نزلت في محطة الباستيل في باريس وسألت عن سجن الباستيل وكنت شغوفا بزيارته أو زيارة ما تبقى منه من آثار، ولكنني علمت أنهم أزالوه بالكامل، وأسفت لذلك وتمنيت لو أنهم تركوه متحفا يذكرنا بممارسات الظلم والقهر التي دفعت إلى قيام الثورة الفرنسية، أحد أهم الثورات الإنسانية التي ساهمت في إرساء مبادئ الحرية والمساواة ليس في فرنسا وحدها وإنما في العالم كله، ولكن يبدو أن غضب الثوار لم يحتمل الإبقاء على الباستيل فقاموا بهدمه رغم ما هو معروف من حرص الفرنسيين على الاحتفاظ بكل الآثار حتى المباني القديمة يحافظون عليها للإبقاء على الطابع المعماري للمدينة.
والباستيل (كلمة تعني المبنى القوي) هو سجن أُنشئ في فرنسا بين عامي 1370 و 1383م كحصن للدفاع عن باريس ثم أصبح سجنا للمعارضين السياسيين والمسجونين الدينيين والمحرضين ضد الدولة (في عرف الملك). منذ تحول الباستيل من قلعة إلى سجن كان سجنا "ملكيا" تابعا للملك مباشرة ينفق عليه من أمواله الخاصة، ويجري فيه كل شيء بعيدا عن رقابة القانون العام، وكان يتم احتجاز بعض الشخصيات في الباستيل بأمر الملك مدى الحياة أو لسنوات مديدة. وأصبح على مدار السنين رمزاً للطغيان والظلم وانطلقت منه الشرارة الأولى للثورة الفرنسية في 14 يوليو 1789 م وما تزال فرنسا حتى اليوم تحتفل بمناسبة اقتحام السجن باعتبارها اليوم الوطني لفرنسا (Fête Nationale) في الرابع عشر من يوليو من كل عام وانتهاء حقبة طويلة من الحكم المطلق.
ففي 14 يوليو 1789م حاصر الثوار الباستيل، وأطلق الجنود النار على الجمهور المهاجم ومات حوالي 98 شخصا. لكن الناس اقتحموا القلعة وتغلبوا على الجنود وقتلوا مدير السجن وفي اليوم التالي بدأ الناس في هدم الباستيل.
ننتقل من باستيل فرنسا إلى باستيل مصر وأقصد به مباحث أمن الدولة، وكما حدث في باستيل فرنسا فإن جهاز أمن الدولة قد أنشئ في البداية لحماية أمن الدولة ولكن مع الوقت ومع فساد نظام حسني مبارك على مدى ثلاثين عاما ومع تعطيل القوانين العادية طوال هذه السنين ومع استمرار العمل بقانون الطوارئ تحول هذا الجهاز إلى أداة للتجسس على المعارضين السياسيين والإعلاميين والقادة الدينيين والاجتماعيين ثم أصبح يتجسس ويتنصت على كافة شرائح المجتمع ومؤسساته الحكومية والمدنية.
ولم يقف دوره عند التجسس والتنصت، وإنما أصبح يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المصريين من تعيين العمد والخفراء والموظفين في كافة مرافق الدولة حتى الوزراء، كما كان يوقف التعيين لأي شخص بناءا على استطلاع الأمن، وكان هذا الاستطلاع يرفض التوظيف بناءا على اعتبارات سياسية وليس اعتبارات جنائية محددة، وتدخل في الجامعات فزور انتخابات الاتحادات الطلابية ومنع تعيين أعضاء هيئة التدريس الذين لا يوالون النظام مهما كانت كفاءاتهم، وأصبح يعين المعيدين والعمداء ورؤساء الجامعات ويتحكم في قراراتهم ونشاطاتهم.
وتحكم في الإعلام القومي والخاص وأصبح يختار القيادات الإعلامية ويعزلها وفقا لولائها للنظام أو عدم ولائه، ويتحكم في اختيار المتعاملين مع هذه الوسائل الإعلامية. وتحكم في الأحزاب السياسية وقام باختراقها بعملاء سريين وفجر بعضها من الداخل وطوع الباقي تحت إمرته وأفسد الحياة السياسية في مصر بإجهاضه لكل حركات الإصلاح التي هبت لمقاومة النظام الفاسد، واعتقل المعارضين السياسيين والإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية بالآلاف على مدى سنوات طويلة، ومارس أشد أنواع التعذيب الجسدي والمعنوي حتى الموت لكثير من هؤلاء، وكان يفعل كل ذلك بعيدا عن سلطة القانون حيث كان يتمتع بحصانة تجعله فوق القانون أو على الأقل بعيدا عن أعين القانون.
واستعان هذا الجهاز بجيش من البلطجية وأرباب السوابق (بلغ عددهم حسب أحد الإحصاءات أربعمائة وخمسين ألف بلطجي) لتزوير الانتخابات وترهيب المعارضين وإحداث الفتن الطائفية وذلك بهدف بسط السيطرة على الجميع ووضع المجتمع كله في حالة رعب واستسلام حتى يعطي الفرصة لنظام مبارك وعصابته للاستمرار في الحكم. وفي السنوات الثلاث عشر الأخيرة التي تولى فيها حبيب العادلي وزارة الداخلية توحش جهاز أمن الدولة وازداد قسوة وضراوة وتعذيبا للشرفاء حتى الموت، وتوغل في كل تفاصيل الحياة اليومية للمصريين وبث عملاءه وأعوانه في كل مكان وتحكم في تعيين القيادات في كل مؤسسات الدولة بحيث يضمن ولاءها وعمالتها التامة له، ومكن للحزب الوطني وقياداته في الإمساك بالثورة والسلطة حتى نهبوا مصر تماما وقزموا دورها الإقليمي والعالمي، وكان الجهاز يقوم بأدوار غير وطنية لصالح الحزب الوطني ولصالح توريث الحكم لجمال مبارك، وكرس لكل أنواع الفساد في المجتمع.
ولم تكن قيادات الجهاز السابقة أو الحالية تعترف بهذ، بل كانت تدّعي أنها تقوم بعمل أخلاقي، وأذكر أنه في أحد الندوات بعد قيام ثورة 25 يناير كنت أتحدث عن تدخل أمن الدولة في التعيين في الوظائف العامة للدولة بكافة مستوياته، وذكرت أنني كنت أحد الضحايا لاستطلاع أمن الدولة حيث رفض تعييني بالوظيفة الجامعية رغم أنني كنت المرشح الوحيد للوظيفة على مستوى الجمهورية (نظرا لندرة التخصص) وقد حصلت على الوظيفة بعد ذلك بحكم قضائي، فرد السيد فؤاد علام (وهو أحد قيادات أمن الدولة البارزين والمدافع على مدى سنوات طويلة عن النظام السابق وعن ممارسات الداخلية في أغلب برامج التليفزيون، والذي ينتقل من قناة إلى أخرى في نفس اليوم للقيام بهذه المهمة)؛
وقال بأن جهاز أمن الدولة يمنع تعيين بعض الناس بناءا على حسن السير والسلوك، أي أن هذا الرجل وفي هذا السن وبعد قيام الثورة مازال يعتقد ويروج بأن جهاز أمن الدولة يتصرف في مستقبل الناس وفي تعيينهم أو عدم تعيينهم بناءا على معايير حسن السير والسلوك، والغريب أنه قال هذا الكلام في اليوم التالي لقيام ضباط أمن الدولة بفرم وحرق الملفات والمستندات، واقتحام المتظاهرين لمقار الجهاز واكتشاف غرف وأدوات التعذيب ورؤية المقابر السرية وعرض كل ذلك على القنوات الفضائية، وتعجبت كيف يتحدث الرجل (وقد تجاوز السبعين من عمره وأحيل للتقاعد) عن قيام هذا الجهاز بالحكم على حسن سير وسلوك المصريين الشرفاء، إذ كيف يحكم شخص يقتل ويعذب ويزور ويلفق على حسن سير الناس وسلوكهم من عدمه، ولكنها العقيدة التي تربى عليها كل من عمل في هذا الجهاز فأصبح لا يسمع إلا رأيه ورأي قادته ويبرر كل ما يفعله تبريرا يجعله مستريح البال.
ومن هنا كان توقيت قيام الثورة في 25 يناير الموافق لعيد الشرطة، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن أحد أهم أسباب قيام الثورة هو ممارسات الشرطة وعلى رأسها جهاز أمن الدولة خاصة وأن الدعاة للثورة كان من أبرزهم مجموعة "كلنا خالد سعيد" التي تكونت إثر قتل شاب سكندري بأيدي مخبرين بالشرطة ثم العبث بالمحاضر لتبرئة القاتلين وتواطؤ وزارة الداخلية بأكملها في هذا الفعل المشين مع تشويه صورة القتيل بأنه مات إثر محاولة ابتلاعه لفافة من البانجو.
ومن أهم علامات ودلائل فساد جهاز أمن الدولة ما حدث بعد الثورة من محاولة حرق وفرم الوثائق والمستندات الخاصة بعمل الجهاز في كل مقار الجهاز المنتشرة في أنحاء الجمهورية (وهذا عمل مشين وجريمة بشعة وخيانة لأمانة الوظيفة وإهدار لوثائق رسمية مهمة) وقد تم ذلك بناءا على أوامر صدرت من رئيس الجهاز بناءا على وثيقة تم ضبطها أثناء اقتحام الجمهور للمقرات. وهذا العمل يشير بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الجهاز كان يقوم بمهام غير قانونية وغير وطنية وغير شريفة ولهذا هو يحاول التخلص من دلائل إدانته وخيانته لأمانة الحفاظ على سلامة الشعب وطمأنينته وأمنه، فنحن إذن أمام سلوك عصابي وليس أمام جهاز حكومي منضبط بالقانون والأخلاق العامة.
ونظرا لطبيعة الجهاز وما أحدثه من قهر وتعذيب وترويع للمجتمع المصري وما نشره من فساد على نطاق واسع وما لعبه من دور في تمكين حكم عصابي فاسد على مدى ثلاثين عاما، فقد كان أحد أهم مطالب الثورة المصرية في 25 يناير حل جهاز أمن الدولة والتحقيق في الجرائم التي ارتكبها المنتسبون إليه ومعاقبتهم عليها بشكل قانوني عادل. ومع هذا تحدث مراوغات في هذا المطلب الشعبي الثوري، والذي هو في عرف الثورات أمر واجب النفاذ لأن خروج عشرات الملايين تطالب بهذا على مدى أسابيع يعني استفتاءا شعبيا على هذا المطلب لا يملك أحد مهما كانت مكانته ان يوقفه أو يتحداه.
وأذكر الجميع بأن الجماهير حين هتفت وطالبت برحيل مبارك ظهر لنا في رجال السلطة من يقول بأن هذا أمرا مستحيلا، ولكن في النهاية رضخ الجميع لنداءات الشعب ورحل مبارك، وحدث نفس الأمر فيما يخص وزارة أحمد شفيق، ورحل شفيق في النهاية. والآن بقي هذا المطلب الثوري ينتظر التحقق ولابد من تحققه رغم أنف الفاسدين والمتواطئين والخانعين والخائفين والمترددين والمتآمرين. وبعد حل الجهاز يتم تحويل مقاره إلى متحف يزوره الناس (ولا يتم هدم تلك المقار كما يقترح البعض) ليتعرفوا على هذا التاريخ الأسود وتلك الفترة المظلمة في حياة المصريين، ويشاهدوا غرف ووسائل التعذيب والقبور السرية، والوثائق التآمرية، وبهذا تظل الذاكرة الوطنية نشطة وواعية حتى لا يتكرر ذلك فيما بعد.
وإرادة الشعب تصدر عن وعي جمعي هائل وعميق يدرك الحسن والقبيح بشكل فطري ومنطقي في ذات الوقت، ومع هذا نورد بعض الأسباب لحتمية حل هذا الجهاز:
أولا: يمثل هذا الجهاز تاريخا أسودا للمصريين الذين تم اعتقالهم وتعذيبهم داخل مقاره، ليس هم فقط بل هم وأسرهم وأصدقائهم ومعارفهم وكل من قرأ وسمع عما حدث لهم. وأصبح هذا الجهاز أقرب ما يكون إلى سجن الباستيل بالنسبة للفرنسيين (للعلم فإن سجن الباستيل على مدى تاريخه دخله 14000 معتقل وهو رقم متواضع إذا قورن بعدد المعتقلين على أيدي مباحث أمن الدولة في مصر)، ولا يمكن تجاوز هذا الحاجز النفسي أو علاجه مع السنين فقد اكتسب صورة ذهنية غاية في السوء لدى الوعي الشعبي العام.
ثانيا: كان المناخ الذي تربت فيه قيادات هذا الجهاز وأفراده مناخا فاسدا حيث قام نظام الحكم الفاسد أيام مبارك وحزبه باستخدام هذا الجهاز لتحقيق أهداف غير وطنية تخص مصالحهم الشخصية، ومن هنا تكونت عقلية فاسدة وعقيدة فاسدة على مدى ثلاثين عاما داخل أروقة هذا الجهاز وسراديبه، فقام على القمع والتعذيب والقهر والتلفيق والتزوير والتجسس واغتيال الشرفاء من أبناء هذا الوطن، وكان دائما في خدمة النظام ضد مصالح الشعب.
ولكي يؤدي هذه الوظائف فقد تم تشويه البناء المعرفي والأخلاقي والمهني للمنتسبين إليه حتى يقوموا بعملهم دون إدراك واع لخطورة ما يقومون به، بل يتم عمل غسيل مخ لهم بحيث يظنون أن ما يقومون به هو لمصلحة البلد، وأن المعارضين السياسيين هم بالضرورة خونة وعملاء، وأن الثورة الشعبية قلة مندسة وعملاء للموساد، وأن الإخوان المسلمين إرهابيين. ومن العبث أن نعتقد بأن هذه العقلية وهذه العقيدة يمكن أن تتغير في خلال أيام أو أسابيع أو حتى سنين.
ثالثا: ستظل هناك مشاعر عدائية سلبية من عموم الشعب المصري تجاه كل من يعمل في هذا الجهاز، بمعنى أن هذا الجهاز والعاملين فيه سيحملون وصمة تجعل قبولهم الاجتماعي صعبا وتضعهم دائما في موضع الاتهام حتى لو افترضنا تغير أسلوب عملهم وسلوكهم.
رابعا: أن القول بأن الجهاز تعاد هيكلته بحيث يختص فقط بمحاربة الإرهاب هو قول عجيب ويفترض السذاجة في الشعب المصري (حتى بعد قيام الثورة وإثبات أن هذا الشعب ليس ساذجا)، فمن المعروف أن هذه الأجهزة القمعية تنشأ أو تستمر في عملها تحت لافتات مشروعة، ولكنها تنحرف عنها سريعا، وهذا ما حدث في سجن الباستيل وحدث في جهاز أمن الدولة، ثم إن كلمة الإرهاب كلمة فضفاضة ومرسلة، وقد كان جهاز أمن الدولة ينظر إلى كل المعارضين السياسيين على أنهم مشاريع إرهابية تهدد أمن الوطن، وإلا لما اهتم بمراقبة تليفوناتهم والتجسس عليهم طوال الوقت، ولما اهتم باختراق الأحزاب وتفتيته، هذا عن الأحزاب المشروعة التي نشأت بأوامر حكومية ورعاية أمنية فما بالك بأفراد المجتمع المختلفين مع التوجهات السائدة للنظام؟.
وهناك البعض الذي يتخوف من حل هذا الجهاز، وتخوفه قائم على احتمالات أن يتم تسريح المنتسبين إليه ويسبب هذا مشكلة في المجتمع نظرا لاحتمال تورطهم في أعمال انتقامية عدائية تجاه المجتمع، ولتفادي هذا الاحتمال نقترح توزيعهم على إدارات شرطية مختلفة بحيث يتم تفكيك هذا الكيان الجهنمي مع الإبقاء على أفراده في أعمال خدمية أخرى.
والبعض يتحجج بأهمية هذا الجهاز لحماية أمن الدولة من الجواسيس ومن المؤامرات الخارجية والداخلية، ولهؤلاء نقول بأنه من الممكن إنشاء جهاز جديد بعقيدة جديدة وعقلية جديدة وقيادات جديدة وعقد جديد، ويقوم هذا الجهاز بأداء هذه المهمة تحت إشراف المخابرات العامة ووفقا لأحكام القانون وضوابطه. وفي الحقيقة فإن الشعب المصري بعد كل ما رآه من جهاز أمن الدولة لا يستطيع أن يأتمنه على مصالحه الخاصة أو العامة، الداخلية أو الخارجية، إذ لا يمكن لمن يقوم بالتزوير والتلفيق والتعذيب والقتل والفرم والإحراق أن نوكل له الحفاظ على أمننا ومصالحنا العليا.
وأخيرا فحل هذا الجهاز هو أحد أهم مطالب الثورة، وهي مطالب لا تقبل المساومة أو المراوغة أو الالتفاف أو التأجيل، ونرجو أن يكون الجميع قد تعلموا الدرس وفهموا كيف يتم التعامل مع إرادة الشعب.
واقرأ أيضاً:
سيكولوجية الأمن في جمهورية الخوف (مصر ـ سابقاً)/ المستقبل الدستوري لصاحب السيادة/ ثورة 25 يناير وعرس الاستفتاء/ حشود الإسلاميين ومخاوف الأوصياء