أدمنت التفوق والتميز منذ طفولتي وتعودت على نظرات الإعجاب والاندهاش تحوطني وأنا أفعل ما يعجز عنه أقراني، وأصبح ذلك مصدر لذة خاصة لي. التحقت بكلية الهندسة وكنت من بين الطالبات القلائل في هذه الكلية التي كانت قاصرة في ذلك الوقت على الذكور نظراً لخشونة الدارسة وخشونة العمل في مجالاتها ولكني تركت الكلية بعد حادثة لا أود ذكرها وحولت إلى كلية الفنون الجميلة وأحسست أنني وجدت نفسي حيث اكتشفت حبي للجمال في الكون وفي النفس البشرية فرحت اكتشفه في كل شيء أصادفه أو يصادفني وكانت فضيلتي الدهشة والانبهار لا تفارقاني لحظة.
بالمناسبة أنا شخصية "وثابة" "فوارة" لا تهدأ ولا تستكين ... "ثورية".. "متوحشة"... أشعر أن لروحي قوة جذب هائلة تحتوي من أمامي سواء كان رجلاً أم امرأة ، وهذا يستدعي مني أحياناً الابتعاد قليلاً أو كثيراً حتى لا أتورط أو أورط من أتعامل معه في الوقوع في منطقة الجذب الهائلة لهذه الروح "الجاذبة" "الآسرة" "المتوحشة".
أما عن علاقتي بجسدي فهي علاقة غريبة فكثيراً ما أنسى وجوده، وإذا حدث وانتبهت إليه فإنني أستغربه وكأنه ليس جسدي، وأنا أستخدمه كالآلة في خدمة روحي الطاغية ولذلك أطوعه كيف أشاء ولا أذكر أنه استطاع أن يتمرد عليّ في أي وقت من الأوقات.
وأنا كما تعلم – من أسرة متدينة محافظة، وكان أمل والدي – رحمه الله – أن يملأ جوفي بالقرآن كي يحفظني في حياتي ويكون نوراً لي في آخرتي، ولكنني لم أستطع تحقيق هذا الأمل، بل كنت متمردة على الحفظ وكان لي رأي لم يوافقني عليه من حولي وهو أن القرآن هو كتاب الله المقروء وأن الكون هو كتاب الله المرئي والمسموع والملموس، وأن كل إنسان ميسر لنوع خاص من الاستقبال، وأنا شخصياً أجيد الرؤية والسماع واللمس لآيات الكون الممتد.
وحين انتهيت من دراستي الجامعية تقدم إلى شباب كثيرون من أهل بلدتي من أكبر العائلات، ولست أدري لماذا كنت أرفضهم، إلى أن تقدم لي شاب مغمور من أسرة رقيقة الحال، ليس هذا فقط بل من أسرة منبوذة اجتماعياً بسبب خطيئة اقترفتها أمه وتسببت في قتلها في ظروف. غامضة أحسست بالتعاطف مع هذا الشاب المنبوذ واستيقظت بداخلي روحي الثورية لتندد بكل الفوارق الاجتماعية التى صنعها البشر وقررت دون تردد الزواج منه.
صدمني في أول ليلة بشكوكه في عذريتي وواصل شكوكه في انتساب أطفالي إليه، حاول تقليص مساحة حركتي شيئاً فشيئاً، استجبت له كثيراً حفاظاً على استمرار أمومتي وأخذت عهداً مع الله أن أصبر على أذى زوجي لي في مقابل أن يحفظ لي ولدي .
إنني أشعر بالمرارة الشديدة كلما تذكرت كيف تحملت من زوجي كل هذه الإهانات على مدى سنوات كثيرة فقد كان كل همه أن يقلل من شأني ومن شأن أسرتي، فكل ما أقوم به تافه ولا يستحق الاهتمام، وكل ما أفعله للأسرة وله واجب لا أستحق عليه الشكر بل هو أقل بكثير مما يجب أن أفعله.
رحت أقرأ في الكتب عن كيفية معاملة الزوج لعلني أصل إلى طريقة تصلح ما بيننا فوجدت أن الرجل يحتاج أكثر ما يحتاج أنوثة المرأة ودلالها، واعترفت بيني وبين نفس أنني كنت مقصرة في هذا الجانب نظراً لاهتمامي برعاية أسرتي وتعويض تقصير زوجي في أمور كثيرة حتى أن بعض صديقاتي كن يصفنني بأنني أصبحت "مسترجلة"، وفي الحقيقة لم أكن أضيق بهذا الوصف رغم أنه جارح لأي امرأة لذلك .
قررت أن أتغير لعل ذلك يغير معاملة زوجي لي فبدأت أهتم بملابسي وزينتي وأنتظر لحظة قدومه لألقاه خلف الباب وأنا في كامل زينتى ولكن للأسف كنت ألقى منه إهمالا موجعاً فما يكاد ينظر إليّ، وإذا نظر فإنه يسخر من هذا التغيير الذي طرأ على مما يشعرني بإهانة بالغة، فكيف أقضي وقتاً طويلاً في التزين لسيادته ثم يلقاني هو بالإهمال أو السخرية، على الرغم من أنني كنت أحظى بنظرات الإعجاب من كثير من الرجال من حولي ولكن القيم الأخلاقية والدينية التي تربيت عليها كانت تجعلني أرفض هذا، وفي نفس الوقت أتمنى نظرة الإعجاب من زوجي وأسعى إليها فلا أجدها.
ولست أنسى ما حييت معاناتي في العلاقة الزوجية الخاصة، حيث كانت تفتقد إلى الود والمقدمات اللازمة فكانت أقرب ما تكون إلى الاغتصاب، لذلك كرهتها ولكنني كنت أحاول أن أؤديها كواجب شرعي، ولكنني في كل مرة كنت أعاني ألاماً شديدة وتنتهي هذا العلاقة بحالة قيء وصداع شديد.
ويؤلمني أنني كنت خاضعة له رغم أنه كان يفتقر إلى أي ميزة أو موهبة، بل كان موظفاً مغموراً وإنساناً معتماً لا يرى أبعد من تحت قدميه ولا يطمح إلى أي شيء أكثر مما تطمح إليه الحيوانات، في حين كنت أنا مليئة بالطموح وأحاول في كل لحظة أن أرتقي بنفسي وبأسرتي، وهو لا يتركني بل يحاول إعاقتي وتحطيم معنوياتي طول الوقت .
حين بلغت الأربعين قررت النجاة بنفسي وبولدي خاصة بعد أن كبر فانفصلت عنه وأحسست أنني ولأول مرة منذ عشرين سنة أتنفس هواءاً نقياً وأتحرك في كون فسيح، ولم أضع وقتي فبدأت بإنشاء شيء بداً غريباً على الناس فراحوا يتساءلون: ما معنى إنشاء مركز للفنون والآداب في مدينة صغيرة ما زالت تحتفظ بعادات وتقاليد القرية المصرية ،
ولكنني كنت مصره على ذلك رغم تطاير الشائعات ضدي تطعن في نواياي وأخلاقي خاصة وأنني الآن مطلقة وجاء إخوتي يتوسلون تارة ويهددون تارة، ولكنني لم استجب لهذا أو لذاك، ورحت أستكمل مركز الفنون والآداب فجمعت فيه كل شئ جميل يرتقي بالنفس والروح والتحق عدد قليل في البداية من أبناء المدينة ولكن العدد راح يتزايد خاصة بعد أن تحول المركز إلى إنتاج باقات الزهور والزخارف واللوحات الفنية واشتهر بإقامة الأمسيات الشعرية واستضافة كبار الشعراء والأدباء والمفكرين وإصدار المجلات والمشاركة في المعارض وإقامة صالون ثقافي يرتاده أصحاب الذوق السليم من البشر أياً كانت أعمارهم أو انتماءاتهم.
وهنا أحسست أن روحي تحلق في السماء مرة أخرى وأن الدنيا تتسع والألوان تتلاقح وتتكاثر وتتموج في جمال غير مسبوق، والأشكال تتعدد وتتشابك في صور لا نهائية والروائح تملأ الكون وثمة موسيقى كونية رائعة أسمعها بأذني ولا أدري مصدرها فهي مزيج من تغريد العصافير وصرير الرياح وهدير والأمواج وحفيف أوراق الشجر وضحكات السعداء وهمسات المحبين. وتعجبت كيف صبرت على سجني مع زوج تعادل فيه كل شئ عند درجة الصفر، وماتت فيه كل رغبة في الحركة، ولم يكتف بموته بل راح ينسج حولي خيوطه العنكبوتية العدمية ليقيد حركتي يوماً بعد يوم وأنا أعيش تحت وهم الحفاظ على الشكل الاجتماعي.
ولم تدم سعادتي هذه طويلاً فقد بدأت تتحرك في أحشاء نفسي أشياء غريبة لم أعهدها من قبل فقد كنت مدعوه إلى حفل زفاف أحد بنات العائلة وشاهدت بعض الفتيات يرقصن ويغنين فوجدت بداخلي رغبة في مشاركتهن الرقص والغناء، ليس هذا فقط ولكن استيقظت بداخلي رغبة في أن أخلع غطاء رأسي وجزءاً من ملابسي، ورحت أقاوم هذه الرغبات بكل ما أملك من قوة ولكنني أحسست أنني ربما أضعف في أي لحظة فأسرعت بمغادرة المكان قبل أن تحدث الكارثة، وعدت إلى بيتي وبدأت لأول مرة أتحسس جسدي الذي كان عبداً لي طيلة حياتي واكتشفت فيه جمالاً لم أعهده من قبل وأحسست وكأنه في حالة ثورة ضدي لا أستطيع قمعها فاستغفرت ربي واستعذت من شيطاني وحاولت الانشغال بأمور حياتي العادية، ولكنني لأول مرة في حياتي بدأت أشعر بالخجل ويحمر وجهي في مواجهة الرجال، وتقبلت هذا وفسرته على أنني مطلقة وهذه مشاعر المطلقة التي تسببها نظرة الناس لها وتخوفهم منها خاصة وأنني لاحظت أن كثيراً من صديقاتي القدامى أصبحن لا يرحبن بزياراتي لهن في وجود أزواجهن خاصة وأنهن لاحظن أنني أبدو أصغر بكثير من سني فقد رجعت إلى الوراء عشرين سنة.
لم يتوقف الأمر عند هذا بل إنني أصبحت أشعر بمشاعر المراهقين التي لم أعرفها في حياتي من قبل وانشغلت في أوقات كثيرة بأحلام اليقظة وكنت أبذل جهداً كبيراً في منع نفسي من التورط في أشياء مخجلة، وأحاول تغطية كل هذا بأن أبدو في حالة جدية وحزم وصرامة وخاصة في إدارة أعمالي التي اتسعت وتعددت فشملت مصنعاً للتريكو ومدرسة خاصة وصالة رياضية ومسجداً ودار مسنين .
وبعد تردد طويل فكرت في زيارة طبيب نفسي، وإنني أعتبر هذه الزيارة زلزالاً هز ثوابتي ومازال يتعتعها حتى هذه اللحظة، وعلى الرغم من مرور أكثر من عام على هذه الزيارة إلا أنني أتذكر أجزاءاً من الحوار الذي دار :-
• لماذا اخترت زوجك من طبقة اجتماعية أدنى، ويحمل وصمة عار في أسرته ؟
- كنت وقتها أحمل روحاً ثورية وأكره التفرقة بين الطبقات لذلك أردت تحدى العرف الاجتماعي وأردت أن أرفع هذا الشخص المقهور، ولكن للأسف سحقني هو تحت أقدامه.
- ولماذا لا تقولين أنك كنت تبحثين عن رجل بهذه المواصفات لكي يتسنى لك السيطرة عليه لأن بداخلك ثورة ضد الرجال ؟
• ولماذا أثور ضد الرجال؟
- هل نسيت أن جدك كان رجلاً صارماً لم يسمح لأي واحدة من بناته بالتعليم في حين أعطى الفرصة لكل أبنائه الذكور ليصلوا إلى أعلى المراتب العلمية ؟
• وهل نسيت أن أبيك كان يعير أمك بجهلها على الرغم من أن شخصيتها كانت أفضل منه بكثير على الرغم من حصوله على تعليم متوسط ؟ ... وهل نسيت أن إخوتك الذكور تركوا مسئولية رعاية أمهم المريضة على كتفيك وتعللوا بأعذار واهية ؟ ...
لذلك أصبحت عندك معركة مع الرجل فهو في نظرك إما دكتاتور قاس وإما سلبي ضعيف، لذلك فضلت أن تكون معركتك مع السلبي الضعيف لكي تضمني كسب المعركة، ولكن للأسف هذا السلبي الضعيف راح يمزقك بأظافره حتى أسخنتك الجراح ، وراح يحط من قدرك حتى لا تملكين شيئاً تتعالين به عليه .
• على الرغم من أن ما تقوله فيه شيء من الصحة إلا أنني لا أتفق معك في كل جوانبه.... ولكن هب أن كل ما فعلته صحيحاً فماذا يفيدني الآن معرفته؟
- ابنك الوحيد الذي تصرين على أن تجعليه هو الآخر خاضع لك تماماً لتشكيله كما تشائين، ولتجعلي منه نموذجاً للرجل الذي تتخيليه ولم تقابليه في حياتك.
- وهل هذا خطأ ؟
• كل إنسان له إرادة وله خيارات، وما تفعليه الآن مع ابنك تتأثرين فيه بمعركتك مع الرجال في عدة أجيال (الجد والأب والأخوة والزوج) لذلك لن يخلو سلوكك معه من شبهة المغالاة، وأنت في الحقيقة تغالين في الاهتمام به بحجة أنه الوحيد وبحجة أنه الآن بعيد عن أبيه وبحجة أنك لا تريدين أن يكون مثل تلك النماذج من الرجال التي واجهتها، أي أن تربيتك له كلها ردود أفعال لمشاكلك مع الرجال.
- وما النتيجة التي تتوقعها لابني من هذه التربية التي لا تعجبك ؟
- إما أن يخضع لك تماماً ويصبح شخصية سلبية اعتمادية، وإما أن يتمرد عليك خاصة في فترة المراهقة والشباب فيصبح عدوانياً عنيداً.
• وماذا تريديني أن أفعل إذن؟
- ابتعدي عنه قليلا واتركي له مساحة يعيش فيها بإرادته ويختبر فيها خياراته هو.
• وكيف أبتعد عنه وأنا لا أطيق أن يغيب عني لحظة فهو كل ما خرجت به من الدنيا؟
- تزوجي
• مستحيل …… !! ماذا يقول الناس عني؟! …… وماذا أقول لابني ……؟! وهل أجد من ابدأ معه حياتي بالشكل الذي أريده دون أن يكبلني بقيوده مرة أخرى؟
- إذا لم تتغلبي على كل هذه الصعوبات وتتزوجي فسيظل بداخلك جزء من نفسك يرغب في الحياة، وسيتمرد عليك كما تشعرين الآن ويدفعك إلى أشياء تعتبرينها خارجة عن سياق شخصيتك الاجتماعية الملتزمة، وهنا إما أن تخضعي لهذه الرغبات الثائرة أو تستنزف طاقاتك في مصارعة هذه المشاعر الثائرة …… ثم إن الزواج عمل شرعي لا يخجل منه أحد، والرجال ليسوا كلهم كزوجك الأول.
وهنا توقفت عن الحوار مع الطبيب واستأذنته في الخروج، ووجدت قدماي لا تستطيعان حملي إلا بصعوبة بالغة، ورأسي تدور وصدى كلماته يدوى في أرجاء نفسي ليدعني في حيرة أكثر مما كنت قبل زيارة الطبيب .
وبعد عدة أيام وجدتني أقوم من سريري وأفتح شبابيك غرفتي لأنظر إلى السماء الصافية والخضرة الممتدة، ووجدتني في حالة صفاء عجيبة وتنتابني رغبة عارمة في أن أسبح في الفضاء عصفور طليق أقبل الزهور وأرشف رحيقها، وأعانق النسيم وأرتوي من الجداول والعيون وأنصت إلى همس الكون ويهتف قلبي وتتحرك شفتاي مرددة : سبحان الذي سخر لنا كل هذا الجمال .
واقرأ أيضاً
دمعَةُ القُدس / رسالة إلى غزة / قصيدة أصبحنا / رئيسُ جُمْهُورِيَّةِ الجنونْ / من قصيدة لبغداد