عكننت علينا شاشة فضائية حمراء وصفوا الثورة بلقاء أقل ما يوصف أنه ركيك، مفتعل وسيئ الأعداد والإخراج، مع نصف ممثل أداؤه رديء أدى دورا في فيلم طبخ فيه للرئيس وضحك نصف ضحكة غريبة على وضع الثوار لاسمه في قائمة (الفنانين) السوداء، حرص هذا ذا السلوك الجبان على أن يؤكد أنه نزل إلى ميدان التحرير متخفيا مع صديق (ربما كان حزب وطني أو أمن دولة) ليشاهد بنفسه ثورة مصر وصرح أنها مصر الصغرى فيها من سوءات ما في مصر الكبرى وحدد هذا البوق قوله (بالحشيش والتحرش) وعندما أراد أن يشدد على قوله حاول الاستشهاد بأحد قادة القوات المسلحة الذي على ما أعتقد انتقد سلوكيات في أحيان لا يقدر وقتها باللحظات وله الحق في انتقاده وفي تعميمه؟
ولأننا ضد التخوين ولأننا لا نشق صدور الناس ونفتش في قلوبهم عن إيمانهم بالثورة من عدمه أو من عدائهم لها.
فلن ننعته بأي صورة إلا أنه (رمادي) كان ينتظر ميل الكفة إلى جهة حتى يتحزم ويرقص لها، هو أحد هؤلاء الذين ما زالوا يصرخون من وراء الشاشات في برامج معينة، وفي فقرات محددة لها جمهورها، وهم يتشدقون بالحرية وضرورة العودة إلى النظام والعمل ويجاهرون بالزيف مدّعين أن هدم أمن الدولة بشكله السابق ليس إلا هدماً للدولة نفسها.
في علم نفس الجريمة هناك جنوح القاصر وجنوح المُغفل وجنوح المجرم المتمرس، وجنوح الإنسان العادي الذي ضلّ، وأقصد بذلك أن بعضاً من الناس –بصرف النظر عن تلونه وتغييره لمواقفه– "جانح في جيناته"، في تركيبته العضوية بالمخ، وأيضاً في منظومته النفسية، فاسد بالسليقة، مولود من بطن أمه وعنده استعداد للقـُبح ولكل نعوت السوء، فإذا كان صاحب مكان فخم ضخم مثلاً، مولود وفي فمه ملعقة من ذهب، ومليان فلوس (رداً على مقولة إنه كان أحسن لنا إن (جمال مبارك يمسك حكم مصر لأنه شبعان)، أو (إن الحرامي اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش).. فإن الفاسد المتوحش القبيح يكون هكذا، ويستمر هكذا، مهما كانت الظروف حتى لو حلف ألف يمين، حتى لو سُجن، حتى لو عُذب أو تهددته الأمراض أو الأخطار، هذا الغِنى الفاحش القول والثروة، يستمتع بالفساد والإفساد، يتلذذ بالسرقة والغش، لا يستمر له حال ولا يهنأ له بال، إلا بالظلم وبالقهر وبالبطش بالآخرين ومصّ دماء الغلابة أينما كانوا.
يتحدث الناس عن ذلك التوأم الذي ولد في رحم نظام مبارك وترعرع..(الفساد والاستبداد) لكن السؤال المُلّح: هل هناك (شرفاء) تم إفسادهم، أم أن المسألة كما أشرنا سابقاً (عِرق دسّاس)، وكيف بهذه (المورثات)..(الجينات)، أن تكوّن بذرة تطرح نبتها وأشجارها الرذيلة وزهورها النتنة هكذا على الملأ، كيف يتزاوج (الفاسد الواطئ اللعين)، مع (بيئة بشعة تسرق الحلم والمال وتضع اليد على العرض والأرض بطول وعرض مصر)، كيف يتخفى كالحرباء خلف شارب محفوف ونظارة شيطانية وصبغة شعر بائسة، كيف يوظف دهاءه وذكاءه لاستخدام الحيل والقانون والدستور، لكي يزمن في رئاسة البرلمان على كل لون يا "باتستا"، كيف يمكن فجأة أن ينطق أحدهم كنقيق الضفدع لكلمة (ثورة)، كيف يتوحدون مع بعضهم البعض يتماهون مع المُعتدي، ويمتطون بعضهم بعضاً، يبصقون ليل نهار في وجوه بعضهم البعض، يسيل لعابهم على نسائهم ويعيثون في الأرض فساداً، ولا رادع لهم.. كيف يتمادون ويغرقون في غيّهم، كيف لا يتوقعون الثورة عليهم، فينامون ملء جفونهم في العسل أو البصل، تتلطخ أياديهم بالدم، وتتدنس ثيابهم بعبث الفعل، وتتزفر ألسنتهم الطويلة باللفظ الفحُش النابي.
كيف لكل هؤلاء أن يبيضوا ويفقسوا ويفرخوا وينتشروا كالدود في الأرض، كالطاعون، كالموت، كالعفن يستشري في الطعام، يأكلونه ممزوجاً بالبصق والصديد، كيف يرتدون ثيابهم ويذهبون إلى عملهم وهم سميكي الجلد إلى درجة تكتم النفس، هم يتجشئون ويمدّون لبرّه، يدخلون إلى البالوعات وشقوق الجدران، يتلصصون ويتجشئون دماً ثقيلاً، ويتقيئون عبثاً وهم – غالباً – ما يلدون بالفعل كائنات لها صفاتهم، تتبدّل وتتحوّل حسب المكان والزمان والحال والمال ولون وجسد الضحية، حتى تركيبتهم البيولوجية العضوية تتغير كما تتغير الحرباء، حتى أشكالهم (شبه بعض)، نسخة معدلة في تعبيرات الوجه وتركيبة التعبير (هناك صورة بروفيل لحسنى مبارك تكاد تتطابق في الشبه مع زين العابدين بن على)، لا تبدو عليهم أمراضهم العقلية أو الجسدية، تختفي في أحشائهم وتحت جلودهم، لا يتعظون بموت حفيد أو قريب أو ثورة في تونس أو رئاسة رجل أسود حُر لأمريكا.
الفساد كالسوس ينتشر بين العائلات، يجري في دمائهم صحيحاً، يقولون أن الصالح قد يولد طالحاً والعكس صحيح، ومن المعروف علمياً أن السلوك الفاسد يروي ويغذي ويعزز بعضه البعض، بمعنى أن السوس بيولد كثير ويفسح لنفسه بالنخر في أماكن لا تخطر على بال، وهنا يبدأ في السرحان هنا وهناك.
السلوك السيئ الفاسد مادياً ونفسياً وإنسانياً وبالطبع سياسياً، ينبثق، يطلع، كالنبت الشيطاني، كالمجرم وسط النهار، كاللص في هدأة الليل، كالهجام على الأسرة الساكنة، بالطبع ليس ملثم الوجه ولكنه مكشوف ومفشوخ الضب ومفضوح وفي كل نشرات الأخبار داخل وخارج أوراق المجلات وبالطبع على أغلفتها في الإذاعة والتلفزيون، لا يمسك بلطة أو سكين لكنه مدجج تماماً بالسلاح، يقتل ويخطف ويعذب ويخفي، مع تطور الدنيا وتتابع الأجيال، تظهر قيادة لئيمة وشريرة؛ فمنذ عهد المماليك لم تشهد مصر أسوأ من مبارك ورموز حكمه ونظامه وبلطجيته النصف مليون (نفس عدد أفراد القوات المسلحة تقريباً)، مثل عائلات القرود والشمبانزي (الذي يختلف عن الإنسان بفرعين DNA فقط)، يشتركون في سلوكيات معيبة وحيدة تظهر وتختفي حسب البيئة المحيطة، التي تكون فيها أمور الرعاية والحماية والتعاون والتآزر والإيثار أمورٌ إنسانية تطور البني آدم وتحميه من الفساد.
يلتصق بالتاريخ فساد الأمم والحكومات والأفراد كالغراء، كاللحام للحديد، لا يفكه إلا كثرة الدق والزن والإصرار والعزيمة والإرادة والإدارة، حِس ثوار وشعب مصر التي وحشتنا ووحشت كل العرب.
إن التاريخ تعاد كتابته أو علّه يتوقف هنا في ميدان التحرير، يُكتب ويُقرأ بلغة كونية.
واقرأ أيضاً:
عيب يا شعب/ إطلالة نفسية على الثورة المصرية/ هل ألقى عمر سليمان خطابه تحت تهديد السلاح؟/ حكاوي القهاوي