(الحلقة الأولى)
تقويمان متناقضان لما حدث في مصر:
- الأول يرى أن الشعب المصري: مستكين.. مسالم.. راض بقدره.. وأن الشخصية المصرية.. فهلويه.. تعيش ليومها.. وأنها شخصية مازوشية شكلّها الفراعنة.. وأنها "مغرمة" بقيادة بالقيادة العسكرية.. فصارت كالجندي.. التي ظلت تأخذ التحية لحاكمها العسكري ستين سنة.
- والثاني يرى أن الثورة المصرية التي هزّت العالم العربي في عشرة أيام (25 يناير الى 4 فبراير).. ثم هزت العالم في (11 فبراير11) هي الأولى من نوعها.. ليس في مصر.. بل في تاريخ الثورات العالمية، من حيث تحضّرها.. واصرارها.. وتفرّدها بكونها ثورة بلا قائد اسقطت نظاما "ثوريا" و"صديقا" للغرب.. فكيف انفجر النقيض من النقيض؟!.
كنت مدعوّا لحضور "المؤتمر الاقليمي لعلم النفس" في القاهرة، وصادف ان وصلت مطار القاهرة في نفس يوم اجراء الانتخابات لمجلس الشعب المصري (28/11/2010).
كانت شوارع القاهرة هادئه، والناس يزاولون اعمالهم لا شأن لهم بالانتخابات وكأن الأمر لا يعنيهم مع انه يخصهم وحدهم. وحالة كهذه ليس لها سوى تفسيرين: إما أن الناس راضون عن النظام واداء الحكومة، وإما أنهم يائسون من تغيير الحال.
وحين استفسرت من زملائي الاطباء النفسيين واساتذة علم النفس مال رأى معظمهم إلى عدم قدرة الناس على تغيير النظام، بل أن المصريين لايفكرون أصلاً باسقاط النظام، وأن أبعد ما تريده القوى السياسية المعارضة هو إجراء انتخابات نزيهه، وهذا يعني أن ماحدث ادهش المصريين أولا وفاجأ السياسيين.... فما السرّ فيما حدث؟
أن السرّ، فيما نرى، أن هنالك جيلين بثقافتين مختلفتين في مصر، والعالم العربي أيضاً، هما جيل الكبار الذي بيده السلطة وجيل الشباب الذي هو خارج السلطة. ومشكلة الحاكم العربي انه محكوم بـ (سيكولوجيا الخليفة) يرى نفسه امتداداً له في البقاء بالحكم إلى أن يخصّه عزرائيل بالزيارة، ويسعى إلى امتلاك الثروة، ويؤسس ثلاثة أجهزة أمنية يوزعها على ثلاثة (سواتر) عبر دائرة هو مركزها: أمن خاص، أمن استخباراتي، شرطة وأمن عام، ويؤلّف حزباً ينتقي له من تتوافر به أربع صفات: حب المال، حب السلطة، ضعف الضمير، وطاعة ولّي النعمة، وهذا ما حصل في مصر. فالذي لا يدركه الحاكم الذي يؤسس حزباً من أشخاص تجتمع بهم هذه الصفات أنهم يكونون، عبر الزمن، كالأرّضه التي تنخر في هيكل النظام تقرضه من الداخل، ويترأى للحاكم أن بنيانه قوي، فيما هو يحتاج الى هزّة خفيفة تتهاوى فيه الحلقات الضعيفة فيتضعضع، وان توالت عليه الهزّات سقط بالكامل، وهذا ما حدث في مصر.
ولكن لنعبر الى الجيل الثاني.. الشباب.. ثم نكمل التحليل.
يؤلف جيل الشباب بالعالم العربي بحدود 60% من المولودين عام 1975 فما بعده، له قيم وتطلعات مختلفة عن جيل الكبار، إذ صار باحجام أكبر طولاً وعرضاً وعمقاً من القوالب الكلاسيكية التي اعدّها لهم جيل الكبار الماسك بالنظام السياسي الذي اصبح مثل طبيب قديم يكتب وصفات (اكسباير) تجاوزها الطب الحديث.
ولآن النظام ما عاد بقادر على استيعاب الشباب، ولأن الشباب لم يستطع التفاهم مع (أبيه.. النظام) فقد حدثت اربع تحولات سيكولوجية على النحو الآتي:
الأولى: النفور، متمثلة بعدم استماع النظام لشكوى الشباب (نفور الابن من أبيه).
الثانية: التذمر، جزع الشباب من النظام الناجم عن استمراره بعدم استماعه لشكواه (التذمر الصامت للابن الخائف من أبيه).
الثالثة: الصرخه، صيحة الشباب بوجه رئيس النظام الناجمة عن نفاد صبرهم (صرخة الابن بوجه أبيه).
الرابعة: الثورة، تمرد الشباب على النظام وثورتهم عليه (ثورة الأبن على أبيه).
ووفق هذه المعادلة السيكولوجية التوليدية:
(النفور التذمر الصرخة الثورة) حدثت ثورة الشباب في مصر. لكن هذا أحد مفاتيح "السر" أما مفتاحها الآخر فيكمن في فشل القوى والاحزاب السياسية باحتواء الشباب، وهذا ناجم عن سببين: الأول: أن القائمين على الاحزاب هم من جيل الكبار الذي يختلف عنهم في الثقافة.
والثاني: أن الاحزاب السياسية تقوم على ايديولوجيات، وان الشباب ما عاد يهتم بها لأن الايديولوجيات تحكمها ثقافة معينة فيما هم متعددو الثقافات، ولأنهم يسعون لتحقيق حاجات وطموحات وليس افكاراً وتنظيرات، ولهذين السببين نأى الشباب بنفسه عن الاحزاب السياسية.
والمفارقة أنهم تناءوا أيضاً عن الطبقة المثقفة (الانتلجنسيا).. ربما لأنهم وجدوا أن المثقفين منشغلون بالثقافة والفكر وموزعين بين جامعات ووسائل إعلام يحتلون فيها وظائف ثابته ويحصلون منها على موارد مالية تكفيهم، وبالتالي فأنهم لا يشاركونهم همومهم سيما الملايين من خريجي الجامعات العاطلين.
وإذا اعدنا تركيب الصورة فان الشباب المصري وجد نفسه انه في قطيعة مع النظام، وبعيداً عن الاحزاب السياسية، والى حد ما عن طبقة المثقفين، فأنه خلص الى يقين: أنهم ملايين تجمعهم قضايا مشتركة وهدف واحد، هو التغيير، وأنهم قادرون عليه، لكن تعوزهم الوسيلة فوجدوها في الانترنت، وتحديداً في (الشابين البطليين) فيس بوك وتويتر والأب غوغل أيضا.
ويتبع >>>>>>>: في سيكولوجيا الثورة المصرية2
واقرأ أيضاً:
ساخن من مصر: أيام الغضب جمعة الزحف / تنظيف مصر من آثار الفرعون بالمقشات