تلقيت منذ نشرت مدونتي عن القذافي مجنون أم مجرم أم ذا وذا؟ سيلا من الاتصالات والإيميلات التي يلومني أصحابها.... وكلهم بشكل عام يقول: كذا يا دكتور أنت تعرف أني مريض بالثناقطبي أو أنت قلت لي أن لديَّ اضطرابا زورانيا أو حالة بارانوية فهل أنا يمكن أن أفعل ما يفعله القذافي الآن؟ يا دكتور لقد أسأت لي إساءة بالغة!.... ولم ينتبه كثيرون فيما يبدو إلى ما اختتمت به مدونتي تلك قائلا: (وجود نوبة الثناقطبي في حالة القذافي لا يضيف شيئا اللهم إلا بدلا من أن يختار القتل المباشر للمتظاهرين رجلا لرجل فإنه قد يقول لنفسه لماذا لا تضرب المدن بالطائرات ولا يجد مشكلة كبيرة في الأمر بذلك... فهذا ما قد يهونه له الذهان....، وليس القصد من هذا التهوين من مسئولية القذافي أو محاولة التخفيف منها، فالحقيقة أن هناك كثيرين جدا من مرضى الثناقطبي بل معظمهم طيبون مسالمون ومبدعون ومحبوبون وفيهم من الصفات الطيبة أكثر من غيرهم، وإنما المقصود هو أن الإعلان عن دخول القذافي في نوبة ذهانية له الآن فائدة أتمنى أن نتمكن من حصدها ألا وهي إمكانية أن يعي أحد من أهله فيقوم بالحجر عليه بأقصى سرعة ممكنة...)... وأكرر هنا لأقول للجميع الغرض هو محاولة استصدار أمر بالقبض على القذافي ولو بحجة المرض العقلي لأننا نرى شعبا يباد ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن نرضى بموقف المتفرجين كما تفعل الدول الغربية والعربية مع الأسف حتى الآن....... هناك قانون يسمح لنا بعلاج المختل عقليا رغما عن إرادته وقد يكون استخدامه أسرع....
وبكل صراحة أقول: أنا كنت وما زلت حتى الآن مستعدًّا لفعل أي شيء وكل شيء من أجل وقف ما يفعله القذافي ولو كان ذلك بقتله، فليس ما يفعله القذافي خافيا على أحد ولا أظن أحدا من مرضاي ولا زملائي الأطباء النفسانيين ولا غيرهم إلا ويود وقفا فوريا بأي شكل لما يفعله القذافي... لم يجل ببالي أن أحبائي من المرضى لن يدركوا ذلك.... أعلنت منذ اليوم الثاني للثورة على صدر موقعنا مجانين وبجرد تأكدي من استخدامه الرصاص الحي ضد المتظاهرين مطالبا بفحص القدرات العقلية للعقيد ما نصه: (يعلن موقع مجانين تضامنه التام وفزعه الكبير من التعامل الوحشي الذي تقوم به السلطات الليبية لقمع المتظاهرين.... ونطالب بضرورة تقييم قدرات العقيد العقلية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.... إن شاء الله فرجكم قريب أيها الليبيون الأبطال)... ولم أكن هنا أتوقع أن يقول لي أحد أنت هكذا تسيء إلى الجنون رغم أنك تسمي الموقع مجانين.... ولو قالها لي أحدد سأقول له ما يفعله القذافي يسيء إلى الإنسانية كلها وأرى أن محاولة منعه فرض عين على كل قادر عاقل وأظن محاولة وقفه عما يفعل ستكون السلوك التلقائي لكل إنسان بغض النظر حتى عن العقل.
اتصلت بابن عبد الله وكعادتنا في مثل هذه الأحداث المزلزلة أحرضه على فعل شيء وأقول لابد أن يكون لنا رد فعل..... حصل هذا في الحرب على لبنان 2006 وفي الحرب على غزة 2009 وفي الثورة التونسية 2010 والمصرية 2011 وكان طبيعيا أن يحدث في الثورة الليبية.... أتصل أحرضه فيحرضني ونتفق على الاتصال بالآخرين واستنهاضهم خاصة كبيرنا وأكثرنا ثقلا وعلما وتأثيرا في مصر وفي العالم العربي د. أحمد عكاشة.... وكانت المسألة هذه المرة ذات حساسية وحرجية لأن لدينا ما يفيد من الملاحظات ومن روايات بعض الأصدقاء أن العقيد الليبي سبق له العلاج من مرض عقلي... واتصلت أيضًا برئيس اتحاد الأطباء النفسانيين العرب كما ذكرت في المدونة السابقة، ووعدني أ.د عكاشة بأنه سيتحدث إلى وسائل الإعلام عن ضرورة علاج القذافي رغم إرادته، واتصلت كذلك بأخي الأكبر د. محمد المهدي باعتباره مسئولا عن شعبة طب نفسي الطوارئ والكوارث في الجمعية المصرية للطب النفسي واتفقنا على التنسيق للسفر إلى ليبيا للتدخل المباشر في الكارثة الحاصلة.
ثم وصلتني بتاريخ 23 فبراير 2011 رسالة من الزميل التونسي د. جمال التركي عبر شبكة مراسلات الشبكة العربية للعلوم النفسية رسالة أسماها المأساة الليبية ومسؤولية أخصائيِّ العلوم النفسية العرب جاء فيها ما نصه: (الخطب جلل، والصمت في هذا الموطن خذلان وتواطأ، وبصفتي طبيبا مختصا في الطب النفسي أدعو زملائي أخصائيي العلوم النفسية في ليبيا وعلى رأسهم الجمعية الليبية للطب النفسي -بحكم أنهم أعرف من غيرهم بشخصية هذا الرجل الذي حكمهم لأكثر من أربعة عقود- أن يقدموا لفضائية "الجزيــرة" قراءتهم النفسمرضية لشخصية القذافي، وبيان مدى الخطورة الكامنة لمثل هذه الشخصية عندما تستحكمها الضلالات الهذيانية ويتملكها الإحساس بالخطر على حياتها، علّ المقربون من هذا الرجل يدركون خطورة ما قد يقدم عليه حتى يكونوا على بيّنة مما هو قادر على فعله... أملا أن يتدخلوا بسرعة لإيقاف "سيناريو قاتم" يتهدد الجميع وينقذوا ليبيا قبل... وأنتم (النفسانيون العرب) أعلم من غيركم بهذا السيناريو إن لم يوضع حدٌّ على وجه السرعة لهذا التداعي الرهيب...)... صدقت يا جمال ولعل رسالتك -التي تدخل صناديق أغلب العاملين في مجال الصحة النفسية من العرب على مستوى العالم- تستنهضهم جميعا مثلما أحاول أنا وأحمد عبد الله.
وفي نفس اليوم كتبت ونشرت مدونتي على مجانين القذافي مجنون أم مجرم أم ذا وذا؟ وأخذت جزءا منها أذكر فيه ما معناه أن سمات شخصية القذافي الشاذة والمضطربة هي المسئولة عن ما وصل إليه الحال في ليبيا بينما كونه دخل في نوبة حاليا هو فرصة للقبض عليه... أخذت هذا الجزء ونشرته بسرعة قدر استطاعتي على الفيس بوك في أكثر من صفحة ومجموعة وأرسلته عبر الشبكة العربية فنشرته الشبكة يوم 24 فبراير وكانت آخر كلماتي: (وأما الاضطراب الآخر أي الثناقطبي Bipolar Disorder فهو المتقطع والذي يمكن أن يعفي صاحبه من المسئولية، إلا أن وجود نوبة الثناقطبي في حالة القذافي لا يضيف شيئا اللهم إلا أن الإعلان عن دخوله في نوبة ذهانية له الآن فائدة أتمنى أن نتمكن من حصدها ألا وهي إمكانية أن يعي أحد من أهله فيقوم بالحجر عليه بأقصى سرعة ممكنة.)....
وبعد ذلك رأيت على شاشة الجزيرة جزءًا من لقاء مع الأخ السوري الأكبر د. مأمون المبيض حذر فيه من اختزال ما يفعله القذافي في أنها أعراض مرض نفسي بل لابد من الانتباه إلى أنها جرائم، وقال: أن هذا السعي من قبل الإعلام ينطلق من نظرة إلى الأمراض النفسية، وأن الإنسان إذا كان سيئا أو مرتكبا لأعمال فظيعة فهذا يعني أن لديه "مرضا" نفسيا، ولعل في هذا تحاملا وظلما للمرضى النفسيين، الذين نادرا جدا ما يشكلون خطرا على أنفسهم أو الآخرين ويكون ذلك في حالة عدم العلاج.... وقلت هذا صحيح ولكن لابد من السير في كل طريق قد يوقف ما يجري الآن، أو يمنع ما قد يلجأ له القذافي إذا ترك..... ثم قرأت رسالة منه عبر الشبكة العربية للعلوم النفسية تكلم فيها عن وجهة نظره هذه مضيفا لها عدة ملاحظات وتوصيات سننشرها هنا على مجانين لفرط أهميتها.
لم أكن طوال كل ما مضى إلا شاعرا بأنني مذنب كطبيب نفساني لأنني من قبل لم أعلن على الملأ أن من الخطر أن يستمر حكم هذا الرجل.... لكنني صدقا لم أتوقع –مثل غيري من الأطباء النفسانيين وعلماء النفس- أي شيء مما يحدث الآن، وها أنا أحاول فعل كل ما أستطيع... بالأمس الخميس 24 فبراير 2011 رأيت لقاء تليفزيونيا للدكتور عكاشة أثلج صدري فيه إعلانه عن ضرورة إجبار القذافي على العلاج، وقص فيه عن مطالبته رسميا أثناء رئاسته للجمعية العالمية للطب النفسي World Psychiatric Association بضرورة تقييم القدرات العقلية لرؤساء الدول في العالم كل عدة سنوات انطلاقا من أن معظم ما يجتاح العالم من كوارث ينجم عن قرارات خاطئة لزعماء عالميين، وكيف أن كل النظم الشمولية رفضت ذلك الإجراء قطعيا،..... كذلك أشار دكتور عكاشة إلى احتمال تشخيصي آخر لحالة القذافي وهو الذهان الصَّرْعِي Epileptic Psychosis كما حمد الله أنه لم يقم بمناظرة حالة القذافي وإلا كان وقع في حرج كبير لأنه في حالة كون القذافي أحد مرضاه سيصبح عليه التزام بحفظ سره، وخطر في بالي ساعتها لا والله حتى لو كان مريضي فإن من الواجب كشف سره حينما يكون مقدما على القتل ولو قتل نفس واحدة لا شعبا بأكمله.
في صباح الجمعة 25 فبراير تلقيت اتصالا من أخي السوري د. عبد الرحمن إبراهيم يعاتبني فيه وينبهني أنا وكل من يعطي القذافي تشخيصا قائلا أنتم بهذا تسيئون لمرضاكم وتفتحون طاقة للدفاع عن هذا المجرم،.... بصراحة فاجأني أن زملاء كثيرين لنا لم يفهمونا والمسألة لا تقتصر إذن على المرضى الذين يصرون على تبرئة ساحتهم من أي شيء يتشابهون فيه مع القذافي.... فزملاؤنا أيضًا يخافون على تشويه صورة مرضاهم،
من الواضح إذن أننا كنفسانيين منقسمون في رأينا بشأن الأزمة ولا مانع من ذلك فبينما سارع البعض إلى الإعلان عن جلاء اضطراب القذافي عقليا داعين إلى وقفه حالا كمريض عقلي يتيح القانون علاجه رغما عنه، يرى البعض أن القذافي مجرد مجرم ولا داعي لتلويث سمعة المرض والمرضى النفسانيين ويذكروننا بما لم ننسه من أن المرضى النفسانيين والعقليين هم أقلية ضئيلة جدا بين من يقومون بالجرائم أو المجرمين على مستوى العالم، فنسبة 85% على الأقل من الذين يقترفون الجرائم أصحاء من الناحية النفسية والعقلية...، وعلى كل فإننا نؤكد أن الحالة العقلية الحالية للقذافي ليست مسئولة عما وصلت له الأوضاع في ليبيا وإنما هي تعطينا فرصة أكبر لوقفه، وأخيرا رغم كون الحديث عن مرض القذافي النفسي يسيء للمرض النفسي أو العقلي بينما يمنح القذافي شرفا لا يستحقه، فإنني أكرر طلب السماح من المرضى والزملاء على حد سواء، وأقول للجميع هذا أقرب وأسرع ما نملك من محاولة لوقفه عن قتل الشعب الليبي فهل لديكم طريقة أخرى أسرع؟.