تبتسم روحي كلما دخلت الميدان وأكاد أعانق كل من يضمّه من البشر والأرض والحجر في التحرير حكايات وقلوب وعقول وحب كبير وغضب هائل وكرامة تشرف مصر وإرادة لن تقهر بمشيئة الرحمن ومناقشات ساخنة وعملاء يندسّون وثوار يقظون ونهديكم كواليس التحرير فتابعونا،،،
لم أذهب لمظاهرات يوم 25 يناير؛ فلم لأتوقع اتساع الاستجابة لها، ولثقتي في أن بعض من يقومون أحيانا بتنظيم المظاهرات يستغلون الكراهية العارمة للشعب المصري للنظام للظهور في وسائل الإعلام، وللحصول على تمويلات مشبوهة؛ بدعوى أن لهم تأثيرا على الشعب المصري ويستطيعون تحريكه، تماما كما فعل كثير ممن ادّعوا -كذبا- تمثيلهم للمعارضة العراقية، وأوهموا الأمريكان بأن العراقيين سيستقبلونهم بالورود.
واشترك ابني في يوم 25 كمتظاهر وكصحفي أيضا، وتعرّض للضرب وللشتائم البذيئة، واحتجزه ضابط بالأمن المركزي، وبفضل الرحمن تعالت صرخات زملائه وزميلاته، وتمكّنوا من انتزاعه منهم.
وفي اليوم الثاني للمظاهرات توجّهت لوسط القاهرة، وبينما كنت أريد العبور الشارع أوقفني ضابط، وطالبني بالابتعاد وتغيير مساري منعا للبهدلة!!
وللحق فإنه تعامل معي بلطف على غير عادتهم.. ولكني اشتعلت غضبا لا يمكنني وصفه عند سماعي لكلمة "البهدلة"، فمن ذا الذي يجرؤ على بهدلتي في بلدي؟! ألا يكفي أنهم يسرقوننا، ويسرطنون الطعام، ويقومون بري الخضراوات والفواكه من مياه المجاري، ويبيعون الغاز لإسرائيل بمبالغ تافهة ويبيعونه لنا بالسعر العالمي، وقد شهدت بلدي مؤخرا طوابير بشعة للحصول على أنابيب البوتاجاز تعرّض فيه البعض لإصابات خطيرة بل وقتل بعضهم.
كما قُتل العشرات في طوابير للحصول على الخبز، ويعاني ملايين الشباب البطالة وملايين البنات تأخر الزواج وملايين المصريين الذين ماتوا بسبب كل من السرطان والفشل الكلوي والفشل الكبدي، وتراجع بشع للخدمات الصحية الحكومية، وانكشاف علاج الوزراء وزوجاتهم ومن يمثلون مصالحهم في الخارج على نفقة بلدي، وفيهم من أجرى عمليات للتجميل، بينما يُحرم ملايين البسطاء أبسط حقوق الرعاية الصحية.
هل بعد كل ذلك يجرؤ ضابط من الأمن المركزي أن يحذرني من البهدلة إذا سرت في شارع ما؟!
وبعد خطوات وجدت عشرات العساكر يمسكون العصيّ بأيديهم، ويقومون بإزاحة المئات من السائرين -ولم يكونوا يتظاهرون- عن الطريق وكأنهم يطاردون قطعانا من البهائم..
وللأمانة أفسح لي أحدهم الطريق وقال لي: "سيري يا أمي".. بصعوبة بالغة كتمت صرخة كادت تقفز من داخلي: لستُ أمّك.. وواصلت السير والغضب يلتهمني، واتصلت بابني على هاتفه المحمول، وكنت أصرخ في الشارع: هذه بلدي ولست لاجئة فيها، فكيف يمنعني أحد من السير فيها؟
وشاهدت بعض كبار الضباط وجاهدت لأمنع نفسي من القفز عليهم وافتراسهم، وفي آخر لحظة تذكرت أنهم الذيول، وأن هناك رؤوسا تحرّكهم، ومن الحكمة عدم تبديد الطاقة مع الذيول، وليس من الشجاعة النيل من الحلقات الأضعف..
ومكثت في بيتي لا أغادره والغضب يشتعل بداخلي ويوقده اعتزازي بآدميتي واحترامي لنفسي وحبي لكرامتي وتقديري لها؛ فقد أكرمنا الخالق، فمن ذا الذي يمكنه بهدلتنا.
وتزايد اعتزازي واحترامي لكل من اختار الصمود في كل السنوات الماضية، وتحمّل السجن والأذى البالغ، وصمد أمام محاربة أدوات النظام المختلفة له، والتنكيل المتنوع الذي سرق أعمار الكثيرين، ولم نعطهم حقوقهم بعدُ في الدعاء قبل الشكر.
وتابعت ما يجري في التظاهرات عبر الاتصال المتواصل مع ابني الذي شارك في التظاهرات وتعرّض مع زملائه للرصاص المطاطي وللغاز المسيل للدموع، واحتفظوا بالأغطية الفارغة للرصاص المحرّم استخدامه دوليا.
وتم إطلاق الرصاص الحي على رفاقهم، وشاهدوا الشهداء يرتفعون للسماء بجوارهم؛ فالشهداء لا يسقطون أبدا ولا يتحوّلون لجثث حتى بعد موتهم.
فأصحاب الجثث هم الجبناء وإن عاشوا، والخونة وإن تصدروا المَشاهد، والعملاء وإن تضاعفت ثرواتهم..
وزرعت نفسي أمام الفضائيات أتنقل بينها، وأصغي للتحليلات الجادة، وأنتزع مما أراه الأمل بالنصر، وأكثر من الدعاء وأبكي حينا ثم أتماسك أحيانا، وأتشبث بحسن الظن بالرحمن، وأجري مكالمات؛ لرفع الروح المعنوية ولإشاعة حسن الظن بالرحمن وبالدعاء بأن يهلك الخالق الظالمين بالظالمين وينجي بلدنا ويولي الأصلح.
وعندما تم فرض حظر التجول كان ابني في التحرير، وشاهد بنفسه جرائم الأمن المركزي، وأقسمت عليه أن يبيت بمقر عمله، وجاء بعض أفراد أسرتي لمنزلي، وتقاسمنا القلق والأمل.
وكنت أنام على الأريكة أمام التليفزيون نوما متقطعا؛ لأتابع ما يجري بأنفاس مختنقة.
وتعلّمت في الأيام الأولى للثورة أن ليس كل ما يلمع ذهبا، فقد قمت بالدعاية باستماتة لزميل لمنصب مهم في نقابة الصحفيين فإذا بي أكتشف أنه "...."، فقد شاهدته بعيني على قناة الجزيرة يصرخ وهو يبث الرعب في قلوب الناس، محذرا من البلطجية، ويؤكد أنه لا أحد سيخرج في جمعة الغضب؛ فالشباب غادر التحرير ليحمي الأسر!
فأخبره المذيع بأن كلامه يتناقض مع تأكيد شهود العيان من مبيت أعداد هائلة بالتحرير، فصرخ مؤكدا أنه لا يتحدث كباحث فقط ولكن كمشارك بالثورة!!
واتضح أنه ينفّذ خطة الترويع التي تبنّاها الأمن بفروعه المتنوعة في جميع وسائل الإعلام المكتوبة والتليفزيون الرسمي والقنوات الخاصة بنسب متفاوتة، وفقا للقدر الذي يتمتع به ذكاء معدّي ومقدّمي البرامج، والمساحة التي تسمح بها ضمائرهم للمشاركة، وأيضا لقدر الوعي الذي يتمتعون به والذي يدفعهم للحفاظ على شعبيتهم، بعدم التورط الفاضح في خدمة النظام، ولا مجال هنا للحديث عن إتاحة الفرصة أمام الرأي الآخر، وإلا فلنأت بمن يدافع عن الدعارة أمام من يهاجمونها..
وليس صحيحا أنهم كانوا لا يعلمون؛ فالأمور كانت واضحة أمامهم، ولا شك في أنهم يمتلكون دشا يمكّنهم من متابعة ما يجري في الواقع على قنوات فضائية أخرى؛ ليروا كمّ التدفق الرهيب على ميادين الثورة في التحرير والسويس والإسكندرية وجميع أنحاء مصر..
ولم أحتمل بقائي بالبيت، وشاركت في الثورة منذ يوم 30 وذهبت لميدان التحرير وتنفست هواء نظيفا، وشعرت بأن كل من فيه هم أهلي وأنني أحبهم جميعا وغمرتنا مشاعر الود والتراحم والمحبة، التي افتقدناها طويلا في الشارع المصري الذي تنافس مؤخرا في العدوانية والفظاظة والحدة البالغة..
وتبتسم روحي كلما دخلت الميدان، وأكاد أعانق كل من يضمّه من البشر والأرض والحجر، وأرى عيونا تنبض بالحياة وتلمع بالكرامة وتشع بنور الصمود؛ بعكس ما أراه خارجه من عيون ميتة تُهين نفسها بقسوة بشعة، وتساعد الظالم دون أن تدري عندما ترضى بما يُلقى إليها من فتات، وأتذكر سيدة كانت تنتقد المتظاهرين فسألتها: هل تسعدين بالطعام المسرطن؟ فردت بما لا أستطيع توصيفه: على الأقل كنا نأكل.. غدا قد لا نجد الطعام!!
واقرأ أيضاً:
ثورة 25 يناير ومكامن الخطر/ إطلالة نفسية على الثورة المصرية/ هل ألقى عمر سليمان خطابه تحت تهديد السلاح؟/ حكاوي القهاوي