات لا تصلح للنشر.
وقد أتخيل أنني في مكان مبارك، أجلس وحيدا مع نفسي بعد أن بلغت من العمر 84 عاما وأتساءل: كيف يهب الناس بالملايين هكذا يطالبون بسقوطي أو خروجي أو رحيلي أو محاكمتي أو.... بعد هذه السنوات الطويلة التي قضيتها في خدمتهم وفي خدمة الوطن والدفاع عنهم وعنه، أهذا هو جزائي في النهاية بعد هذا المجهود الهائل الذي بذلته طوال سنوات خدمتي التي امتدت لأكثر من 62 سنة منها ثلاثين سنة في الرئاسة، أهو شعب ناكر للجميل؟ أهو شعب مغرر به لا يفهم ولا يقدر ما قدمته له من تضحيات حربا وسلاما؟... وكيف تنتهي سنوات خدمتي للوطن بهذا الشكل؟... وماذا سيكتب هؤلاء الغاضبون عني بعد أن أترك كرسي الحكم وبعد أن أموت؟... هل سينصفني أحدهم؟... وماذا فعلت بهم كي يخرجوا بكل هذه الأعداد المليونية يوميا يطالبونني بالتنحي والرحيل؟... وكيف يطالبون برحيلي عن مصر لأعيش بقية عمري بعيدا عن أرضي وأموت غريبا مطاردا من أبناء وطني الذي كنت أعتقد أنني من أبطاله التاريخيين؟.. كل هذه تساؤلات قد تدور بذهن الرئيس وقد تؤلمه، ولست أدري إن كانت ظروفه تسمح له بمصارحة الذات والاعتراف ببعض الأخطاء، أم أن التبرير لما حدث أو إسقاط ما حدث على قوى داخلية أو خارجية ستكون دفاعات مريحة للذات؟.
وللإجابة على هذا التساؤلات نيابة عن السيد الرئيس ربما نحتاج إلى استعادة بعض الأحداث والمواقف مع قراءة ما كتب وما قيل وما نشر على مدى ثلاثين سنة من حكم مبارك الممتد والمتمدد، وسنحاول أن نمسك ببعض الخيوط المفتاحية التي تفسر لنا هذا الغضب الهادر العنيف الذي يستولي على المتظاهرين، وفيما يلي نعرض بعض وليس كل العوامل والأسباب التي أدت في النهاية إلى هذه الحالة على أمل أن لا يكررها أو يقع فيها أي رئيس قادم:
أولا: التعالي على الشعب، وهذا التعالي يشعر به الناس من مواقف كثيرة، منها مثلا تركه للقاهرة، وإقامته شبه الدائمة في منتجعه الهادئ في شرم الشيخ بعيدا عن مشاكل الناس في العاصمة، وكان الناس يتهامسون بأن الرئيس مبارك لا يحب مجاورة المصريين ويفضل أن يكون هناك في شرم الشيخ قريبا من أصدقائه، كما أن رأيه في الناس كان يعكس ذلك التعالي، فهو لا يهتم بالتحاور السياسي معهم، ولا يهمه رأيهم في أي قضية، ويكتفي في التعامل معهم بعصى الأمن المركزي و"بيادته".
ثانيا: حالة العناد الشديدة التي كانت الميزة الأساسية لقرارات ومواقف مبارك، حيث لم يكن يستجيب لتطلعات الشعب وآماله وتوجهاته، وكان ثمة حالة من التجاهل لكل ذلك مبني على قاعدة أن الشعب تحكمه عواطفه، وأن الرئيس أكثر حكمة وأكثر معرفة وأكثر تأنيا في اتخاذ القرارات. وكان من المعروف والمستقر في وعي الشعب المصري أن مبارك يتحرك عكس اتجاه الناس، فإذا شكوا من مسئول أو رفضوه أو كرهوه فإن ذلك يعني بقاء هذا المسئول في موقعه إلى أجل طويل، وإذا رغب الناس في موقف في بعض القضايا الداخلية أو الخارجية فإن المتوقع من مبارك أن يأخذ رأيا معاكسا تماما.
ثالثا: عدم الاهتمام بمخاطبة الجماهير من وقت لآخر كما كان يفعل عبد الناصر والسادات حيث كان من عادة كل من الرئيسين الراحلين أن يجلسا إلى الشعب ويتحدثا معه باستفاضة عن الأحوال الداخلية والخارجية حديثا يغلب عليه العفوية والتلقائية، أما مبارك فلم يكن يتحدث إلا في مناسبات رسمية نادرة وكان الحديث غالبا من ورقة معدة سلفا ويغيب عنه التفاعل التلقائي العفوي المباشر، بل كان يهتم في الأغلب باللهجة الخطابية التقليدية الحازمة الجافة الخالية من النداوة الوجدانية والإنسانية.
رابعا: الخلل في الإدراك لقضايا الناس واحتياجاتهم، حيث كان لا يستمع إلى صوت الشارع بشكل مباشر، وإنما يعتمد على التقارير في الأغلب، فتتكون لديه صورة غير مطابقة للواقع فتأتي الردود في غير محلها، أو أقل مما يجب. وربما يكون لطول مدة بقائه في الحكم أثر في ذلك فهو منذ ثلاثين سنة لم يعش ظروفا حياتية طبيعية، ولم يمش في الشارع بشكل طبيعي، ولم يتعامل مع الناس بشكل عفوي، بل هو طول الوقت محاطا بالحراسة، وكل من حوله من مستشاريه يتحدثون إليه وبينهم وبينه هالات المنصب ومحاذيره، لذلك فقد الإدراك الطبيعي للناس والحياة، ولأن هذا حدث على مدى سنوات طويلة وبالتدريج فإنه فقد إدراك تغير الإدراك.
خامسا: حالة التزاوج بين الثروة والسلطة، تلك الحالة التي نشأت على أرضية محبة الابن جمال مبارك للأثرياء ورجال الأعمال وجذبهم حوله وتمكينهم من الوظائف الحيوية والمواقع الوزارية على اعتبار أنهم أقدر على تحقيق النمو الاقتصادي بطبيعتهم الاقتصادية، وأنهم "شبعانين" من المال فلن ينظروا إلى مال الدولة، أو أن هؤلاء هم المحببين إلى قلب الابن الشاب عاشق البيزنس الذي لم يتعود التعامل مع الفقراء بل ربما لم يعرفهم في حياته إلا في صور الجرائد وعلى شاشات التليفزيون. وقد ثبت أن رجال الأعمال ناجحون فعلا في تنمية الثروة ولكن ثروتهم هم، وثبت أن طلاب المال لا يشبعون أبدا بل إن كونهم اتجهوا إلى عالم المال والأعمال يدل على رغبتهم العارمة في جمع المال.
سادسا: استبعاد المثقفين والعلماء من الدائرة المقربة من الرئيس ونجله، ولو حدث وتم استدعاء أحدهم فيكون ذلك بمباركة وزير الثقافة الذي حاول أن يسيطر على عقول المثقفين ويتعامل معهم كموظفين يحاول استمالتهم لخدمة النظام وتدجينهم لأداء وظائف وأدوار بعينها يحتاجها النظام في بعض اللحظات، ولهذا شعر المثقفون بالإهانة والغبن، وقد جسد ذلك في رفض صنع الله إبراهيم جائزة رفيعة من الدولة، وتبعه في ذلك بهاء طاهر الذي رد الجائزة بعد قيام ثورة يناير.
سابعا: غياب الحلم القومي لدى الرئيس وأعوانه، مما جعل الحياة المصرية تبدو شديدة التصحر والجفاف، وشديدة البؤس والغرق في دوامات الحياة اليومية، وغياب الأمل.
ثامنا: غياب الجانب الوجداني في العلاقة بين الرئيس والشعب، فقد كان الرئيس لا يملك تلك الموهبة الربانية التي تجعل شيئا ما يربطه بالشعب غير الوقائع والأرقام والمواقف الرسمية. والشعب المصري شعب عاطفي ربما يرضى بالمتاعب والمشكلات إذا سمع كلمة حلوة أو رأى ابتسامة صادقة.
تاسعا: ممارسات الحزب الوطني وأعضائه التي استفزت غالبية الشعب المصري. كما أن الرئيس أخطا خطئا فادحا برئاسته للحزب الوطني، تلك الرئاسة التي أصر عليها رغم مطالبة المخلصين له بأن يتخلى عنها ويصبح رئيسا لكل المصريين، وهذا جعل هذا الحزب يتوحش في الحياة المصرية ويجذب إليه المنتفعين والانتهازيين وأصحاب المصالح والمطامع، وكلهم يستظلون بظل الرئاسة، ويحتمون بها، ويمارسون كل المفاسد وهم متمترسين بالرئيس والحكومة.
وقد اكتسب الحزب الوطني كراهية شديدة من جموع الشعب خاصة بعد سيطرة صفوت الشريف وأحمد عز عليه وبعد التزوير الفاضح لانتخابات مجلسي الشعب والشورى والمجالس المحلية، وبعد وقوف أحمد عز يعلن انتصار حزبه على سائر أحزاب المعارضة بشكل لا يخفي شماتة وتشفيا، ثم وقوف الرئيس مبارك للثناء على انتخابات مجلس الشعب الأخير ومباركة خطوات الحزب الوطني الذي يحركه ابنه جمال وصديقه الحميم أحمد عز بفكر يعتقدون أنه جديدا. وربما يفسر هذا لجوء كثير من الجموع الغاضبة إلى حرق مقار الحزب الوطني في القاهرة والمحافظات ورميها بالحجارة.
عاشرا: عدم الوفاء بالوعود، فقد كانت هناك وعودا كثيرة بانتخابات نظيفة ولم تتحقق، ووعودا بانفراج الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الشعب ولم تتحقق، ووعودا بالتخلي عن منصب الرئاسة بعد فترة أو فترتين ولم تتحقق وووعودا بملاحقة الفساد والفاسدين ولم تتحقق. وهذا أدى إلى فقدان ثقة كامل في النظام بأكمله.
حادي عشر: مسألة توريث الحكم لنجله جمال، حيث كانت كل الدلائل تشير إلى سير هذا المشروع في الطريق بخطى ثابتة، وحين يسأل الناس عن مشروع التوريث تأتي إجابات مراوغة، أو ذات دلالات مزدوجة أو مائعة، والجميع تشكل لديه يقين بأن التوريث قادم لا محالة وأنها فقط مسألة وقت وإعداد للمسرح. وكانت مسألة التوريث تشكل كابوسا للشعب المصري الذي كافح وقام بالثورة من أجل إنهاء الاحتلال والتخلص من الحكم الملكي فكيف به يعود للوراء بعد ستين سنة من الحكم الجمهوري إلى توريث الحكم، ثم إن هذا الأمر كان يبدو فيه إهانة شديدة للشعب لكونه أصبح إقطاعية تورث للأبناء، كما أن عمليات التمويه والخداع التي صاحبت ملف التوريث وخطواته جعلت الشعب يشعر أن ثمة خديعة تتم لكي يركب الابن على كرسي الحكم بشكل ما وفي لحظة ما دون أن يكون للشعب اختيار.
ثاني عشر: سلوك وزارة الداخلية خاصة في عهد الوزير حبيب العادلي من تعذيب حتى الموت داخل أقسام الشرطة ومراكز الاعتقال والسجون، وتلفيق القضايا، والاستعانة بالبلطجية في فض المظاهرات ومعاقبة المعارضين، وتزوير الانتخابات، وإفساد العلاقة بين المسلمين والمسيحيين من خلال تصرفات غير مسئولة في هذا الموضوع الحسّاس حتى كاد الأمر أن يصل إلى حرب طائفية، والاقتصار على الحل الأمني في سائر القضايا، مع الجفاف السياسي المريع، فكل الملفات تحال للأمن ولأمن الدولة على وجه الخصوص، وقد بات واضحا لدى الخاصة والعامة أن الأمن يتحكم في كل شيء في الحياة المصرية، وأنه يملك التعيين في المناصب الصغيرة والكبيرة ويملك الحرمان من التعيين مهما كانت الكفاءات والشهادات، وأنه يحرك كل المسئولين ويكتب عنهم التقارير التي تحدد مستقبلهم، ويتحكم في الصحف والقنوات الفضائية، ويتحكم في الأحزاب، وفي الانتخابات وفي كل شيء. وقد أدى هذا إلى تضخم الجهاز الأمني وامتداد أذرعه وعيونه في كل مكان، ودخل في خصومات كثيرة مع المجتمع، وفقد دوره الخدمي والاجتماعي وترك الشارع المصري دون أمن اجتماعي وركز كل جهوده على حماية النظام، وتضخم دوره التسلطي العقابي فاضطربت صورته في وعي الناس بالذات مع كثرة الكشف عن حالات التعذيب المتكررة التي أدت إلى الوفاة.
وربما يفسر هذا اختيار القائمين على ثورة 25 يناير ليوم عيد الشرطة ليكون موعد تظاهرهم واحتجاجهم، ويفسر أيضا خروج جموع من الجماهير الغاضبة في القاهرة والمحافظات لتحرق أقسام الشرطة وتتهجم على مراكز أمن الدولة. وكان الاقتصار على الحل الأمني يغفل جوانب كثيرة في المشكلات كانت تحتاج للحلول السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية، ولكن النظام أدمن واستسهل الحل الأمني لأنه لا يحتاج أكثر من حشد العشرات من عربات الأمن المركزي تشكل حائط صد بين الجماهير وبين السلطة فيعود الجماهير خائفين محبطين منكسرين يائسين، وبهذا تراكمت المشاكل دون حل حتى تحولت لأزمات وتراكمت الأزمات دون حل حتى تحولت لكوارث، وتورط جهاز الشرطة في تحمل مهام وهموم أرهقته وأخرجته من إطاره المحدد في خدمة الوطن فتحول في عهد حبيب العادلي إلى تمكين النظام والحزب الوطني.
ثالث عشر: الزهق والملل والضجر من استمرار نفس النظام بنفس الأسلوب بنفس الوجوه بنفس الممارسات السلبية وغير النظيفة في التعامل مع الشعب ومع قضاياه مثل الكذب واللف والدوران والقفز على الحقائق واللغة المزدوجة، مع فقدان الأمل في التغيير بالطرق السلمية عن طريق صندوق الانتخابات.
رابع عشر: الجمود والركود في الحياة السياسية مما أصابها بالتصحر والجفاف وتفشي كل أمراض الفساد في أركانها دون وجود نية أو إرادة حقيقية لوقف هذا الحال المتدهور، وكان ثمة شعار مرفوع يعطي مشروعية حكومية لهذا الجمود وهو "استمرار الاستقرار واستقرار الاستمرار".
خامس عشر: انفصال الرئيس عن توجهات الشعب وإرادته في أغلب القضايا إن لم يكن كلها، فمثلا في أحداث الهجوم الإسرائيلي على لبنان 2006 م كان الشعب المصري يؤيد المقاومة اللبنانية بينما يعاديها مبارك، وفي الهجوم الإسرائيلي على غزة كان الشعب المصري يسعى لإنقاذ غزة من الوحشية الإسرائيلية وينادي برفع الحصار عن غزة وفتح معبر رفح ولكن الرئيس كان على الجانب الآخر تماما، وحين همّ بإنشاء السور الفولاذي على الحدود بين مصر وغزة كان هناك رفض شعبي عارم لتلك الخطوة التي تساهم في خنق سكان غزة أكثر وأكثر لحساب الأمن الصهيوني ولكن الرئيس لم يلتفت إلى ذلك. والشعب المصري كان يرغب في التواصل مع القوى الإقليمية الإسلامية المؤثرة في المنطقة مثل إيران وتركيا، ولكن الرئيس كان له حسابات أخرى لم يتفهمها أو يقبلها الشعب المصري. وهكذا شعر المصريون بأن رئيسهم لا يمثلهم وإنما يمثل رؤيته وإرادته هو، وأنه يعتبرهم قاصرين عن فهم مجريات الأمور وبالتالي ليس من حقهم التدخل في مثل هذه القضايا، وهذا أمر يجرح كبرياء أي شعب.
سادس عشر: التشبث بالسلطة والإعلان أكثر من مرة بأنه سيبقى طالما بقي فيه قلب ينبض، إضافة إلى تراكم شواهد لا تدع مجالا للشك بترتيب التوريث لنجله جمال في حالة ترك الرئيس للسلطة مضطرا بحكم المرض أو العجز.
سابع عشر: بطء الاستجابة للأحداث، وهي سمة كانت مميزة للرئيس طوال عهده، ولكنها زادت أكثر في سنواته الأخيرة وربما يكون وراء زيادتها التقدم في السن وما يصاحبه من تغيرات بيولوجية، وقد كان مؤيدو الرئيس يحاولون تبرير هذه الصفة من البطء الشديد بأنها حكمة وترو من الرئيس، ولكنها في الحقيقة لم تكن كذلك بل كانت تؤدي إلى مشاكل هائلة خاصة في هذا الزمن ذات الإيقاع السريع للأحداث. ولم يكن الرئيس قادرا على التفاعل مع الأحداث الساخنة فتمر الأيام وربما الأسابيع والشهور وهو لا يستجيب بينما الجماهير تغلي طالبة حسم الأمور والتفاعل الحي مع الحدث ولكن دون جدوى، وقد اتضح ذلك جليا في أحداث ثورة 25 يناير حيث كانت مصر تشتعل بالثورة وتداعياتها من هجوم الأمن على الثوار وقتل ما يزيد على ثلاثمائة من أنبل وأشرف شباب مصر بالرصاص الحي وتجرح وتشوه ما يزيد على خمسة آلاف شاب، والجميع ينتظرون ظهورا للرئيس أو كلمة أو تصريحا ولكنه لم يفعل ذلك إلا متأخرا جدا حيث بدأت الثورة يوم الثلاثاء ولم يخرج هو لإلقاء خطابه إلا يوم الجمعة، وكان من الممكن لو خرج على الناس مبكرا أن يجنب البلاد مخاطر جمة.
كانت هذه بعض الأسباب (وليست كلها) التي تسببت في رفض المصريون وغضبهم تجاه الرئيس مبارك، ولقد نبه لها الكتّاب والمفكرون والمصلحون على مدى سنوات طويلة، ولكن الرئيس مبارك لم يكن يلتفت إلى شيء من ذلك، فهو يفخر دائما بأنه لا يتأثر ولا يستجيب إلا لما يراه هو صوابا، وكان ذلك يوصل رسالة مفادها أن ثمة حالة ازدراء وتجاهل للشعب المصري ورموزه وقياداته الفكرية، وكانت تتأكد هذه الحالة بوقوف عربات الأمن المركزي السوداء أو الزرقاء حول الجامعات والنقابات المهنية وتجمعات المعارضة، وكأن هذه المؤسسات التي تمثل عقل المصريين وضميره لا تستحق في نظر الرئيس إلا عصا وحذاء الأمن المركزي.
فهل يا ترى يتعلم أي رئيس قادم من هذه الدروس، أم سنجد أنفسنا ندور في حلقات مفرغة تنتهي نفس النهايات المأساوية التي انتهى إليها الرئيس السادات ومن بعده الرئيس مبارك؟