التنشئة الأسرية الموجهة نحو الصلاح الإنساني2
تابع: قواعد الصحة النفسية للطفل:
7 - احترام إرادة الطفل:
كثير من الآباء والأمهات يظنون أن الطفل ليست له إرادة أو أنها تنمو عندما يكبر ويصبح شاباً أو رجلاً، لكن الطفل له إرادة من وقت مبكر جداً (ويمكن أن تلاحظ الأم هذا من خلال رفضه لأشياء وتمسكه بأشياء) وليس مسلوب الإرادة ويتحرك بريموت كونترول كما يريد الأب والأم، وحتى وهما معترفين بوجود هذه الإرادة، يريدون أن يلغوها، لأنهما يعتقدان أن عندهم خبرة وعندهم معرفة بالحياة أكثر من هذا الطفل فلابد من أن يختاروا له طريقته في التفكير وفي الحياة وفي تحديد الأهداف والأساليب وكل شيء، وكثير من الآباء والأمهات يصلون إلى درجة أن يحاولوا جعل هذا الطفل صورة طبق الأصل منهم، وهم يعتقدون -واهمين- أنهم أفضل صورة إنسانية ممكنة أو أفضل نموذج ممكن، وعندما يواجه الطفل بمحاولة إلغاء إرادته يبدأ في هذه اللحظة في اتباع سلوك العناد، وهذه مشكلة كثير من الآباء والأمهات يشكون منها ويقولون أن ابنهم عنيدا، ويحاولون علاجه من هذا المرض، العناد!، ويحضرون هذا الابن لكي يقوم الطبيب النفسي أو المعالج بترويضه لكي يسمع الكلام ويقوم بتنفيذ كل ما يريدونه، طبعاً هذا غير ممكن عملياً, وإرادة الله أعطت لهذا الطفل هذه الملكة...... أن تكون له إرادة مستقلة، خلقه الله صاحب إرادة، فلماذا نحاول أن نغير خلق الله، وهذا لا يعني أن نتركه تماماً ليفعل كل ما يشاء بناءاً على كونه لديه إرادة مستقلة.
وقد قام العلماء بتقسيم الهداية، وهي نوع من التربية والتوجيه، فقالوا إن الهداية نوعان: النوع الأول "هداية إبلاغ"، والثاني "هداية فعل". هداية الإبلاغ هذه أن نقول للطفل هذا صواب وهذا خطأ، لابد لكي يكون عنده قانون يتكيف به مع الحياة والبيئة ومع الكون كله، فلابد أن يبلغ الأب والأم هذا القانون للطفل، ولكن لا يتوقعوا الامتثال التام لهذا القانون بمجرد إبلاغه، لأن هناك هداية أخرى هي هداية الفعل، أن يستجيب الطفل للرسالة التي وصلته لا يعني بالضرورة أن يستجيب لها كلها، قد يستجيب لأشياء ويؤدي أشياء ويغير أشياء ويعدل أشياء ويرفض أشياء، لأن الله خلق له إرادة ورؤية, وله فكر حتى وهو صغير ، لابد أن نتأكد من هذا تماماً، فسيبدأ في الاختيار، وسيبدأ بالتجريب.
الأب والأم وصلوا لما هما فيه حالياً بعد مراحل كثيرة من التجارب والأخطاء والنضج والتعلم، ويريدان أن يأخذ الطفل أو الطفلة نفس النمط الذي وصلا إليه في هذه المرحلة من العمر، مثلاَ هما في الأربعين أو الخمسين، يريدان أن يكون لطفل أو طفلة في عمر خمس سنوات أو عشر سنوات نفس آرائهما وتوجهاتهما، وهذا ضد الفطرة، وضد طبيعة الإنسان، وضد إرادته واختياره ومسئوليته التي خلقه الله عليها، ولو أصر الأب والأم على هذا تحدث المشكلة التي نراها دائماً ويشتكي منها الكثير من الآباء والأمهات، أن الطفل عنيد أو الطفلة عنيدة لا يسمعون الكلام، لا يريدون تنفيذ سوى ما يرونه، والحقيقة أن ما خلق هذا الموقف المعاند، هو أن الأب والأم دخلا في شرنقة الماضي، ولم يتمكنا من رؤية احتياجات الطفل وضروراته ومجتمعه وظروفه والدنيا التي يعيش فيها، فهو يعيش في دنيا مختلفة كثيراً عن دنياهما، وبما أن لديهما سلطة على هذا الطفل فإنهما يحاولان التحكم فيه، وجعله يمشي على شريط القطار الذي حدداه له، والنتيجة ستكون شيئاً من اثنين،
إما أن يستسلم الطفل تحت هذا الضغط والقهر من الأبوين، فيكون طفلا سلبيا واعتماديا ليس له إرادة ولا اختيار ولا مبادرة ولا تلقائية ولا أي شيء على الإطلاق، هو أسلم كل شيء للأب والأم، وفي نفس الوقت يقوم بعمل شيء يسمى العدوان السلبي (مش انتوا عايزين ده؟. شوفوا بقى إيه اللي هيحصل)، ومن الممكن أن يفشل دراسياً، أو اجتماعياً، أو أخلاقياً، هو قد سلم نفسه، ويريد أن يحمل نتيجة هذا الفشل للأب والأم اللذان أصرا على التحكم في خط سيره وعلى جعله صورة طبق الأصل من الذي يريدانه.
ومن الممكن أن يتمرد الطفل، أن يرفض عمل أي شيء، ويصبح عدوانيا، يفعل ضد كل ما يقولانه له، ويصبح عنيفا جداً، (عايزيني أذاكر، لأ مش هذاكر، عايزيني أنجح، لأ مش هنجح، عايزيني أبقى أخلاقي كويسة، لأ همشي مع أسوأ ناس واعمل كل اللي انتوا بتكرهوه)، لأن هناك صراع إرادات، إما أن أكسب أنا أو أنتم، وطالما لدي شيء أستطيع عمله، فسأقوم به، وسنرى في النهاية من سيكسب.. وتكون رحلة صراع مؤلمة وضارة للطرفين ويتراكم فيها، مشاعر سلبية عند الطفل تجاه الأبوين، وعند الأبوين تجاه الطفل، ويدخل الجميع في أزمة، لا يستطيعون الخروج منها، إلا لو دخل طرف ثالث، يفك هذا الاشتباك، ويبدأ في إخراج هذه المشاعر السلبية التي تراكمت ومشاعر الصراع والعداء التي تكونت نتيجة لإصرار كل طرف على إلغاء إرادة الطرف الآخر.
وهناك أمثلة عظيمة جداً من سلوك بعض الأنبياء في هذه المسألة لأن بعض الناس يظنون أحياناً أن واجبهم الديني أن يحموا أولادهم من الخطأ, وهذا صحيح، قال تعالى: "يأيها الذين آمنوا، قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة"، لابد من توعية الابن للشيء الذي يمكن أن يؤدي لهلاكه في الدنيا وفي الآخرة، وهذه وظيفة الأب بسبب خوفه على الابن، ولأنه أغلى شيء بالنسبة له, ووظيفة الأم أيضا. لكن سنقول أن ما علينا هو هداية التبليغ، لكن هداية الفعل نترك أمرها لله سبحانه وتعالى، وندعوا أن يوفق الله الابن لها، لأننا لا نملكها. فأنت أيها المربى تقوم بعمل ما عليك لكن في النهاية ستحترم إرادة الابن أو البنت واختياره، حتى لو كان هذا ضد اختيارك أو عكسه، الكثير من الناس لن يحتمل هذه الفكرة وسيدخلون في صراع مع الأبناء؛
سنعطي مثلاً لاثنين من الأنبياء الكرام الأول: نوح عليه السلام، وابنه، نوح جهز السفينة، ويعرف بمجيء الطوفان، فنادى لابنه، ولم يكن ابنه على نفس الطريق، فقال: "يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين"، وهذه كانت إرادة نوح عليه السلام، ورؤيته، بناءاً على خبرته ومعرفته والوحي الذي ينزل عليه، وهو نبي، ويخاف على ابنه، لكن تظهر إرادة الابن ورؤيته واختياره: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء"، فرد الأب: "لا عاصم اليوم من أمر الله"، اليوم مختلف عن كل الأيام السابقة، هذا خطر مختلف تماماً، ربما كان من الممكن السماح في الاختيار قديماً، لكن اختيار اليوم مهلك في الدنيا وفي الآخرة، ستموت على الكفر، ومع صعوبة الموقف، نوح يرى ابنه سيموت بعد لحظات على الكفر، يصر الابن على أن يأخذ هذا الموقف الرافض لموقف الأب، وكان متوقعا أن سيدنا نوح لو كان يفكر مثلنا، أن يرسل له أتباعه ليحضروه إلى السفينة بالقوة، لكن هذا لم يحدث، سيدنا نوح أدى البلاغ، وهو يعرف أن هداية الفعل بيد الله سبحانه وتعالى، ونجا الأب بما رأى وهلك الابن بما رأى وفعل, لكن الله خلق الإنسان بهذه الإرادة ولحكمته أراد لها أن تعمل، وكان هذا مثلاً في العصيان، سنأخذ مثلاً آخر في الطاعة، ونرى أنه أيضاً في حالة الطاعة لا تلغى الإرادة عند الطفل أو عند الابن.
سيدنا إبراهيم، عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، وهو يعرف أن رؤيا الأنبياء حق، وأنها واجبة التنفيذ، المتوقع -حسب ما نفهم- أن أمر الله لابد من أن ينفذ، ويذبحه فوراً، لكن سيدنا إبراهيم لم يفعل هذا احتراماً لإرادة ابنه إسماعيل فذهب إليه بمنتهى المودة والرحمة والعطف: "يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى"، نرى كيف قال له سيدنا إبراهيم: "يا بني"، و"إني أرى في المنام"، لأنه لو كان قال له إن الأمر من الله مباشرة، لما كان من الممكن أن يختار، لكنه أعطى فرصة لإسماعيل ليقول رأيه، مثلاً، هذا منام ويمكن تأجيله أو التفكير فيه، فانظر ماذا ترى؟، مع أن سيدنا إبراهيم يعرف أنه لا رأي هنالك، هذا أمر إلهي، يقول سيدنا إسماعيل عليه السلام: "يا أبتي افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين"؛
هنا اختار وكان له فضل الاختيار يثاب عليه، ولم يذبحه مباشرة بدون اختيار، حتى لا يكون قد ذبح غدراً، دون إرادة، ولكن ترك له فضل الاختيار. وهذا درس يعلمنا أن الطفل له إرادة وأننا كآباء وأمهات ليست وظيفتنا أن نلغي هذه الإرادة عند الطفل، ولكن أن نوجه ونهذب، أن نقول ونبلغ ونوضح ونبين، لكن في النهاية، سنسلم، لأن هذا الطفل له إرادة وأن الله شاء بحكمته أن تكون هذه الإرادة موجودة، وتأتي آية مهمة تحسم هذا الموضوع تقول: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس أن يكونوا مؤمنين"، فاحترام إرادة الإنسان حتى في الإيمان والكفر "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، لا يوجد إكراه حتى في الأشياء شديدة الأهمية، إذن فمن باب أولى أن ألأشياء الأقل أهمية لا يوجد فيها إكراه.
ولكي يؤكد لنا ربنا هذه الحقيقة ضرب أمثلة لاستحالة إكراه البشر على شيء وكانت الأمثلة تمثل غالبية العلاقات بين البشر, فهذا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لم يستطع هداية عمه أبو طالب رغم كل ما بذله معه من جهد, ولذلك قال له الله تعالى "إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء", وسيدنا إبراهيم لم يقدر على هداية أبيه, وسيدنا لوط لم يقدر على هداية زوجته, وسيدنا نوح لم يقدر على هداية ابنه....... وهكذا تتعدد النماذج في علاقات مختلفة لتثبت في النهاية أن هداية الفعل لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى, لذلك حين يفعل الأب ما عليه أو تفعل الأم ما عليها فلا يبقى إلا أن يدعوا لابنهما بالهداية والتوفيق, ولا يحاولان قهره أو إلغاء إرادته.
وهذه النقطة تسبب صراعاً شديداً ما بين الآباء والأمهات من ناحية والأبناء من ناحية أخرى، وتداعياتها السلوكية كثيرة جداً، إما سلبية واستسلام وشخصية اعتمادية وإما عناد وتمرد ومكايدة وصراع ومشاكل ليس لها أول من آخر.
8 - مراعاة مشاعر الطفل:
الطفل كائن رقيق بريء ناعم ولطيف، تكون له مشاعر مرهفة جداً وتحتاج للتعامل بدقة وحساسية لأن هذا الطفل كيان بريء يحتاج أن تكون في غاية الحرص والحذر في التعامل معه، فإذا انتهكت هذه البراءة بتعامل فظ غليظ خشن لا يقدر أن لهذا الطفل مشاعر وأحاسيس فإنك تؤذيه غاية الإيذاء دون أن تدرى ودون أن يستطيع هو التعبير لفظيا عما حدث له, فالطفل لم يتعود بعد التعبير عن مشاعره بلغتنا المعتادة لذلك حين يتأزم وجدانيا ربما يظهر عليه ذلك في صورة اضطراب في الشهية أو اضطراب في النوم أو اضطراب في السلوك. والحقيقة أننا لا ندرك هذه المشاعر بدرجة كبيرة وأن مشاعر هذا الطفل مختلفة عن مشاعرنا ولا تظهر بالشكل الذي اعتدناه لأنها لم تأخذ الشكل المميز لكنها موجودة، ونحن في حاجة لقراءتها بلغتها البسيطة دون تعقيد.
9 - رعاية مواهب الطفل واحترام الفروق الفردية بين الأطفال:
كثير من الآباء والأمهات يريدون للأطفال أن يصبحوا قالباً واحداً، يريدونهم بنفس السلوك، (الولد ده طيب ومطيع يبقوا كلهم يطلعوا كده، الولد ده شاطر في المدرسة يبقوا لازم كلهم يكونوا شاطرين في المدرسة، الولد ده بيعرف يرسم يبقوا لازم كلهم يعرفوا يرسموا، الولد ده حفظ القرآن في سن صغير يبقوا لازم كلهم يحفظوا القرآن في سن صغير). إهدار الفوارق الفردية يسبب مشكلة كبيرة، أو عدة مشاكل،
أولاً: ينكر فطرة خلقها الله في الإنسان، وهي أن كل إنسان في هذه الدنيا يؤدي رسالة معينة ويضيف للحياة شيئاً مختلفاً عما يضيفه باقي الناس، فكيف نريد منهم أن يكونوا كلهم شيئاً واحداً، نفس الطريقة ونفس الأسلوب وكما نريد لا كما يريدون، هنا كل فرد سيفقد القدرة الخاصة التي وهبه الله إياها، حيث أن كل إنسان وهبه الله قدرة خاصة ليضيف بها إلى هذه الحياة، فبإنكارنا لهذه الموهبة، تضيع الموهبة وفي نفس الوقت لن نتمكن من إجبار الطفل على التميز في مجال ليس موهوباً فيه، كما يجعل الأولاد يغارون من بعضهم، لأن كل طفل يريد أن يصبح مثل أخيه، ولا يستطيع، يبدأ في كرهه لأنه يشعر بأنه يقوم بعمل شيء يعجب الأب والأم وهو لا يستطيع عمل هذا الشيء الذي يحوز رضا وإعجاب الأبوين، وينظرون إليه على أنه أقل من أخيه، فيغار منه، ويكرهه.
لكن لو أحس كل طفل بأنه محبوب لذاته ولإمكانياته, وأننا لا نقارنه بأخيه، ولكن نقول له أنه متميز في كذا، وأخوه متميز في كذا، وأننا نحترم قدراتهم ومواهبهم وفروقهم الفردية فإن ذلك يؤثر إيجابيا عليهم جميعا.
لو عرفنا هذه الحقيقة وعرفنا أن الله سبحانه وتعالى أعطى كل إنسان قدرة وملكة وموهبة، يقوم بعمل شيء معين بها في هذه الدنيا، فستختلف أحوالنا بكل تأكيد مع أطفالنا، سننظر إليهم بعطف ورعاية لكل موهبة عند كل طفل، بالشكل الذي تظهر به، وننميها ونهذبها ونكبرها ونوجهها، لكن لا نطفئها، فنحن في مجتمع -للأسف الشديد- يقتل كل المواهب، لأن لدينا تصور أن النجاح نمطي، وتصور يكاد يكون أحاديا، أن الطفل لابد من أن يقوم بعمل أشياء معينة، ولكن هناك ألوان كثيرة من النجاح والإبداع والعطاء وألون كثيرة من تعمير هذه الحياة، كل شخص يقوم بعملها بطريقته، وبالموهبة التي منحه الله إياها، فلا نشوه هذه الفطرة.
والرسول صلى الله عليه وسلم، كان حوله نخبة ممتازة من الصحابة، كل واحد منهم لديه خلفية ثقافية معينة، منهم العبد، ومنهم السيد، ومنهم التاجر، ومنهم الصانع، ومنهم السياسي والعالم والعسكري، فلم يفرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم أنماطاً معينة وثابتة ولم يضعهم في قوالب محددة وإنما نمى كل شخصية لتعطي أفضل ما عندها، فمن لديه ملكة الحفظ حفظ الأحاديث (كأبى هريرة رضى الله عنه)، ومن لديه ملكة القيادة صار قائداً عسكرياً (كخالد بن الوليد رضي الله عنه)، ومن كان لديه ملكة الصوت الندى صار مؤذناً (كبلال بن رباح رضى الله عنه)، ومن لديه ملكة التجارة أصبح تاجراً عظيماً (كعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه)، وهكذا، كل شخص وضع في المكان المناسب له ليعطي أفضل ما عنده، وفي النهاية، تكون لديه باقة من القدرات والملكات تتكامل وتعطي مجتمع قوي مبدع ومبتكر، وهذا ما نفتقده في مجتمعنا الحالي، إننا نفتقد ملكات الإبداع والابتكار في كل المجالات، في العلم والأدب والدين والفن وكل شيء، لأننا لا نرى هذه المواهب ولا نحترمها.
وفى الآونة الأخيرة كثر الحديث عن ما يسمى ب "الذكاءات المتعددة" مثل الذكاء اللفظي اللغوي, والذكاء المنطقي الحسابي والذكاء البصري الفراغي والذكاء الحركي والذكاء الفني والذكاء الاجتماعي والذكاء الوجداني والذكاء الروحي. وللأسف الشديد نحن لا نقيّم في أبنائنا غير عدد قليل من هذه الذكاءات غالبا الذكاء اللفظي اللغوي والذكاء المنطقي الحسابي, وهذا يهدر بقية ملكاتهم التي أودعهم الله إياها ويتركهم في حيرة ويجعلهم يشعرون بالدونية لأن ملكاتهم ليست لها قيمة عند الناس الذين يحبونهم ويرعونهم. وهذه النظرة المختزلة للأبناء لا تتوقف عند حدود البيت وإنما تمتد أيضا إلى المدرسة (بل ربما يكون مصدرها الأساسي في المدرسة) حيث يقوم النظام التعليمي على تقدير ملكات محدودة لدى الطالب (غالبا اللفظية اللغوية والمنطقية الحسابية) ويهمل بقية الملكات والذكاءات, ولهذا نجد الطلاب لا يحبون مدارسهم لأنهم لا يجدون أنفسهم فيها, وقد زاد من هذه المشكلة الانتشار الوبائي للدروس الخصوصية والتي كانت في فترة من الفترات بمثابة التعليم الموازى والآن أصبحت تمثل التعليم البديل, والتعليم في الدروس الخصوصية يقوم على فكرة إعداد كائن امتحاني يحصد أكبر عدد من الدرجات ولا شيء غير ذلك, وهكذا يختزل الطالب كإنسان ويتحول لأداة تجمع الدرجات, فضلا عن اكتسابه صفات الاعتمادية والانتهازية والاستسهال والمسايرة والنمطية وكلها صفات تخر ج لنا جيلا هزيلا لا يعتمد عليه.
10 - مراعاة الترتيب والتكامل في وسائل التربية:
قرر علماء التربية أن الوسائل التربوية تتبع حسب الترتيب التالي:
٠ القدوة
٠ الثواب
٠ العقاب
ومع هذا نجد المربين لا يولون القدوة أهمية كبيرة ولا يولون الثواب اهتماما أو عناية, وربما تختزل العملية التربوية برمتها في العقاب ويختزل العقاب في الضرب.
وأذكر أنني كنت أزور عددا من المدارس ووجدت انزعاجا شديدا من المدرسين بسبب القانون الذي منع ضرب الطلاب في المدارس, وكان هؤلاء المدرسون يتساءلون: "إذا كنا سلبنا هذه الوسيلة التربوية الأساسية فكيف نتحكم في هؤلاء الطلاب وكيف نستطيع تعليمهم؟", وكان يبدو جليا أن لديهم اعتقادا راسخا أن العملية التربوية تسقط تماما في حالة انتفاء عقوبة الضرب, وربما يعود ذلك إلى الثقافة السائدة لدينا منذ سنوات طويلة والتي اختزلت التربية في العقاب واختزلت العقاب في الضرب وأهملت سائر الوسائل التربوية الأكثر أهمية وتأثيرا مثل القدوة والثواب والوسائل الأخرى من العقاب كالعتاب والتوبيخ والحرمان........ الخ.
ولكي تسير العملية التربوية بشكل صحيح لابد وأن تتوازن وتتكامل فيها كل الوسائل التربوية مع مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال, فهناك من تكفيه الإشارة وهناك من تكفيه نظرة العتاب وهناك من ينصلح بالقدوة وهناك من يحفزه الثواب وهناك من يحتاج للعقاب. والمربى الناجح هو الذي يعرف متى وأين وكيف يستخدم هذه الوسائل.
11 – ليس مطلوبا أن تحل للطفل كل مشاكله:
فالطفل يحتاج لأن يتعلم فن مواجهة الحياة وفن حل المشكلات, أما لو تعود أن يلجأ إلى أبويه ليحلا له كل مشاكله فسوف يكبر وهو عاجز عن حل أي مشكلة تواجهه ولو كانت بسيطة. وحل المشكلات مهارة عقلية وسلوكية لو لم يكتسبها الطفل مبكرا ربما لا يستطيع اكتسابها فيما بعد. وكثير من الآباء يخطئون حين يظنون أن أبوتهم لا تتحقق إلا بالاحتواء الكامل للطفل وحمايته من كل ما يزعجه وتيسير سبل الحياة بالكامل وحل كل ما يعترض الطفل من مشكلات, وهم حين يفعلون ذلك يتسببون –دون أن يدروا– في ضمور ملكة حل المشكلات لدى أبنائهم.
12- التوازن بين الرفق والحزم:
رفع القرن العشرين كلمة "الكبت" كسوط يلهب به ظهور الآباء والأمهات, حتى صارت التربية الغالبة في العصر الحديث أن تترك للابن الحبل على الغارب, فيربيه نيابة عنا مسلسلات التليفزيون والمربيات المستوردات من الخارج. وقام علماء النفس بجريمة غامضة لم يعاقبهم عليها أحد, وهي جريمة توزيع كلمات صعبة مثل "احذر أن تصيب ابنك بالاكتئاب" ومثل "احذر أن يكون ابنك انطوائيا", ومثل "احذر من عقدة أوديب والكترا". وانهمرت في الصحف والمجلات وجهات نظر علماء النفس, وكان أكثرا لناس تأثرا بما يقوله العلماء هم الآباء والأمهات الجامعيين, هؤلاء الذين وثقوا بالحضارة المعاصرة وارتبطوا بها, ونسوا أنها حضارة تغير جلدها ومعلوماتها كل خمس سنوات على الأقل, وأن الوصول إلى حقائق نهائية في مسألة تربية الأطفال لم يتفق عليها أهل العلم وأصحاب النظريات. وعلى الآباء الحساسين أن يفرغوا آذانهم من تلال النصائح التي ألقاها سيل العلماء في آذانهم, وأن يلتفت كل أب إلى إحساسه الداخلي (دكتور سبوك 1961, تربية الأبناء في الزمن الصعب, ترجمة منير عامر ص 175-177, مطبوعات أخبار اليوم).
"إن احترام الآباء للأبناء أمر أساسي وهام. هذه هي الحقيقة النهائية التي يمكن أن نستخرجها من كل القواعد والنظريات التي ظهرت في النصف الأخير من القرن العشرين. ولكن الاحترام لا يجوز له أن يتحول إلى ستار نخفي وراءه ضعفنا أو نهرب خلفه من ممارسة مسئوليتنا نحو الأبناء. وليس جائزا لنا أن نكبت غضبنا بدعوى أننا نخشى على الأبناء من الكبت فنعيش في حالة غيظ, ويعيش الأبناء في حالة استهتار. كما أنه ليس جائزا لنا أن نحول غضبنا إلى قسوة مبالغ فيها بإهدار إنسانية الأبناء. إن هذا الإهدار يجعل الأبناء في حالة من الرعب المستمر من الحياة, ويزرع في نفوسهم التشاؤم, ويلقيهم في أحضان الإحساس بفقدان القيمة والاعتبار" (دكتور سبوك ص178).
لا تخف من الحزم والقليل من الشدة في معاملة أبنائك فإن كل الدراسات الحديثة لمعظم العلماء الواقعيين تتفق على ضرورة الحسم الحازم الواضح والدقيق مع الأبناء, وأن الأب المحب, الحازم, الحاسم, المتسامح, غير المتزمت, هو الأب الذي يعرف أن إحساسه يتجه إلى إنضاج ابنه بالتفاعل لا بالقهر, وبالتفاهم لا بالقسر, وبالحنان لا باللامبالاة.
ويتبع >>>>>: التنشئة الأسرية الموجهة نحو الصلاح الإنساني4
واقرأ أيضاً:
رعاية أبناء المطلقين / الآثار النفسية والاجتماعية لضرب الأطفال في المدارس