(مفتاح الأزمة بين الشرطة والشعب)
كنت في بداية المرحلة الابتدائية ألعب مع رفاقي في ساحة أمام المدرسة وفجأة سمعنا صراخا مؤلما ومتألما يأتي من ناحية نقطة الشرطة القريبة من المدرسة فاتجهنا نحو مصدر الصوت ورأينا رجلا في منتصف العمر يظهر وجهه غارقا في الدم وهو يتعلق بقضبان غرفة الحجز ويستغيث بالمارة أن ينقذوه ولم يتحرك لنجدته أحد، ويقف خلفه رجلان شديدا القسوة والتجهم يجذبانه بعنف ويضربانه. هذا المشهد ظل يطاردني لسنوات خاصة وأنه تكرر بصور مختلفة في نفس المكان وحمدت الله أن أنهيت المرحلة الابتدائية حتى لا أراه وكنت أتجنب المرور من هذا المكان فيما بعد، وإن كان صوت الصراخ ما زال يتردد في أذني تصاحبه رائحة خاصة تنبعث من غرفة الحجز ما زلت أشمها كلما اقتربت من مركز للشرطة، وما زلت حتى هذه المرحلة من العمر أتفادى قدر الإمكان دخول تلك الأماكن.
نشطت هذه الذكريات بعد ذلك مع تجارب شخصية مؤلمة مع أحد فروع الجهاز الأمني في عصر مبارك أترفع الآن عن ذكرها حتى لا يتسع الجرح، فالوقت الآن هو وقت علاج وإصلاح لتلك العلاقة التي اضطربت بين جهاز الشرطة والشعب المصري في الحقبة المباركية حتى كانت أحد أهم أسباب تفجر ثورة 25 يناير 2011 م، حيث اختار الثوار هذا اليوم بالذات (والمفترض أنه عيد الشرطة) ليعبروا عن غضبهم وغضب الشعب تجاه ممارسات الشرطة، وكانت أيقونة الثورة صورة خالد سعيد الشاب السكندري الذي تعرض للتعذيب حتى الموت على يد بعض أفراد الشرطة، الذين ألقوه في الشارع بعد قتله ثم وضعوا في حلقه لفافة ولفقوا المحضر والتقارير لتكون الصورة أنه مات بأسفكسيا الخنق نتيجة محاولة ابتلاعه لفافة من البانجو (هكذا كانوا يفعلون في كثير من القضايا للأسف الشديد).
لم يكن خالد سعيد هو أول ضحية من ضحايا التعذيب حتى الموت في مصر بل لقد تكرر المشهد كثيرا (وآخرها موت سيد بلال تحت التعذيب في مقر أمن الدولة بالإسكندرية إثر أحداث كنيسة القديسَيْن، وللأسف لم يجد من يدافع عنه كما دافعوا عن خالد سعيد ربما لأن بلالا كان سلفيا متدينا وكأن هناك عنصرية حتى لدى المدافعين عن حقوق الإنسان)، ورصدت جمعيات حقوق الإنسان المحلية والعالمية انتهاكات صارخة للشرطة المصرية تحت مظلة قانون الطوارئ، ولكن حالة خالد سعيد أخذت حقها من الاهتمام على يد عدد من الشباب كونوا على الإنترنت مجموعة "كلنا خالد سعيد" والتي انضم إليها آلاف من الشباب المصري ونظموا وقفات احتجاجية صامتة بالملابس السوداء على كورنيش النيل والإسكندرية، وحشدوا الناس ضد التعذيب والتنكيل في مقار الشرطة.
وأصبح خالد سعيد مقابلا لبوعزيزي في تونس الذي أشعل النار في نفسه إثر تعرضه لقهر وإهانة من شرطية تونسية، ومن هنا نشأ الرابط في أذهان الشباب بين الدولة البوليسية التي سقطت في تونس، والدولة البوليسية التي يجب أن تسقط في مصر (وبهذا يصبح النموذج التونسي أحد أهم أسباب قيام ونجاح الثورة في مصر في نظر كثير من المحللين)، وكانت هذه الشرارة الأولى في الثورة، والتي مهد لها سلسلة من الإجراءات والأحداث أشعلت نار السخط في نفوس المصريين على سبيل المثال: التزوير الفاضح والمتبجح لانتخابات مجلس الشعب واستبعاد كل قوى المعارضة، وتورط جهاز الشرطة في ذلك بإيعاز من قيادات الحزب الوطني وعلى رأسهم جمال مبارك وأحمد عز وبرضا من مبارك الأب، إغلاق عدد كبير من القنوات الدينية ذات الجمهور الواسع والتي تحوي عدد كبير من الدعاة ذات الشهرة والتأثير، السطو على صحيفة الدستور وهي كانت بمثابة الصحيفة المستقلة فعلا وسط صحف أخرى شبه مستقلة أو نصف مستقلة أو مستقلة "كده وكده"، توحش رجال المال والأعمال في السطو على أراضي الدولة ومصانعها وشركاتها والتي هي ملك للشعب في الأساس، انتحار أكثر من ثمانية مصريين حرقا أمام مجلس الشعب وأجهزة حكومية أخرى في مدى أسبوع واحد احتجاجا ويأسا.
ويكتمل المشهد في الصراع الدامي بين الشرطة والشعب أثناء المظاهرات التي بدأت في 25 يناير 2011م، حين صبت الشرطة على جموع المتظاهرين كل ما لديها من وسائل القمع من قنابل مسيلة للدموع ورش مياه مجاري والضرب بالرصاص المطاطي والخرطوش والرصاص الحي مما نتج عنه قتل ثلاثمائة وجرح خمسة آلاف من أنبل وأجمل وأروع شباب مصر، وهنا دخلت الأمور في مرحلة اللاعودة إذ أدرك الشعب المصري أن النظام وجهازه الأمني في حالة عداء شديد معه، ولابد أن يسقط هذا النظام، وقبل أن يسقط النظام تهاوى الجهاز الأمني واختفى من المشهد بشكل مفاجئ ومحير وترك شوارع المدن والقرى بلا أمن لعدة أيام، وكأنه يعاقب الشعب الذي رفضه وقاومه، أو ينتحر يأسا وغضبا.
وبالطبع يرد بعض رموز الشرطة بأن الانسحاب كان مدفوعا بالرغبة في تجنب مواجهات دامية مع الشعب، وهذا أمر غير منطقي لأن ذلك ربما ينطبق على أماكن التظاهرات فقط ولا ينطبق على رجال المرور وحراسات الكنائس والشوارع والأسواق. وقد تأكد اضطراب العلاقة بين الشرطة والشعب في توجه أعداد من المتظاهرين نحو مراكز الشرطة ومقار أمن الدولة والسجون لمهاجمتها وإخراج من فيها وإشعال النار بها، وهذا وإن كان أمرا مرفوضا ومستنكرا من كل العقلاء إلا أنه يعكس مدى الخلل الذي وصلت إليه تلك العلاقة.
ولم تتوقف سلبيات جهاز الشرطة على الاستغراق والتفاتي في الأمن السياسي مع الإهمال الواضح والشديد في الأمن الاجتماعي، ولكن أصبح من المعتاد السماع عن عمليات التلفيق للقضايا، واللجوء لأساليب الضغط والابتزاز في التعامل مع الأشخاص والأحداث، والتحالف مع البلطجية وأرباب السوابق واستخدامهم كأسلحة في الانتخابات وفي تصفية الحسابات مع المعارضين، مع التراخي في تنفيذ الأحكام وتطبيق القانون، إضافة لتفشي الرشوة والوساطة والمحسوبية.
واصطفت عربات الأمن المركزي حول الجامعات والنقابات وكأنها تحاصر عقول مصر ومفكريها، وكلما هبت مجموعة من الشباب أو المعارضين تعلن عن رأيها في أي شارع أو ميدان تتصدى لهم جحافل الأمن المركزي لتعطي صورة بأنها الحاجز الأسود الذي يحول بين الشعب وبين التغيير لنظام فسد وفاحت رائحته، وكأن قوات الأمن المركزي أصبحت جيشا ضخما يحمي فساد السلطة ويتسلط على الشعب رغم أن الشعب يدفع لجهاز الشرطة عشرين مليار جنيه يقتطعها من قوته لكي يحميه هذا الجهاز ويحقق مصالحه فإذا به يحقق مصالح الرئيس وحزبه ونجله ويوفر الاستقرار والدعم لنظام فاسد يعمل طول الوقت ضد المصالح الوطنية.
ولا ينسى أحد الدور السلبي الذي لعبته وزارة الداخلية في عصر مبارك في السيطرة على كل أوجه الحياة في مصر وفي التدخل في تعيينات الخفراء والموظفين والمعيدين والعمداء ورؤساء تحرير الصحف والوزراء، ولا ننسى التقارير الأمنية التي أدت إلى استبعاد الشرفاء من كل منصب قيادي وإتاحته لعناصر هزيلة فاسدة لمجرد أنها تابعة وخاضعة للأمن أو منتمية للحزب الوطني، وقد فرّغ ذلك أغلب أو كل المواقع من الكفاءات والعناصر الشريفة، بل إن الأمن كان يمنع التحاق أي شخص له ميول دينية بالشرطة أو الجيش أو الوظائف القيادية، وهذا ظلم شديد وعنصرية في التعامل مع فئات الشعب المختلفة وكأنه ينزع الوطنية عن المتدينين أو أصحاب التوجهات السياسية المختلفة مع توجهات الحزب والحكومة.
ونظرا للفشل الذريع لنظام مبارك على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ونظرا لضيق أفق هذا النظام وضعف إمكاناته وملكاته فقد لجأ إلى الحل الأمني يواجه به كل مشاكله، وأوكل إلى الأمن كل ملفات الوطن، وقد وضع هذا ثقلا كبيرا على الجهاز الأمني مما جعله ضيق الصدر متوترا عصبيا وعنيفا، كما وضع الجهاز الأمني في مواجهة وخصومة مع الشعب، إذ كان الجهاز الأمني يتحمل كل أوزار النظام، ولهذا تراكمت المشاعر السلبية تجاهه كما لم تتراكم تجاه أي مؤسسة أخرى، وحدث شرخ كبير بين الشرطة والشعب، وخلق صورة ذهنية سيئة عن وزارة الداخلية كانت أسوأ ما تكون في عهد حبيب العادلي الذي أضاع كل شيء في سبيل الحصول على رضا سيده القابع في منتجع شرم الشيخ أو قصر العروبة أو لجنة السياسات أو الحزب الوطني.
هذا الشرخ الهائل أثر كثيرا في نفوس رجال الشرطة، ومنهم الكثير من الشرفاء والمخلصين الذين سهروا وتعبوا وحرموا من الاستقرار العائلي بسبب طبيعة وظيفتهم، وهم يتساءلون: ما ذنبنا نحن نؤخذ بأخطاء النظام وأخطاء بعض المنتسبين لجهاز الشرطة والذين هم "عبد المأمور"، ووظيفتهم تحتم عليهم طاعة الأوامر وتنفيذها؟.
وهنا يكمن أصل الداء، فعلى الرغم مما يحاط به ضباط الشرطة وربما أمناء الشرطة من هالة السلطة وصولجانها، وأن الناس يعملون لهم ألف حساب ويهابونهم، وينادونهم بلفظ الباشا، إلا أنهم من ناحية أخرى يشعرون بأنهم ينفذون الأوامر والتعليمات القادمة من المأمور، والمأمور ينفذ تعليمات المأمور الأعلى، وهكذا حتى يصل الأمر إلى وزير الداخلية الذي هو بدوره ينفذ توجيهات وتوجهات قيادات الحزب الوطني ومن فوقهم رئيس الجمهورية.
وهذا يحدث شرخا نفسيا كبيرا إذ كيف يتسق كون الضابط باشا وعبدا للمأمور في ذات الوقت؟. وللأسف الشديد فإن هاتين الكلمتين سادتا بقوة في أوساط الجهاز الأمني المصري، وأصبحتا من مفرداته، وهما كلمتان بغيضتان مسكونتان بمعان سلبية، فكلمة باشا توحي بالتعالي والسلطة المطلقة والتحكم فيمن هو أدنى والتصرف في الأجراء والعبيد الذين يملكهم، بينما كلمة عبد المأمور فهي تعني الامتثال الأعمى لأوامر المأمور، وتعني فقد القدرة على التفكير الراشد الواعي، وتعني الانسحاق أمام سطوة المأمور.
هذه التركيبة النفسية المتناقضة يواكبها تناقضات أخرى مثل أن ضابط الشرطة يستشعر مكانة سلطوية كبيرة بحكم وظيفته وبحكم المناخ الذي جعل رجال الشرطة هم رجال المرحلة وقد رفعهم المناخ البوليسي السائد فوق جهات سيادية أخرى، ومع هذا نجد مرتب رجل الشرطة الشريف لا يسد احتياجاته في زمن توحشت فيه الأسعار وزادت فيه المطالب، وينظر من حوله فيرى رجال الأعمال الذين يبجلونه (نفاقا واسترضاءا وطمعا) يعيشون في ظروف أفضل منه بكثير ويتمتعون بكل المزايا.
ولم تعد وظيفة ضابط شرطة كما كانت من قبل، إذ تحيطها من ناحية ظلال من التعالي والتعدي بسبب ممارسات نفر من المنتسبين للشرطة، وتحيطها من الناحية الأخرى الضعف النسبي للمرتبات (على الرغم من المكافآت والامتيازات غير المباشرة التي يحصل عليها البعض وليس الكل)، وقد ظهر ذلك في الفترة الأخيرة في عزوف بعض الأسر عن تزويج بناتها لضباط شرطة، وفي شكوى وتذمر عدد غير قليل من الضباط من ظروف عملهم وأحوالهم، ونظرة المجتمع لهم.
كانت هذه بعض الأسباب في تكون صورة سلبية لرجال الشرطة لدى الشعب للدرجة التي أحدثت شرخا كبيرا في العلاقة بين الشرطة والشعب تجسدت بشكل مروع في أحداث ثورة 25 يناير، إذ ظهرت الشرطة بصورة قمعية وحشية تحاول وأد حركة الجماهير المصرية نحو التحرر من نظام فاسد ربض على أنفاس الشعب ثلاثين سنة؟. وربما يأتي الرد التقليدي: إن الشرطة جهاز يتبع السلطة التنفيذية وتصدر له الأوامر فينفذها. وهذا تبرير غير مقبول يجعلنا نعود إلى فلسفة وظيفة الشرطة وكيف تشوهت هذه الوظيفة على يد النظام البائد الذي أفسد كل شيء في حياتنا حتى الأجهزة الوطنية التي كان من المفترض أن تكون في خدمة الشعب فتحولت بحكم الظروف الخاطئة إلى خدمة النظام وخدمة الرئيس.
إن المناخ العام لحقبة مبارك والذي أكده ورسخه قانون الطوارئ الممتد والمتمدد على مدى ثلاثين عاما هو تعطيل القوانين العادية والعمل بقانون الطوارئ الاستثنائي ذلك القانون الذي منح رجال الشرطة سلطات مطلقة، وكما هو معروف فإن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، كما أن قانون الطوارئ يعطي لرئيس الجمهورية ولوزير الداخلية سطوة هائلة تتجاوز حدود القانون، وبما أن هذين الشخصين يتحكمان في جهاز الشرطة وفي غيره من الأجهزة فقد تحول جهاز الشرطة إلى تنفيذ إرادة الرئيس وإرادة الوزير وربما إرادة الحزب الوطني وقياداته، وهنا انحرف هذا الجهاز في عهد مبارك عن رسالته ورسالة أي جهاز شرطة في أي دولة محترمة وهي احترام القانون والقيام على تنفيذه.
واحترام القانون والقيام على تنفيذه يجعل جهاز الشرطة جهازا وطنيا محايدا يرعي مبادئ القانون والدستور، ويكون ولاؤه لذلك، وتكون مهمته في النهاية خدمة الشعب الذي وضع القانون والدستور من أجل تنظيم حياته، وهذا يحمي جهاز الشرطة من أن يكون عبدا للمأمور، أي مأمور، لأنه في الحقيقة ليس عبدا ولا باشا، وإنما هو قائم على تنفيذ القانون وتحقيق الأمن والأمان، وهو بالتالي ليس أداة تحركها أهواء شخص أو أهواء مجموعة أو أهواء حزب.
وهذا هو المدخل الأساسي الذي ندعو وزارة الداخلية في عهدها الجديد بعد الثورة أن تتبناه حتى يعود جهاز الشرطة جهازا وطنيا محايدا (مثل القوات المسلحة) لا يستطيع شخص أو حزب استخدامه لتحقيق أهدافه أو مصالحه، ولا يستطيع أحد استخدامه لقمع الشعب أو ترويعه أو تركيعه. وحسنا فعلت قيادة وزارة الداخلية الجديدة حين أعادت شعار "الشرطة في خدمة الشعب" ووضعته في لافتات كبيرة علقتها على مديريات الأمن، وهذا الشعار يعكس الوظيفة الأساسية لجهاز الشرطة ويعيد لهذا الجهاز احترامه وتقديره، ويعيد العلاقة الإيجابية المطلوبة والضرورية جدا بين الشعب وأبنائه من العاملين في هذا الجهاز الحيوي والمهم.
وربما يعكس تغيير الشعار في عهد الوزير السابق حبيب العادلي اضطراب توجهات جهاز الشرطة في عهد مبارك، حيث كان الشعار "الشرطة والشعب في خدمة الوطن"، وهو شعار ملتبس وملتو، وكنت دائما أقرأه على النحو التالي "الشرطة والشعب في خدمة الرئيس"، إذ كانت كل الشواهد تشير لذلك، فكل إمكانات البلد كانت موجهة لاستمرار الرئيس مبارك في الحكم وتهيئة الظروف لاعتلاء ابنه جمال كرسي الرئاسة خلفا لوالده بعد عمر مديد.
وثمة رغبة لدى الحكومة الجديدة ووزير الداخلية الجديد في رأب الصدع الذي حدث بين وزارة الداخلية وبين الشعب، وهذه رغبة محمودة ويجب أن يساعد في تحقيقها كل المخلصين من أبناء هذا البلد خاصة وأن هناك حاجزا نفسيا هائلا تكون على مدى ثلاث عقود شوه فيها نظام مبارك وظيفة الشرطة والصورة العامة للشرطة حين استخدموها أو بالأدق استخدموا بعض فصائلها في تزوير الانتخابات وتمكين الرئيس وابنه وحزبه من رقاب الشعب المصري الصابر، واستخدموا بعض أفراد هذا الجهاز في التعذيب حتى الموت، وكانت الروح السائدة هي الاستهانة بهذا الشعب والاستهتار بحقوقه، وسحقه وإذلاله.
وإذا صدقت النية في الإصلاح فلتكن البداية هي تنقية هذا الجهاز من كل الرموز التي أساءت إليه وشوهت صورة الشرفاء فيه، تلك الرموز التي أشاعت روح الاحتقار للشعب، والتي تربى على أيديها ضباط يستخدمون لغة يعف القلم عن إيراد نماذج منها، وأصبحت هي اللغة المعتمدة في كثير من مراكز وأقسام الشرطة، ودلالة هذه اللغة أنها تعكس احتقارا للمترددين على هذه الأماكن من أفراد الشعب، والمفترض أن هذا الجهاز هو جهاز يلتزم بضوابط القانون حتى مع أعتى المجرمين، وليس في القانون مواد تتيح للضابط أو أمين الشرطة أو الجندي أن يسب أو يشتم أو يضرب أو يعذب أو يقتل شخصا تحت الاشتباه أو التحقيق.
وهذه هي النقطة الأساسية التي نريد أن يتربى عليها الضباط الجدد وهي احترام هذا الشعب والتعامل معه بشكل لائق، وتبني نموذجا أخلاقيا يليق بهذه الوظيفة المحترمة. ويعرف هذا الأمر من تعامل مع أجهزة الشرطة في دول العالم المتقدم حيث أقسام الشرطة تبدو نظيفة وأنيقة، ويوجد دائما مكان محترم مهيأ للانتظار، ويوجد كرسي يجلس عليه طالب الخدمة أو المتهم، وينادونه باسمه مسبوقا بكلمة سيد (وليس كما يحدث عندنا حين ينادون شخصا كبيرا بكلمة "ياله" و"يابن ال......")، ولا يمكن أن تجد ضابطا أو جنديا يتلفظ بلفظ قبيح.
وعملية الإصلاح تستدعي تدريب الضابط على استخدام عقله في البحث عن الأدلة وتتبع المجرمين ولا يستسهل الوصول إلى ما يريده بالضرب والإهانة والتعذيب، وتربيته على احترام القانون في كل الظروف، وأن مكانته وهيبته واحترامه يكمنان في احترام القانون والقيام عليه. ويستدعي الأمر أيضا عدم التستر على أي مخالفات للعاملين بجهاز الشرطة مهما علت رتبتهم لأن هذا يتيح الفرصة للتخلص من أي عناصر قد تسئ إلى الصورة العامة للشرطة أو ترسخ لصورة ذهنية سلبية كما هو حادث الآن. ولا ننسى محاسبة من استوردوا أجهزة للتعذيب ودفعوا ثمنها من قوت هذا الشعب، وأن يتم محاكمة كل من تورط في توفير تلك الأجهزة في مقار الشرطة، فهي دليل إدانة للجهاز بأكمله.
وقد يستدعي الأمر عمل دورات ومحاضرات لطلبة وضباط الشرطة بواسطة علماء نفس وعلماء دين ومتخصصين في حقوق الإنسان وعلماء اجتماع سياسي بهدف زيادة الوعي بالعلاقة الصحية والسوية بين ضباط الشرطة والمجتمع، والتركيز على فلسفة عمل جهاز الشرطة وعلى وطنيته وحياده، وعلى اكتساب مهارات شرطية تغني عن استخدام العنف في الوصول إلى الأدلة والاعترافات كما هو متبع في بلاد العالم المتقدم. وفي هذه الدورات والندوات وورش العمل تعطى الفرصة للعاملين بالشرطة للتنفيس والتعبير عن مشاعرهم التي تراكمت إبان الفترة التي اضطربت فيها علاقتهم بالشعب، وأن تتم مناقشة تلك المشاعر والتنقيب عن دواعيها وأسبابها وكيفية معالجتها والتعافي من آثار ما حدث في 25 يناير 2011م حيث عرّض النظام جهاز الشرطة لمواجهة غير أخلاقية وغير منطقية وغير مهنية وغير متكافئة مع جموع الثوار انتهت بانسحاب مفاجئ وربما مهين واختفاء لعدة أيام خلع فيها أفراد الشرطة ملابسهم الرسمية خوفا من انتقام الناس.
هذه الأحداث المأساوية تتناقض كثيرا مع ذكرى ما حدث من ثبات قوات الشرطة أمام قوات الإنجليز في الإسماعيلية قبل ثورة يوليو واستشهاد عدد كبير منهم مما استدعى أن يكون 25 يناير عيدا للشرطة في كل عام. هذه الذكرى قد تأثرت بما حدث عكس ذلك في 25 يناير 2011م حين زج بالشرطة لقمع الثورة وما حدث من تداعيات مشينة بعد ذلك أعتقد أنها أثرت كثيرا على صورة رجال الشرطة عن أنفسهم وعلى صورتهم لدى الشعب مما يستدعي وقتا وجهدا للتعافي من كل تلك الآثار السلبية.
وبالتوازي مع ذلك يحتاج المجتمع إلى زيادة الوعي بأهمية جهاز الشرطة، وبحقوقه وواجباته، وبأهمية التعاون مع هذا الجهاز الهام للوصول إلى تحقيق الأمن وتطبيق القانون الذي هو ضمانة استقرار المجتمع، كما يلزم التحذير من التعميمات تجاه كل أفراد الشرطة بناءا على تصرفات سلبية من بعضهم فمما لاشك فيه أن كل منا يعرف الكثيرين منهم يقومون بعملهم بكل شرف وأمانة والتزام بالقانون، وهم يضحون بوقتهم وصحتهم في سبيل أداء وظيفتهم، ويحرمون كثيرا من الجلوس مع أسرهم نظرا لانشغالهم الطويل في مهام صعبة وخطرة، وبعضهم قد تتعرض حياته للخطر بسبب طبيعة المهنة.
وفي النهاية نؤكد على وضع الضمانات الدستورية والقانونية التي تجعل جهاز الشرطة مستقلا ومحايدا حتى لا يقع فريسة مرة أخرى لتنفيذ أطماع وأهواء شخص أو مجموعة أو حزب، وأن يكون حقا في خدمة الشعب، وأن نتجنب العوامل التي تؤدي إلى تضخم ذات رجال الشرطة حتى يصبحوا باشوات، وأيضا العوامل التي تجعلهم في وضع عبد المأمور.
واقرأ أيضاً:
فلترحل سيدي الرئيس: الآن، وليس بعد/ العقل الجمعي المصري يقود الثورة