كان لابد في رأيي من التوقف عن الكتابة والوقوف للتأمل قليلا بعدما تلاحقت الأحداث واضطرمت المشاعر على مدى ثمانية عشر يوما كنت أداوم فيها على الكتابة ما يوميا قدر استطاعتي.... اعترف الفرعون بأن شعبه انتصر عليه... لأول مرة في التاريخ أسقط الشعب الفرعون... وكان من الواضح رغم كل شيء أن كثيرين وكثيرين من المصريين لم يكونوا يتوقعون ذلك... فرغم أن الهتاف الذي أصبح بمثابة الشعار كان الشعب يريد إسقاط النظام ثم أصبح الشعب يريد إسقاطط الرئيس ثم تطور العناد بين الفرعون وشعبه حتى وصلت الأمور ما وصلت، ورغم أن كل محاولات تنفيذ مطالب الناس مع الإبقاء على الفرعون فشلت ووصلت المأساة حد رفع الأحذية على أيدي المتظاهرين عاليا في ميدان الشهداء فيي إشارة مزلزلة في وقعها كرد فعل على كلمته لهم، وهو مشهد سجله التاريخ لأول مرة.... رغم كل ذلك الإصرار على تنحي مبارك يبدو أن فورة المشاعر والأفكار التي عاشتها مصر كلها أنست الغالبية منا استيعاب سقوطه الذي هو الهدفف الواضح والراسخ للثورة... لم يكن معظم الناس في مصر جاهزون لاستيعابه استيعاب سقوط فرعون مصر على يد شعبه.... وأنا بمنتهى الصدق كنت واحدا من هؤلاء!... لذلك سكت عن الكتابة مرغما لا بطلا.
كنت أيضًا أخاف وما أزال على الثورة وشبابها وعلى مصر وأهلها من الثورة المضادة التي يمكن أن تجهض ثورة الشباب.... وكان لديّ قلق من الغموض الذي أحاط بنا في الأيام الأولى لسقوط الفرعون فلم تكن بيانات المجلس العسكري تشفي كل غليل،.... لم ينتهي خوفي ولا قلقي ولا زال الغموض لكن الشباب المصريين يفاجئونني كل يوم بأنباء طيبة تضج الروح فرحا بها وانتشاءَ... بالشكل الذي لم أعد أتحمل فيه عدم الكتابة...... حين رأيت الأولاد والبنات من شبابب الثورة ينظفون ميدان التحرير أبكتني فرحتي وشعرت بالفخر والجمال وقلت في نفسي بسم الله ما شاء الله هل هؤلاء أولادنا؟ إنهم يرتجلون فيبدعون سلوكيات يقف العالم مشدوها بها.... خاصة على خلفية الحقبة المباركية التي ذاع فيهاا صيت شوارع مصر كواحدة من أكثر شوارع العالم اتساخا وانحط الذوق العام بشكل مخجل غير مسبوق في تاريخ مصر.....
وكأن الشباب بذكائهم الفطري أدركوا أن مصر التي عايشوها متسخة الشوارع في كثير من مدن مصر وقراها مع بعض الاستثناءات... مصر التي وصفها لها أصحابهم الأجانب وأطفال ذويهم من المقيمين في الخارج بأنها "ديرتي جدا" أو "ديرتي كثير".... عرفوا أنها ليست هي مصر الحقيقة وأن الاتساخ الذي وصم شوارعها كان جزءا من النظام الذي أسقطوه.... أو لعلهم أحبائي تصرفوا هكذا من طول ما أشعرهم هذا الاتساخ بالخزي من مصر مقارنة بأيٍّ من الدول، فكانتت محاولة نفض هذا الاتساخ هذا تبدأ من ميدان التحرير ثم تنشر في مصر كلها بالضبط مثل نفض مبارك ونظامه، والذي يجب أن يستمر وأن يشتد منعا لأي محاولات لاستبقاء بعض أذناب أو أضلاع النظام.
شباب ثوار ينظفون مكان ثورتهم، هكذا ربما رآها المراقبون وربما فسروها وربما بغير هذه الطريقة... ولكن يبقى السلوك سلوكا مصريا خالصا أذهل العالم فهذه الثورة الأولى في التاريخ التي يبدأ الثوار فيها بعد انتصار ثورتهم بتنظيف مكان الثورة، نطقت الألسنة الشهيرة وقالت كلمات رفعت رأس المصريين كلهم... وانهالت صيحات الإعجاب من مغارب الدنيا ومشارقها.... ثم فاجأنا شباب الثورة بأنهم ينوون تنظيف مصر كلها وبدأت المجموعات الشبابية في كل أنحاء مصر كلل مجموعة تتولى تنظيف حيها وربما أكثر من حي... وكان هذا عملا تطوعيا يتداعى له الشباب والصبايا في كل مدن مصر، وكان لذلك وقع جميل في نفوس الناس -خاصة في ظل الغياب المتعمد والمريب لعمال مجلس المدينة المنوط بهمم تنظيف المدينة من مدن مصرية كثيرة- الناس كلهم متفائلون، وبدأ بالفعل تغيرهم للأفضل... وها هي الشوارع في أكثر من مدينة أصبحت أنظف بشكل لافت للنظر.... أولادنا يقومون بتنظيف الشوارع.... أزاح الله الغم واليأس عن قلوب الناس،، ولا أظن الارتباط والتوازي والتصاحب الذي لم يكن مقصودا بين تنحي مبارك منفوضا من شعبه وبين نفض الاتساخ إلا ترتيبا ربانيا صدر عفويا عن الشباب.
هل سأشهد خلال أيام مصر النظيفة؟ التي لم أشهدها منذ سنوات مراهقتي؟ الحقيقة أن النظافة في المدينة المصرية بشكل عام تدنت بعد سنوات من حكم مبارك ولم تكن المدن أو الأحياء التي يهتم بنظافتها غير المكشوفة للمسئولين أو السائحين الدبلوماسيين من أحياء القاهرة والإسكندرية والمدينة التي منعنا من حبٍّ مفتوح لها بسبب وجود مبارك شبه الدائم فيها أي شرم الشيخ، ثم بعض الأحياء الاستثنائية في بعض المدن التي ربما يكون فيها رئيس مجلس مدينةة أو محافظ يعاني من وسواس النظافة!..... وبالفعل فاجأني مجهود ملحوظ من الأبناء والبنات في الزقازيق وأن كانت النتائج بدت أوضح حين دخلت القاهرة فمنذ المرور على مدينة السلام شعرت أن شيئا مختلفا حدث ولم يبق الشعور طويلاا وعرفت أنها كمية التراب والنفايات المجاورة لرصيف الإسفلت وقد تقلصت جدا أو اختفت بشكل لافت للنظر، واستمر ذلك في كل شوارع القاهرة.
وعندما بدأت أقرأ عن حملة ادهن رصيفك التي انطلقت على الفيس بوك شعرت بمشاعر جياشة أبكتني ودخلت لأكتب على تلك الصفحة: أحبائي شباب الثورة.... منذ طفولتي وحتى كهولتي وأنا أرى دهان أرصفة أي شارع في مصر هو تقليد روتيني يكذب به مجلس المدينة على مسئول مهم سيزور تلك المدينة سواء كان رئيسا أو وزيرا أو رئيسة (أقصد حرم سيادة رئيس)... وكلنا كنا نكتفي بمصمصة شفاهنا والحزن على أحوالنا... لكنني للتاريخ أقول: ثورتكم ثورة شبابب مصر جعلت مصر التي نعرفها تتزين لأول مرة لأجل ناسها وأهلها كلهم، وليس فقط لأجل المسئولين.... أبقوها هكذا دائما... فهذا ما يليق بها، أحبائي شباب الثورة.... أحييكم من كل خلية في جسدي وكل نور في روحي...
فرق كبير جدا أحسه بين أن تتجمل أرصفة شوارع مصر لأن أحد المسئولين أو الزائرين الأجانب سيمر بها وأن تتجمل لأن كل المصريين يرونها،..... وما أكاد أفيق من تأملاتي في شكل أرصفة الشوارع المدهونة بالأبيض والأسود... حتى أرى الدعوات المتتالية على الفيس بوك حملة لعدم إلقاء المهملات على الأرض حفاظا على النظافة وحملة إعادة بناء مصر وحملة إزاي نعمر مصر وصفحة "مصري وأعتز بلغتي" وغير ذلك كثير!
ما الذي حدث في مصر وفي نفوس المصريين؟ ما الذي يجعلهم يتصرفون –خاصة شباب الثورة- بشكل دائما يفوق توقعاتنا... أنا الآن أشد إيمانا أن عين الله ترعى مصر... فما حدث كان شرفا منحه الله لنا في أولادنا الذين لم نعطهم فأعطاهم سبحانه وتعالى وعوض عنا ما قصرنا فيه وبارك لنا فيه، وشرفا منحه الله لنا في آبائنا وأمهاتنا الذين نزلوا مع أولادهم وبناتهم أو تركوهم ينزلون، ثم منحه لنا في أخوتنا وتآخينا مع أقباط مصر الذين تزوج منهم الحبيب صلى الله عليه وسلم،، إن رعاية الله لهذه الثورة جلية ليس فقط لمن عاشوا علامات ذلك في ميدان الشهداء - التحرير سابقا- وإنما هي جلية حتى للمتأمل في ردود أفعال الثائرين وعموم الشعب..... لقد قلت مبكرا أن ثورة 25 يناير 2011 أخرجت من المصريينن أجمل وأسمى ما فيهم ومن النظام أقذر وأحقر ما فيه... وما تزال!
واقرأ أيضاً:
ساخن من مصر: أيام الغضب الأربعاء/ ساخن من مصر: أيام الغضب جمعة الزحف