أثارت الكثير من المواضيع التي يكتبها الزملاء على صفحات الانترنت وبشكل خاص حول "شخصية القذافي" الكثير من التساؤلات، والأفكار التي تستحق النقاش والمتعلقة بالسلامة النفسية والعقلية لبعض الزعماء الذين عرف التاريخ نماذج كثيرة منها، ومنشورة بالعربية تحت السلطة والاضطرابات النفسية (مترجم) في الموقع.
وعلى الرغم من الموافقة على وجود تطور ملحوظ منذ فترة طويلة بالاتجاه غير السوي في شخصية القذافي ويحتاج إلى دراسات وتحليلات تتجاوز ردود الفعل الناجمة عن توتر اللحظة الراهنة الناجمة عما نشاهده من جرائم ترتكب بحق الإنسانية مدعومة بفكر شيطاني وتواطؤ أعمى، فإني أرى أن إضفاء الصبغة المرضية بالمعنى النفسي على تصرفات القذافي وصدور هذه التوصيفات عن متخصصين نفسيين ينبغي أن تكون له محاذيره من زاويتين.
الزاوية الأولى: إطلاق التوصيف المرضي النفسي على تصرفات القذافي يسهم في تعزيز الوصمة السلبية للمرض والاضطراب النفسي في المجتمع بشكل كبير، ويعطي الانطباع بأن المرض والاضطراب النفسي شر وخطر، مما قد يزيد معاناة المرضى الحقيقيين الذين لا حول لهم ولا قوة ويبخس من قيمتهم وإنسانيتهم ويزيد من عزلتهم النفسية والاجتماعية ونبذهم وتهميشهم، وتوليد الشعور بالخوف والإحساس بالخطر منهم، مما يولد لدى العامة توجهاً سلبياً نحوهم قد يحرمهم من حق الحصول على الرعاية النفسية ويزيد من حالتهم سوءا.
ومن هذه الزاوية أرى أن وصفه بالمريض النفسي إهانة للمرضى نفسياً عموماً، ووصمهم بوصمة لا يستحقونها بالأصل، خصوصاً إن صدرت عن متخصصين نفسانيين وأطباء نفسيين نحترمهم ونقدرهم. ونعرف من التاريخ كم سبب حشر المرضى النفسيين الحقيقيين مع المجرمين والأفاقين والمخادعين وغيرهم من أذى ووصمة مازالت آثارها حتى اليوم. كما نعرف مدى التشويه الذي تلحقه وسائل الإعلام بصورة المضطرب نفسياً، ولا نريد أن نكون ممن يسهم بتعزيز هذه الصورة الخطأ بشكل لا شعوري أو بصورة منبثقة عن توتر اللحظة الراهنة. علينا أن نكون متيقظين من هذه الناحية. فمن الظلم نقوم بوصم المرض النفسي بوصمة الإجرام فكلاهما من فئتين مستقلتين عن بعضهما وتحكمهما آليات مختلفة. وتلك الصورة الشعبية الرائجة عن ربط المرض النفسي بالأفعال الجنائية لم تثبت صحتها علمياً، وهي من بقايا الأحكام المسبقة والقوالب النمطية الموجودة في اللاوعي الشعبي تعززها وسائل الإعلام أحياناً والمصالح السياسية في أحيان أخرى لتبرير بعض الأفعال. ومن واجبنا إزالة هذه الوصمة لا تعزيزها، حتى في لحظة انفعالية مؤثرة.
الزاوية الثانية: ويتعلق الطرح في هذه الزاوية بالناحية الأخلاقية والمسؤولية الجنائية عن الأفعال المرتكبة. فإن كان شخصاً ما مريضاً بمرض نفسي، أو لديه اضطراب مشخص في الشخصية فهذا يعني أنه يستحق العلاج من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن مسؤوليته القانونية أو الجنائية عن أفعاله ستكون محدودة ومن ثم سيتم التماس العذر للتصرفات الناجمة عن حالة مرضية ما مهما كانت ولن يتم تجريم هذا الشخص في النهاية أو التماس الأحكام المخففة، وربما يتولد لدى البعض خليط من الألم والشفقة لهذا الوضع. ومن هذه الزاوية فإننا كمتخصصين نسهم من خلال تقييماتنا النفسية بشكل غير مباشر في نزع الصبغة الجنائية الكاملة عن أفعال القذافي، ومنحه المبررات المخففة. إذاً فالمرض أو الاضطراب النفسي شرف لا يستحقه القذافي، وعلينا ألا نمنحه إياه لأنه يتحمل المسؤولية الكاملة عن أعماله والتي ليس فيها التماس أو مبرر تخفيفي لهذه التصرفات مهما كانت. فأفعاله أفعال جنائية كاملة الصفة ناتجة قصد مدروس وقرار متخذ بكامل المسؤولية العقلية والجنائية.
نتفق على أن مثل هذه الأفعال لا تصدر إلا عن عقل تهديمي وتخريبي وغياب الارتباط الكلاني بالواقع وفقدان البصيرة الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية وموت الحس نتيجة العزلة التي يعيشها مثل هؤلاء الأشخاص عن واقع شعوبهم، وإسماعهم طوال الوقت أفكارهم الذاتية من أعوانهم وحاشيتهم الضيقة (إعادة اجترار أفكار الزعيم والتعبير عنها له من قبل ممن هم حوله كأنها الواقع –وهنا يشبه الأمر الآلية الفصامية مما يثير الإرباك في التشخيص)، ومع ذلك فإن التاريخ يشير إلى أن أنماط الشخصية لدى هؤلاء هي شخصية تعصبية -استبدادية– أنظر كتاب الهوية وتشتتها في حياة إيريك إيركسون وأعماله، ترجمة سامر رضوان، وموضوع التعصب- التحليل النفسي لظاهرة مرعبة المنشور في العدد الخاص بالتطرف في مجلة "شبكة العلوم النفسية العربية" (العدد 25-26 ربيع/شتاء 2010). والمهم في هذا فإن "التعصب" أو "النمط التعصبي" ليس مرضاً نفسياً، لكن التعصب إن ارتبط بالمرض النفسي فتكون النتائج كارثية، خصوصاً لدى من يمتلك السلطة (أي الأدوات التي تتيح ممارسة الاستبداد). فلو كان مجرد مريض نفسي فحسب، لما استطاع حكم ليبيا كل هذه السنين.
زملائي توقفوا عن منحه شرف المرض النفسي فهو شرف لا يستحقه لأنه يسيء إلى كل مريض نفسي يعاني من مرضه بصمت ويستحق منا الدعم والمساندة وإن ظهرت منه –حتى تجاهنا- بعض التصرفات السلبية فعذره أنه مريض يصرخ للمساعدة. أما القذافي فهو ليس كذلك إنه يصرخ ليدمر ويقتل ويهدد ويتهم ولا يريد أن يسمع أنين وشكوى من حكمهم ومستعد لإفنائهم واستبدالهم بمرتزقة. وهذا ليس مريضاً نفسياً.