عندما بدأت التظاهرات تحدث في ليبيا توقعت فصولا من التظاهرات والتظاهرات المضادة وكنت أعرف أن بإمكان العقيد الركوب كالبهلوان على كل التظاهرات..... بل أذكر أني كنت أتفكه في الأيام بين الثورة التونسية والثورة المصرية -وأنا على موقفي المستبعد تماما لأي ثورة في مصر- فكنت أقول حتى لو ثارت الجزائر والمغرب فإن ليبيا ستمنع انتقال عدوى الثورة إلى مصر باعتبارها منطقة تلطيف أجواء… أي والله هكذا.
رأيت ليبيا والتظاهرات الليبية في البداية.. توقعت أن يكون العقيد الليبي أطول نفسا من مبارك وكنت أقول الليبيون حتى لو ثاروا فإن قلة أعدادهم وتوزعهم الجغرافي سيجعل ثورتهم طويلة…. ولست الآن أستسيغ الدفاع عن وجهة النظر الخاطئة تلك.
لم أكن أتوقع أن يرد النظام الليبي بالرصاص الحي منذ اليوم الأول للتظاهرات لتتطور الأمور بهذا الشكل البشع, وأنا منذ اليوم الثاني حينما اشتدت وتيرة الأحداث بدأت أشعر بالقلق من أن تنتكس حالة العقيد وأنا منذ زمن بعيد لدي ما يفيد بأن الرجل مريض.... ليس المقصود هنا هو تصرفات الرجل وسلوكياته الشاذة والغريبة التي ليس في العالم العربي على الأقل من يجهلها... فكثيرا ما كانت مسار أحاديث الناس... ليس المقصود تلك النوعية من التصرفات وإنما المقصود هو ملاحظات تجمعت على مر السنوات عبر الأخبار والصور والفضائيات تقول بأن الرجل لديه سمات من سمات الشخصية الزورانية وربما غيرها من مجموعة الشخصيات الشاذة أو غريبة الأطوار Odd حسب تصنيف الأمراض في الطب النفسي، وليس هذا فقط ولكن أيضًا يتعرض القذافي لنوبات وجدانية Affective Episodes من النوع الذي يصاحبه نشاط ذهني وحركي زائد وانفلات نفسي وفكري أيضًا... كنت ألمس ذلك في خطاباته وقراراته والألقاب التي يطلقها على نفسه، وكان ذلك يحدث كل عدة أشهر أحيانا وأحيانا كل سنة...
وبينما كان الناس يقولون بسليقتهم ما هذا ويرون الرجل رجلا غريب الأطوار أو مغرورا أو حتى مصابا بجنون العظمة فإنني كطبيب نفساني كنت أرى علامات أعرفها جيدا لاضطرابين نفسيين أحدهما هو اضطراب الشخصية الزورانية أو البارانويا والآخر هو شكل ما من أشكال الاضطراب الثناقطبي.... وكثيرا ما فكرت في المسئولية الكبيرة الذي لابد أن طبيبه أو أطباءه النفسانيين يحملونها وحمدت الله أن لدينا الآن عددا لا بأس به من مثبتات المزاج.... صحيح أن أعراض الاضطرابين لم تنجح العقاقير في التحكم فيها كلها لكن من الواضح أن الرجل يكون أحيانا قادرا على التفكير المنظم، وله بالفعل أفكار فيها إبداع.... ثم لماذا لا تقبله كشخص مختلف أيها الطبيب النفساني؟.... لم يجل في ذهني بالطبع أن ما يقع الآن في ليبيا ممكن الوقوع في العالم سنة 2011 .
وها هو يخرج في تظاهرة في طرابلس وحوله من يغنون ويرقصون وقلت في نفسي هل سيتجاوز الأزمة؟... إلا أن رد الجماهير الليبية جاء واضحا زيادة في أعداد المتظاهرين واتساع في رقعة التظاهر... والأنباء متواترة عن استخدام أسلحة حربية للتعامل مع المتظاهرين، وعن استخدام مرتزقة سماهم الليبيون ذوي القبعات الصفر..... استخدام المرتزقة بدا أمرا هزليا خسيسا... في البداية قلت ربما لأن ليبيا ليس فيها بلطجية أو ليسوا بأعداد كافية مثلا وهو لا يريد أن يبدو أمام العالم بشكل من يقمع المتظاهرين مستخدما الشرطة أو الجيش.... وبالتالي تم رسم سيناريو متخيل لمؤامرة –ليس مهما من خلفها- من ضمن فصولها من سيخدعون الشباب للتظاهر ومن سيوزعون عليهم حبوب الهلوسة ثم من ضمنهم أيضًا من سيقومون بالاشتباك مع والاعتداء على المتظاهرين ومنهم من سيقومون بإشاعة الرعب في نفوس الناس كلهم..... لكنني أيضًا لم أكن أتوقع أن يستخدم المرتزقة ذخيرة حية! ثم يقال أن ليبيا اضطرت لاستخدام رصاص حي لأنه ليس لديها رصاص مطاطي! بدا لي أن شر البلية ما يضحك ما هذا؟ لم يعد واضحا حتى هل عناصر من الشرطة تشترك مع المرتزقة أم لا؟
ظللتُ على مر الساعات وأنا أتابع الأخبار أتساءل هل الرجل الآن انتكست حالته؟ هل سيخرج للعالم ويعلن تخليه عن السلطة؟ هل سيخرج علينا ابنه ليقول لنا خلعت أبي أو قمت بالحجر عليه؟... لذلك فرحت جدا عندما جاء نبأ أن سيف الإسلام سيخاطب الشعب الليبي... قلت إذن الرجل في نوبة وهذا ابنه الأكبر الذي ذاعت علاقته بتحسين الحريات وحقوق الإنسان في ليبيا وله علاقات جيدة بالدول الغربية ولعله سيتمكن من عبور الأزمة، ويعيد الأمور إلى نصابها....
ولكم أن تتخيلوا مدى خيبة أملي عندما طلع سيف الإسلام القذافي ليعبر في كلمته عن بعض خيوط الوهام Delusion أو الأفكار الوهامية أو الضلالية (الوهام هو معتقد راسخ جازم منافٍ للحقيقة ولثقافة المجتمع) التي يعتقد بها أبوه فهناك مؤامرة على ليبيا من الأعداء والمرتزقة.... والقذافي ليس رئيسا بل هو قائد ثورة.... والمتظاهرون إنما يفعلون ذلك تحت تأثير حبوب الهلوسة، والقذافي هو الميثاق الغليظ الوحيد الذي يمكن أن تتوحد تحت حكمه ليبيا وإلا فإنها الحرب القبلية والإمارات الإسلامية..... إلخ ما جاء في الخطاب من خزعبلات فكرية من المؤسف أن تسمع من ممثل لزعيم عربي! ومن تهديدات باستخدام العنف والقتال -ضد المخطط- حتى آخر طلقة، و.... العوض على الله.... ليس لهذا معنى إلا أن حمامات دم ستسيل.... وكل الناس يعرفون أن الجماهير ستستمر في ثورتها... اللهم غوثك يا الله.
إذن لدينا حالة من الشعور المفرط بالعظمة والخيلاء مصحوبة بمنظومة تفكير زوراني كاملة فالقذافي -والعائلة كلها بالتبعية- مختلفون وعظماء ولا مثيل ولا بديل لأحد منهم وهم ليسوا عائلة رئيس بل عائلة قائد ثورة.... وهم دعائم الأسرة الليبية هم الذين من دونهم ينفرط عقد الأمة الليبية... وهناك مخطط خارجي يستهدف الأمة الليبية.... وبالتالي فإن هناك شعورا متعاظما بالخطر إضافة إلى العظمة يدفع بشدة في اتجاه الدفاع عن الذات وأي ذات إنها الذات العظيمة جدا..... المأساة هنا أن الذي يتكلم ليس القذافي الكبير وإنما هو ابنه فهل نحن أمام حالة اضطراب الوهام المشترك Shared Delusional Disorder؟ تمنيت ألا يكون الأمر أكثر من تهديد، وأن يكون يساير أباه إلى حين... تمنيت وإن كانت تعبيرات وجه سيف الإسلام كانت تنبئ عن قناعة تامة بما يقول.
في صبيحة اليوم التالي بدأت تتواتر أنباء مرعبة عن القصف الجوي والمدفعي للمتظاهرين وعن مجازر هنا وهناك، وقبل ذلك ظهر القذافي في مشهد هزلي ليقول للناس أنه موجود في ليبيا على عكس ما يزعم الكلاب! وبهذا الانفصال عن الواقع والاستهزاء الفادح بالدماء التي تسيل أصبحت متأكدا من أن القذافي في نوبة ذهانية واتصلت برئيس اتحاد الأطباء النفسانيين العرب أ.د عبد الله عبد الرحمن في السودان وطالبت باتخاذ موقف أو إصدار بيان وهو ما يؤسفني أن لم يحدث حتى الآن، وبعد العصر قرأت على الجزيرة أن القذافي سيوجه كلمة للشعب الليبي!.... جاءت بمثابة الطامة الكبرى وفي نفس الوقت بدا وكأن الرجل يحمل لافتة تشخيص إنها أقصى حالات جنون العظمة! أي خلل واضطراب عقلي واضح إنه يقول بالحرف الواحد:
(أنا مجد لا تفرط فيه ليبيا ولا العرب ولا إفريقيا ولا أمريكا اللاتينية ولا كل الشعوب)
(أنا أرفع من المناصب أنا مقاتل مجاهد ودفعت ثمن بقائي هنا)... ما هو المطلوب بعد كل هذا أيها الزملاء؟
القذافي إذن مريض والغرب متخاذل بشكل مخجل والليبيون يتولاهم الله، لكن السؤال الذي أراه ملحا لكي نحق الحق هل هو فقط مريض؟ هل المسألة كلها علامات المرض هل كل الجرائم التي يرتكبها القذافي الآن لا نستطيع حسابه عليها لأنه مريض؟ من المهم أن نوضح هذه المسألة جيدا....
ففي حالة القذافي لدينا تشخيصان لاضطرابين على الأقل أحدهما مستمرٌ والآخر متقطع... المستمر هو اضطراب الشخصية الزورانية Paranoid Personality Disorder وهو المسئول عن كثير من سلوكيات العقيد المشهورة بما فيها الغرور والتعالي والتصرف كأنه إمام أو نبي ومنها أيضًا قمع الآخر والانفراد بالرأي بل واحتقار الرأي الآخر وربما ما هو أقل وضوحا من ذلك وصولا بالأمة الليبية إلى الحالة التي وصلتها، فكل شيء تقريبا يدور حول القذافي وأسرته.... وصورة الليبيين باهتة في الوعي العربي إلا من وجه العقيد وبعض أولاده أخيرا.... والرجل يعيش في ثكنة عسكرية محصنة ضد القصف النووي، ويمارس شتى أنواع الاستعراض بأفكاره وتصرفاته العجيبة بل ويفرض على الناس ما يشاء من أشياء حتى لمجرد أنه حلم بها، ويرجع لسمات هذه الشخصية كذلك اختيار اللجوء للقوة في قمع المتظاهرين وربما الأمر المباشر بقتلهم...، وهذا النوع من الاضطراب أي الناتج عن سمات الشخصية لا يعفي صاحبه من المسئولية إلا في حالات نادرة تحدث فيها نوبات ذهانية قصيرة الأمد وينتج عنها كذلك تصرفات قصيرة الأمد، لا يمكننا إرجاع شيء من الحالة الليبية له.
وأما الاضطراب الآخر أي الثناقطبي Bipolar Disorder فهو المتقطع والذي يمكن أن يعفي صاحبه من المسئولية، إلا أن وجود نوبة الثناقطبي في حالة القذافي لا يضيف شيئا اللهم إلا بدلا من أن يختار القتل المباشر للمتظاهرين رجلا لرجل فإنه قد يقول لنفسه لماذا لا تضرب المدن بالطائرات ولا يجد مشكلة كبيرة في الأمر بذلك... فهذا ما قد يهونه له الذهان....، وليس القصد من هذا التهوين من مسئولية القذافي أو محاولة التخفيف منها، فالحقيقة أن هناك كثيرين جدا من مرضى الثناقطبي بل معظمهم طيبون مسالمون ومبدعون ومحبوبون وفيهم من الصفات الطيبة أكثر من غيرهم، وإنما المقصود هو أن الإعلان عن دخول القذافي في نوبة ذهانية له الآن فائدة أتمنى أن نتمكن من حصدها ألا وهي إمكانية أن يعي أحد من أهله فيقوم بالحجر عليه بأقصى سرعة ممكنة... وبذا تكون اكتملت إجابة السؤال فالقذافي مجرم ومجنون في آن معا..... وأرجوكم أرجوكم حالا أوقفوه.
ويتبع >>>>>>>>:لا تشتمونا لسنا كالقذاقي!
واقرأ أيضاً:
تهانينا يا مصر / الحالة النفسي سياسية / إذا الشعب يوما أراد الحياة / التجربة التونسية غير قابلة للتصدير لمصر