في هذه الأيام ومع تباشير الثورة العربية ضد القهر والطغيان التي انطلقت في تونس ثم مصر ثم ليبيا واليمن وغيره، نتحدث كثيراً عن الحرية وعن الديمقراطية وعن الشورى، وغالباً ما يكون حديثنا مرسلاً أو غير محدد المعالم وبالتالي تصبح هذه الأشياء أمنيات وأحلام يبعد أن تتحقق في الواقع، ولكي ننجو من هذا المصير علينا أن نتعرف على منظومة الحرية بشكل منهجي حتى إذا سعينا إليها كان سعينا راشداً ومثمراً.
ومنظومة الحرية هي عبارة عن سلسلة متماسكة الحلقات تبدأ بمفهوم الحرية ثم مفهوم المساواة (المواطنة) ثم آلية تحقيق هذين المفهومين (الحرية والمساواة) ثم نتيجة كل هذا وهو صلاح الحياة. ولنأخذها بشيء من الإيجاز:
1- الحرية: الحرية ليست مطلباً سياسياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً فحسب وإنما هي ضرورة وجودية ارتبطت بالنشأة الأولى للإنسان. وإذا عدنا إلى المشهد الكوني الذي تم فيه إعلان خلق الإنسان لوجدنا أن هذا المشهد تضمن إعلاناً مدوياً لمبدأ الحرية، ويتبدى ذلك في الحوار الحر بين الله والملائكة وحتى بين الإله القادر العظيم وبين إبليس، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 30]، (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [البقرة:34].
وتبدو قمة الحرية في إعطاء إبليس الفرصة للتعبير عن رأيه حتى وهو يتمرد على أمر الله بالسجود ولو شاء الله لقهره على السجود ولكنه درس عميق في الحرية وفي احترام الاختيار وفي تحمل مسئولية المخلوق لنتائج خياراته.
وخلق الإنسان نفسه بما يحمله من قدرة حرة على فعل الخير أو الشر، (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان:3)، كل هذا كان إعلاناً كونياً مدوياً لمولد الحرية كمكون أساس في الإنسان وكضرورة نفسية لوجوده ككائن يملك الاختيار ويملك الإرادة لتنفيذ خياراته ويتحمل مسئولية ذلك. وقد ضمن الله سبحانه وتعالى هذه الحرية للإنسان حتى ولو استغلت هذه الحرية في معصية الله والخروج عن أمره.
وقد تأكد مفهوم الحرية حين أعلن الله سبحانه وتعالى مبدأ عدم الجبر في الاعتقاد (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ....) (البقرة: 256).. (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...) (الكهف:29)، وإذا كان الله قد منحنا الحرية في الاعتقاد وحملنا مسئولية الاختيار، فمن باب أولى نكون أحراراً فيما دون ذلك.
إذن فالحرية ليست ترفاً في حياة الإنسان وليست من كماليات حياته وإنما هي من أساسيات وجوده، ولا تتحقق رسالته التي أرادها له الله إلا إذا تحققت حريته، فالمجبر غير مكلف وغير مسئول بالمعنى الكامل. وتبني مفهوم الحرية (سواء كان مفهوماً فلسفياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً) لا يكفي لتحقيقها وإنما يلزم وجود بقية مستويات المنظومة.
2- المساواة (المواطنة): هذا المبدأ غاية في الأهمية في منظومة الحرية، وهو يعني أن البشر كل البشر متساوين في الحقوق والواجبات ومتساوين في حقهم في الحرية، فكلهم من خلق لله. وهذا المبدأ حين يتحقق يستبعد حق إنسان في استعباد إنسان آخر على قاعدة أفضلية عرقية أو طائفية أو غيره، فالجميع لهم حق الحياة ولهم حق المشاركة، بمعنى أن الجميع لهم حق المواطنة في الدولة أو في الأمة أو في الأسرة البشرية كلها. وحين يختل هذا المبدأ يعتقد بعض الناس أنهم جديرون بالحرية دون غيرهم وأنهم فوق من يعتقدون أنهم دونهم وهنا تبدأ بذور القهر والاستبداد.
3- الشورى (أو الديمقراطية): وهي آليات لتنفيذ مفهومي الحرية والمساواة، وهذه الآليات تتشكل حسب الظروف فيمكن أن تأخذ صورة أهل الحل والعقد، أو صورة البيعة، أو صورة الانتخابات . وقد مرت البشرية بتجارب كثيرة سعياً نحو أسلوب أمثل لتحقيق مبادئ الحرية والمساواة ووصلت إلى نجاحات نسبية ولا نقول مثالية لذلك، فوضعت النظم والدساتير والآليات التي تمنع الاستبداد وتحافظ على الحرية. وهذه الآليات ليست هدفاً في حد ذاتها وإنما هي وسائل لتحقيق الحرية قدر الإمكان في حياة البشر وبالتالي يمكن أن يتم تطويرها وتعديلها من وقت لآخر.
4 - الصلاح: وبما أن الحرية والمساواة والشورى (أو الديمقراطية) ليست مفاهيم فلسفية مجردة وإنما هي مبادئ وأسس لصلاح الحياة فلابد وأن يتحقق هذا الهدف كثمرة لكل ما ذكرنا. وإذا حدث ولم يتحقق هذا الصلاح (عمارة الأرض) فلابد من مراجعة المفاهيم والوسائل السابقة للوقوف على مصدر الخلل.
واقرأ أيضاً:
المستقبل الدستوري لصاحب السيادة/ ثورة 25 يناير وعرس الاستفتاء/ حشود الإسلاميين ومخاوف الأوصياء/ باستيل مصر/ في روضة أطفال الديمقراطية: كى جي ون