"فـي مصـر ومـن قبلهـا تونـس"
من الصعب قي بعض الأحيان الاحتفاظ بالحياد الفكر والتحليلي، عندما يكون الحدث الذي نكتب أو نتكلم عنه يمسنا في الصميم كمواطنين عرب نتحسس لآلام شعب شقيق تربطنا معه صلات وطيدة عدة من تراث حضاري وتاريخ طويل من الآمال والآلام تشكل البنية النفسية لكل منا، ولكن لابد من لجم العاطفة كي يتحرر المنطق العقلاني وينطلق الفكر يفتش عن مخارج نفسية تنقذه من أذى الخبر الإعلامي الذي بات طلبنا له اليوم مثل خبزنا ومأكلنا لا نستطيع الابتعاد عن شاشات التلفزيون حتى ننفرد بأنفسنا ونفكر بما حصل على الأرض لأي حدث نعيشه في هذه المنطقة سمعناه أو شاهدناه على الشاشة الصغيرة.
أما بعد أيها الزملاء والزميلات الأعزاء:
استكمالاً للقراءة النفسية للحدث السياسي الذي عاشته المنطقة العربية قبل ومع بداية السنة الميلادية الجديدة والذي بدأها الأستاذ الدكتور وائل أبو هندي وشارك فيها عدد من الأساتذة والزملاء النفسانيين من المغرب وفلسطين..، وفي قراءتي اليوم سوف أنطلق من المثل المصري الذي أورده الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي في تعليقه على "ظاهرة تونس" الذي أطلقها الدكتور وائل أبو هندي والمثل يقول: "دي مش دبانة، دي قلوب مليانة" لأضيف مقولة نفسية تحليلية تؤكد مخاطر الكبت والقهر وكبح الرغبات والحاجات التي نلمسها في عملنا العيادي عند المرضى الذين طفح الكيل بهم من ظروف قاسية متتالية أو تعرضوا لحدث صادم فجّر ما لم يكونوا يتوقعوه، قبل ذلك أبداً بالقاعدة النفسية التحليلية التي تؤكد على الخطورة من "عودة المكبوت" حيث لاشيء يضيع من الذاكرة، عودة المكبوت حالة يخشاها الفرد المأزوم، ويستغرب عمقها وأبعادها فتجده قلقاً فرحاً حزينا ساكناً؛
ردات فعله اختلفت لديه قبل وبعد الحدث الذي فجّر لديه قمقم مختوم فقد السيطرة على استخدام الكفوف عليه التي جربها من قبل وتجاوبت معه، هذه الحالة الاضطرابية الحدية حيث أصبح الزمن مقطوعاً إلى شقين قبل وبعد، زمن انتهى وزمن ابتدآ، منذ الحدث المفصلي الذي حرك طاقاته، والزمن كما تعلمون متصل لا يمكن أن ينقطع، له اتجاه واحد دائماً للأمام، لا يمكن أن يقف أو يرجع للوراء، فالأحداث الفاصلة دائماً يعلق عليها آمال وتصيبنا مرات أخرى بالويلات، وأذكر أننا كنا نسمع من جداتنا وأجدادنا وآبائنا.. أنه عند الحديث عن ذكرياتهم كان يتم ربطها بأحداث فاجعة أو أحداث طبيعية مثل سنة الثلجة الكثيفة، أو سنة الطاعون، سنة المُحل (بالعامية السورية) المحل يعني الموسم السيئ أو سنة هجموا الفرنساوية، أو يوم ضرب الطيران الإسرائيلي القنيطرة أو يوم خطاب عبد الناصر وغيرها........ بمعنى آخر الأحداث المؤثرة هي ميقاتية لنا لتنظيم حياتنا وكياننا النفسي.
أثناء الحرب العالمية الثانية كتب فرويد مقال لأنشتاين كجواب لسؤال كان قد سأله له العالم الكبير "أنشتاين" لفرويد، لماذا الحرب وسوف أرسل لكم هذا المقال في مرة تالية عندما أتكمن من طباعته، عسى قراءته من جديد تفيدنا في توليد بعض الأفكار، سؤال أنشتاين لفرويد لماذا الناس تتقاتل فيما بينها وهل لرجال الفكر والعلم قدرة على منع تلك الحروب المؤذية للإنسان وللبشرية بصورة عامة؟؟.
يجيب "فرويد" سنة 1933على هذه الرسالة بشيء من السخرية والتشاؤم كما يلي:
- أولاً: كل مفكر واع ومدرك لابد أن يكون مع السلم ضد الحرب رغم أن البشرية بحاجة بيولوجية إلى قدر معين من الآلام كما نسميها في اللغة التحليلية: ألم الوجود منذ الولادة حتى الموت.
- ثانياً: العنف لا يتوقف ما دامت الشعوب متفاوتة في مستواها المعيشي وما دام تقدير القيم يختلف ما بين الجماعات والأفراد وما دامت الكراهية تشحن النفوس بالعداء وتحثها على القتال، سيما تتغذى من مصادر نفسية عميقة.
- ثالثاً: مقاومتنا للعنف والحرب وعودتنا إلى السلم تبدو أضعف من الدوافع إلى إشعال الحرب والعنف والرغبة في كسبها ولو كان ذلك على حساب دمار وقتل الناس بمن فيهم الأبرياء.....
كما أن "لفرويد" مقولة هامة في هذا السياق هي: "الجغرافيا قدر الشعوب والجسد قدر الفرد" فلما كان الجسد هو الأرض المهيئة لتنبت فيها، وتتطور كل الاستعدادات بدءاً من الحركية إلى الحّسية إلى الذّهنية ليكمل النمو دورته ضمن خارطة الجسد، فعندما يفشل الجسد في أداء وظيفة لعضو ما من أعضائه ينعكس ذلك على باقي أعضاء الجسد وبمقارنة تعبيرات الجسد مع ما يجري على الأرض التي تستقر عليها جماعة بشرية في منطقة جغرافية معينة، فإن كانت جبلية أضفت عليهم سمات نفسية خاصة وإن كانت صحراوية بالطبع تتأثر الطباع بهذا المناخ الجغرافي العام والتاريخ الجغرافي يقدم لنا أمثولتين بارزتين لحضارتي:
1- أثينا (الساحلية) المنفتحة على الفكر والأب والفلسفة،
2- حضارة اسبرطة (الجبلية الوعرة) حضارة السيوف والمعارك، عرضت هذه الفكرة لأستعيرها في إيصال فكرتي حول العملية الانفعالية التي تتم من خلال التفاعل مابين الداخل والخارج، مابين الفرد والبيئة بكل مؤثراتها المكانية والزمانية وما بينهما من تاريخ مؤثر بصفحاته العدة من فخر وكدر، وركون وتردي..... فلما كانت مصر منطقة جغرافية وسطى في قلب الوطن العربي، لذا لا يخف على أحد أهمية تعبيرات نبضات القلب كمؤشر على السلامة أو الاضطراب، هذا العضو الوسط يكوّن نقطة الارتكاز والضخ لكامل جغرافية الجسد العربي وتعبيرات الوسط تتوزع على الأطراف، كما أن حساب النسبة المتوسطية يشكل معيارية لتقديراتنا ذات الدلالة عن أي ظاهرة أو سلوك ندرسه أو نقيمه، لتكون الدلالة فوق أو تحت المتوسط، لذا الوسط العربي والشرق المتوسط هو حالة جغرافية مركزية لأحداث كبرى تنشر أطيافها على كامل المحيط الجغرافي حولها، ومصر بسبب قربها من المتوسط وقربها من الخليج العربي وقربها من دول المشرق والمغرب العربيين؛
أوسطيتها هذه جعلتها نقطة مركزية منذ الفترات البعيدة من تاريخ البشرية لشعوب استقرت بها وأسست مدناً على الأرض وتشييد أعاجيب حضارية بديعة مازالت العين البشرية عاجزة عن أن تغض النظر إليها إلاّ باعتبارها وكما هي هرم راسخ من الرأس إلى القاعدة ثبات وتوازن على الأرض، حضارة الفراعنة حضارة تحدي مع الطبيعة حضارة ضد الموت وفكرة الخلود منطلقها تحدي مع المارقين على تلك الأرض، من هذه المؤثرات لاشك نجد هذه الأيام صلابة التعبيرات التي تجمع الشباب الغاضب لتعبر أصدائها أرجاء المنطقة، وما هو أبعد من هذه التعبيرات المسموعة والسلوكات المرافقة لحركية الشباب المصري المعتصم من (العصمة) أي رباطة الجأش أو الشباب المعترض على مدّ سلوكي، سمته وفق قراءتي النفسية تعود لتلك الكوابح المتعددة التي عاشها من قبل؛
الكوابح على وجوده الشخصي في المكان غير المناسب لقدراته واحتياجاته المختلفة من غير متحققة وأركز منها على الحاجات المعنوية وفق سلم ماسلو للحاجات المعروفة لحضراتكم، هذه الكوابح كان مؤداها الكبت والقهر وحسب القاعدة النفسية التي ذكرتها بدءا ّلمقالي "لما لاشيء يضيع من الذاكرة"، فإن الكوابح أو الكفوف المتلقاة على السلوك وصلت عند هؤلاء إلى ذروة لم يعد معها فعل الكبت ممكناً، بل طغى المكبوت على ساحة الشعور بعدما بدأ يأخذ طريقه في التعبير، عودة المكبوت إذن هي التي يُخشى منها دائماً إذ تتلاشى حدود الزمان والمكان، وتنصب الرؤية على الدافع الذي فعّل هذا التعبير الصارخ، ونتيجة ذلك تضطرب العضوية ولكن البريق الذي يظهر في الذهنية يبرز اشعاعه ليضئ الطريق للفرد بعد هدر الطاقة ليبصر منارةً تعكس له أفقاً أوسع من دائرة الجسد المحبط المتعب نتيجة كف الحاجات والرغبات، وتجعله يتحد بأفق أرحب يخفف عنه مخاض الولادة التي ينتجها الحدث من مخرجات الجسد (الأرض) والتي لاقت صداها مع صور مرحبة متقبلة في أماكن أخرى والتقت آمالهم مع آمال إنسانية مشروعة في كل مكان..
أما بعد أيها الزملاء والزميلات في أرضنا العربية وانطلاقاً من الشعار الذي أسس له في مؤتمر الخرطوم لتطوير خدمات الصحة النفسية في عالمنا العربي وذلك من خلال "ربط علم النفس والعمل النفسي بالحياة" أردت اليوم كمحاولة لذلك مشاركتكم هذه العبارات والأفكار وأرجو أن تلقى صدى مقبولاً أو تتفق مع رؤى زملاء وزميلات آخرين أو يطور لها لأن العلم بلا شك هو عملية تراكمية لأفكار من قبلنا ومن نعاصرهم ولمن سيأتؤن بعدنا ولعل الظروف المستقبلية تخدمهم للعمل النفسي أكثر مما نعيشه اليوم..
وبتقديراتي المتواضعة أجد أن معنى الأزمات عند الإنسان غالباً ما يفوق واقع الأحداث المرافقة للمواقف الذي يوجد فيها، حيث أنه من الخطأ الافتراض أن آثار الحدث الصدمي سوف تزول أو تذوب مع الزمن، لمجرد أن الإنسان يتقدم به الزمن بعيداً عن هذه الأحداث المأزمية، فعودة المكبوت أيها الأعزاء لا تعرف منطقية في الزمن ولا تعرف عدمية للحدث بل دائماً الرهان يكون على الحتمية السببية النفسية لفهم السلوكات الظاهرة عند الإنسان وفق المنهجية العلمية، للعمل النفسي التحليلي، حيث لا شيء يخلق من عدم ولاشيء يفنى من وجود وفقاً لمبدأ مصونية المادة القانون الفيزيائي الشهير..........
اسمحوا لي أن أضع ختاماً لمقالي هذا بعض الأفكار التي أخذتها من كتاب سيكولوجية الجماهير للكاتب الفرنسي الشهير غوستاف لوبون والذي كتبه في عام 1895م وهذه الأفكار هي كما يلي:
1- لقد لعبت الجماهير في التاريخ دائماً دوراً مهماً ولكنها لم تلعب هذا الدور بنفس حجم الأهمية الذي تلعبه اليوم، فالعمل اللاواعي للجماهير يمثل بعد أن يحل محل الفعالية الواعية للأفراد أحد خصائص العصر الحديث.. (كتاب سيكولوجية الجماهير ، ص41).
2- الجمهور النفسي هو عبارة عن كائن مؤقت مؤلف من عدة عناصر متنافرة متراصة الصفوف للحظة من الزمن، إنهم يشبهون بالضبط خلايا الجسد الحي التي تشكل عن طريق تجمعها وتوحدها كائناً جديداً يتحلى بخصائص جديدة مختلفة جداً عن الخصائص التي تمتلكها كل خلية (المرجع السابق ،ص56).
3- دور القادة يكمن في بث الإيمان سواءً كان هذا الإيمان دينياً أم سياسياً أم اجتماعياً، والإنجيل يعزو للإيمان قوة قادرة على زحزحة الجبال إذا ما تزود الإنسان بالإيمان تضاعفت قوته عشرات المرات... (مقدمة لكتاب سيكولوجية الجماهير بقلم المترجم هاشم صالح ، والكتاب عن دار الساقي ، 1997م).
4- الصفات العامة للطبع التي يتحكم بها اللاوعي والتي يمتلكها معظم الأفراد الطبيعيين لعرف ما هي بالضبط بنفس الدرجة تقريباً.. من خاصية الجمهور أنه يتبع كل شخص شبيهه والحشد الكبير يجرف الفرد معه مثلما يجرف السل الحجارة المفردة التي تعترض طريقه (المرجع السابق ).
5- منذ قرن فقط كانت السياسة التقليدية للدول والمنافسات الجارية بين الحكام هي التي تشكل العوامل الأساسية لتحريك الأحداث، ولم يكن لرأي الجماهير في الغالب الأعم أي قيمة، وأما اليوم فنلاحظ أن التقاليد السياسية والتوجهات الفردية للملوك والحكام والمنافسات الكائنة بينهم لا تؤثر على مسار الأحداث إلاّ قليلاً، فقد أصبح صوت الجماهير اليوم راجحاً وغالباً، فهو الذي يملي على الملوك والحكام تصرفاتهم ولم تعد مقادير الأمم تحسم في مجالس الحكام وإنما في روح الجماهير......... المرجع السابق
أخيراً أيها الزملاء والزميلات أقول:
"طوبى للفرحين الذين يصنعون فرحهم بعد الكدر والألم.."
محللة نفسية - سوريا
عضو المركز العربي للأبحاث النفسية التحليلية
واقرأ أيضاً:
ساخن من مصر أيام الغضب أحد الشهيد/ فزورة الثورة: العملاق الأعمى، والكسيح المبصر