إن علاج أي مرض يبدأ بالتشخيص الصحيح المبنى على أحدث ما وصل إليه العلم في هذه المرحلة، ويلي ذلك مصارحة المريض بمرضه حتى يتعاون في مراحل العلاج المختلفة، وفي حالة رفض المريض للعلاج فهنا أحد احتمالين:
إما أنه يريد أن يزيد عليه المرض حتى يموت أي أن لديه ميول انتحارية خفية، أو أن هذا المريض فاقد للقدرة على الاستبصار بمرضه وهنا يتدخل العقلاء المحيطون به لعلاجه رغماً عنه حتى لا يكون بؤرة مرضية ينشر المرض في المجتمع الإنساني.
والعلاج لمرض خطير مثل الاستبداد لا يكون بالبخور والتمائم والشعوذة والزار ولا يكون علاجاً شعبياً غامضاً، وإنما يكون علاجاً على أسس علمية يسير على محاور أربعة:
1- إعلاء قيمة الحرية في النفوس:- خاصة وأن موضوع الحرية لم يأخذ مكانه اللائق به في الفكر العربي والإسلامي، ويبدو أن العلماء قد عزفوا عنه خوفا من بطش الحكام في المراحل المختلفة من التاريخ الإسلامي وانصرفوا إلى مناقشة مسائل فقهية وخلافات مذهبية لا ترقى إلى مستوى قيمة الحرية، أو أن التهديد الخارجي المتتابع (الصليبي والتتري والإنجليزي والفرنسي والإيطالي والإسرائيلي والأمريكي) قد أدى إلى تأجيل النظر في موضوع الحرية لحساب الحشد في مواجهة الأخطار الخارجية، وربما يكون المستبدون الداخليون قد استفادوا من هذه الظروف لتبرير استمرار استبدادهم. على أية حال فقد وجب إعادة موضوع الحرية إلى أعلى مستوى من الوعي العربي والإسلامي وعدم الالتفات إلى أي مبررات للتأجيل أو التهميش.
ونحن نقصد أن تنتشر ثقافة الحرية على كل المستويات كما ذكرنا من قبل حتى لا يختزل الأمر إلى المستوى السياسي فقط كما يحدث دائماً.
2- إعلاء قيمة المساواة (المواطنة): فالكل شركاء في الوطن (بحق وحقيق)، ولهم الحق في التفكير والتخطيط والتنفيذ لصالح هذا الوطن، ونقصد هنا بالكل، كل الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ومعتقداتهم وهذا هو أصل مبدأ التعددية الذي هو الضمان الوحيد لأمن وسلامة المجتمع، حيث أن التمييز العنصري واستبعاد أو تهميش أو إلغاء أي طائفة أو مجموعة يؤدي بالضرورة إلى نمو تيارات عدائية تحتية تهدد أمن واستقرار الوطن بأكمله. فالديمقراطيات الحديثة أعطت فرصة التمثيل والعمل حتى للتيارات المتطرفة. وهذا في حد ذاته صمام أمان حتى لا تعمل هذه التيارات سراً، بالإضافة إلى أن العمل العلني يرشد ويحد من التطرف. والمساواة تتضمن في طياتها قيمة العدل فما دام الناس متساوون إذن فلهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.
ومبدأ المساواة يتضمن حقيقة أنه لا توجد فئة مميزة تملك وتحكم طول الوقت وتستبعد وتعزل باقي الفئات وتصمها بالانحراف أو الخيانة للوطن، فالمجتمع الدولي والإنساني لم يعد يحتمل هذا التمييز العنصري في القرن الواحد والعشرين، ومن يصر على التشبث بهذه الأفكار العنصرية المتحجرة فسوف يدهسه قطار التاريخ وسوف ينظر إليه على أنه بؤرة صديدية تستحق الاجتثاث، والوقت لم يعد يحتمل المناورات أو الالتفافات فالأوطان ملك لأبنائها جميعاً، ولم يعط أحد الحق لفئة معينة لتكون وصية على باقي أبناء وطنها تمنح من تشاء وتمنع عمن تشاء وتصف من تشاء بالمروق.
3- وجود آلية مناسبة للتطبيق: ويجدر هنا أن نشير إلى الديمقراطية كنظام وآلية لتحقيق المساواة، حيث ثبت من تطبيقها في المجتمعات الأخرى قدرتها (النسبية) على تحقيق الكثير من قيم الحرية والمساواة . والديمقراطية ليست هي النظام الأمثل لتحقيق الحرية ولكنها هي أفضل مال وصل إليه الفكر السياسي البشري لتحقيق مبادئ الحرية وهي بالتالي قابلة للتطوير والتغيير مع استمرار نضج العقل البشري ، فهي في النهاية ليست نصوصا مقدسة.
وربما يعلن البعض أن الديمقراطية نظام غربي ولا يصلح لنا، والرد على ذلك هو أن الديمقراطية ما هي إلا آلية لتحقيق الهدف مثل التليفون الذي يتيح لك الاتصال ومثل السيارة التي تتيح لك السفر، فالآليات تستخدمها لتحقيق أهدافك وليس لها دخل في عقيدتك وأخلاقك وعباداتك، ومع هذا إذا تطورت مجتمعاتنا وأصبحت قادرة على صنع آلية أفضل للشورى فلا بأس في ذلك فنحن أشبه بمريض يحتاج للعلاج فوراً والعلاج هنا ليس له جنسية المهم أنه يؤدي للشفاء طالما أنه ليس محرماً، ولو أصبح لدينا مصانع محلية للدواء تنتج دواءً أفضل من المستورد لوجب علينا استخدام دواءنا.
وعدم وجود آلية كان هو السبب الرئيس في أننا ندور حول أنفسنا منذ مئات السنين فنحن نتشدق بالحرية وبالمساواة وكتبنا الدينية وغير الدينية مليئة بالمبادئ العظيمة، لكننا نتوقف عند الأفكار والوجدانيات ولا نحولها إلى مشروعات سلوكية ولا نبحث لها عن آليات تطبيق ووسائل تقييم. ولقد وردت آيات الشورى في القرآن مجملة وترك الله لنا كبشر إيجاد الآليات المناسبة لتحقيقها بما يتناسب مع تطور المجتمعات البشرية، ولو كانت قد وضعت آلية محددة وثابتة لما ناسبت المجتمعات المختلفة في المراحل التاريخية المتعاقبة. ولذلك وجدنا آليات متباينة مثل رأي أهل الحل والعقد، والبيعة وغيرها، وترك الأمر لمزيد من الاجتهادات. ولم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمي خليفته من بعده صراحة وإنما ترك اختياره للناس وقد تم ذلك بالبيعة، وكان اختيار كل خليفة بعد ذلك بآلية ناسبت الظروف التي أحاطت بتوليه وفي هذا إشارة إلى ترك الآلية للاجتهاد البشري بما يلاءم ظروف الزمان والمكان.
ومن خلال خبرات التاريخ المتعاقبة ونمو الفكر البشري الاجتماعي والسياسي وجد الناس ضرورة أن يكون هناك نظاما ثابتا ينظم ويكفل تطبيق مبادئ الحرية والعدل والمساواة ويحول في ذات الوقت دون انقضاض أي مستبد مغامر على هذه القيم الأساسية في حياة البشر، وكان هذا النظام هو الديمقراطية. وربما يجد البعض حساسية خاصة في تطبيق نظام غربي في المجتمعات الإسلامية خاصة أن مرجعية الديمقراطية هي الشعب ومرجعية المجتمعات الإسلامية هي ا لكتاب والسنة، وهذه إشكالية يجب مناقشتها بصدر رحب وإيجاد الحلول المناسبة لها مع الحذر من الانتقاص من قيمة الحرية تحت دعاوى الخصوصية الثقافية (راجع مناقشة هذه الإشكالية وغيرها في كتاب "حوار لا مواجهة" للدكتور / أحمد كمال أبو المجد، إصدار الهيئة العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2000 ، وكتاب فتاوى معاصرة للدكتور / يوسف القرضاوي، إصدار دار الوفاء للطباعة والنشر بالمنصورة).
4 - وسائل تقييم الإصلاح: عندما نعالج أي مرض فلابد لنا من علامات ومحكات ومقاييس توضح لنا مدى التحسن أو عدم التحسن بعد استخدام العلاج. وهذه أيضاً آلية نفتقدها فنحن لا نهتم أبدا بالرؤية المرتجعة أو التقييم المرتجع Feed back لأي نشاط قمنا به، وهذا التقييم المرتجع هو سر كبير من أسرار الحضارة لأنه يتيح الفرصة للمراجعة والتطوير والتحسين على أسس علمية.
5 - الإيمان بروح الفريق ومنظومات العمل: فقد عشنا دهراً نطرب للبطولات الفردية ونصفق لها ونصنع لها الملاحم (عنترة بن شداد، أبو زيد الهلالي، سيف بن ذي يزن، أدهم الشرقاوي) ومازلنا نعمل بشكل فردي ونفتقد لروح الفريق ولمنظومات العمل، وقد أصبح واضحاً أن العمل كفريق والعمل من خلال منظومة (System) يعتبر سراً من أسرار التقدم والحضارة، وأن الإنجازات الفردية مهما عظمت فلن تصنع أمه أو حضارة وإنما تصنع مجداً شخصياً لصاحبها وربما بالإضافة لذلك أصابته بالنرجسية وصنعت منه مستبدا.
واقرأ أيضاً:
إطلالة نفسية على الثورة المصرية/ هل ألقى عمر سليمان خطابه تحت تهديد السلاح؟/ ثورة 25 يناير ومكامن الخطر/ الفاسدون وراثة أم تربية؟/ حكاوي القهاوي