عشرة أسئلة وإجابات حول: الرؤية المستقبلية لمصر -البحث عن المنهج المناسب-
ما ينقص قادة ما نطلق عليه أحزاب.. وطني ومعارضة.. وينقص العديد من الحيارى الذين يبحثون عن مخرج من أزمة مصر، ويغيب عن العديد من النشطاء السياسيين أصحاب النيات السليمة مثل د. البرادعي
دعوة للتفكير المنظّم.. تتجاوز مستنقع الانتخابات الذي نقاد إليه
(1) متى يفكّر الإنسان؟
ــ عندما تتغير الأوضاع الخاصة، أو العامة. ففي أحوال الثبات التام (وهذا فرض نظري) لا يحتاج الإنسان إلى التفكير . أمّا عندما تتغيّر بعض الأوضاع، يجد نفسه محتاجا للتفكير في أثر هذه التغيرات على نظم حياته المستقرّة، لكي يعدّل من مواقفه وتصرفاته، بما يناسبه. والتغيّر هنا قد يكون شعورا بالإجهاد، أو موقفا غير معتاد ممن هم حوله، أو ارتفاعا في سعر سلعة أو خدمة، إلى تغيّر مفاجئ في الطقس.
عند التفكير في هذه الأحوال، أحوال التغيير البسيط أو النسبي، يكفي الإنسان الاعتماد على خبراته السابقة، أو خبرات من هم حوله.
(2) ما هي أمثلة التغيرات النسبية في حياة البشرية؟
ــ امتدّ عصر الزراعة إلى ما يقرب من عشرة آلاف سنة.. وهو العصر الذي قامت فيه حياة البشر أساساعلى الزراعة في جميع قارات العالم. كلما انتقلت مجموعة من البشر من الاعتماد على القنص أو الرعي، إلى الاعتماد على الزراعة، مستقرّة فوق رقعة محددة من الأرض، سادت قوانين أساسية واحدة للحياة، رغم اختلاف الأعراق والأجناس والطبيعة والمناخ.
طوال ذلك الزمن الطويل، خضع أبناء المجتمعات الزراعية لنفس الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وسادت بينهم نفس منظومة القيم والأخلاق.
ملاحظة هامة: الثابت أن هذه الأسس جميعا نبعت من طبيعة الحياة الزراعية السائدة، والتي حددت أطر حياة البشر في المجتمعات الزراعية. ولقد بقيت تلك الأسس على حالها، طوال ذلك الزمن، رغم التغيرات النسبية العديدة التي طرأت على أفكار وعقائد وعلوم أبناء المجتمع الزراعي (وهذا يقود إلى أن طبيعة العمل السائد تحدد أسس حياة البشر).
(3) بماذا تختلف التغيرات النسبية عن التغيرات الكبرى؟
ــ في حالة التغيرات النسبية، يمكننا الاعتماد على السوابق، وعلى رصيد خبراتنا، أو خبرات من هم حولنا ممن سبقونا إلى المرور بتلك التغيرات.. وهكذا تتوفر المرجعيات للقياس والاستفادة. ويمكننا أن نرى أمثلة لذلك، في تبادل الخبرات والمعارف بين الحضارات المصرية والإغريقية والفارسية والهندية والإسلامية (التي كانت جميعا حضارات زراعية يعيش أهلها على الزراعة أساسا).
ــ في حالة التغيرات الجذرية الشاملة، تفقد الخبرات الحالية والسوابق قيمتها، ولا يجد البشر مرجعيات متاحة، في أي مكان على الأرض.. فالجميع يواجه نفس الأزمة. مثال ذلك انتقال البشر من الزراعة إلى الصناعة، في أعقاب اختراع الآلة البخارية. لم تعد الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومنظومة القيم النابعة من واقع الحياة الزراعية صالحة للتعامل مع الحياة الصناعية، بعد أن فقدت مرجعيتها.
وهذا هو أساس المشاكل المزمنة في مصر، لكل من يتصدّي للتفكير في الإصلاح عندنا، متصورا أن بالإمكان إصلاح أو إعادة بناء أي شيء على حدة دون أن ينبع ذلك من رؤية شاملة للتغيرات التي يمر بها العالم، سواء كان الإصلاح يتصل بالتعليم، أم الموارد الاقتصادية، أم النقل، أم الأسرة، أم بالممارسة الديموقراطية، أم بالفساد.
هذا هو سر إخفاق المخلصين الأذكياء، بين المفكرين والناشطين السياسيين، والمسؤولين الأمناء في دوائر الحكم عندنا، الذين يتصورون إمكان تحقيق شيء، قبل فهم طبيعة التغيرات الحادثة وأبعادها، ودون التوصّل إلى رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها الاستراتيجيات والخطط، في جميع مجالات الحياة.
(4) ماذا نفعل في مواجهة التغيرات الجذرية الشاملة؟
ــ نفعل ما فعله مفكّروا عصر الصناعة الأوائل. درسوا مؤشرات التغير الأساسية التي فرضتها طبيعة العمل الصناعي، التي يتواصل ويتزايد أثرها، والتأثير المتبادل بين تلك المتغيرات مثل:
أ ـ ما أتاحته الطاقة الميكانيكية من إنتاج على نطاق واسع واستهلاك على نطاق واسع.
ب ـ وما ترتّب على ذلك من انفصال للإنتاج عن الاستهلاك.
ج ـ ممّا اقتضى قيام السوق بمعناها المستجد، وما ترتب علىّ هذا من مؤسسات اقتصادية مستجدة. واكتشفوا سقوط النظم النابعة من عصر الزراعة،في الأسرة، والتعليم،و الإدارة والعمالة والعمل وفي النظم الاقتصادية وتشكّل منظومة جديدة للقيم والأخلاق.
د ـ واكتشفوا المبادئ الجديدة التي يقوم عليها عصر الصناعة، والتي تختلف ـ بل وتتناقض كثيرا ـ مع المبادئ التي قامت عليها الحياة طوال العمر الممتد لعصر الزراعة.
هـ ـ تلك المبادئ التي اقتضاها قيام الحياة على الصناعة مثل: النمطية والتوحيد القياسي لكل شيء ـ ضبط الزمن وتحقيق التزامن ـ التخصص الضيّق ـ التركيز في كل شيء ـ المركزية الشديدة ـ عشق الضخامة.
ونشط المفكرون في رسم إطار الرؤية المستقبلية لبلادهم، وفقا لمدى تحوّلهم من الزراعة إلى لصناعة. ومع كل الاختلافات بين المجتمعات الصناعية في العالم ـ على مدى ثلاثة قرون تقريبا، هي عمر عصر الصناعة ـ ظهر أن أسس الحياة الصناعية كانت واحدة، وقد خضعت لتلك الرؤية جميع المجتمعات الصناعية في جميع القارات، وسواء كانت تمضي وفق النظم الرأسمالية أم الاشتراكية.
والسرّ في هذا، هو أن التكنولوجيا السائدة، تفرض نوع العمالة السائدة، وتنتهي في آخر الأمر برسم أسس الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
و هذا يتم على ثلاثة مراحل:
(أولا) تقوم التكنولوجيا الجديدة بالعمل الذي كان الإنسان يقوم به.
(ثانيا) توفّر هذه التكنولوجيا إمكانات في العمل، لم يكن ـ ولن يكون ـ بإمكان الإنسان أن يقوم بها.
(ثالثا) بناء على ما سبق، تتحوّل البنى الاجتماعية والاقتصادية القائمة، إلى نظم اجتماعية واقتصادية جديدة.
ويمكننا فهم هذا بشكل أوضح لو تأملنا التحول في مبادئ الحياة بين عصري الزراعة والصناعة.
ودراسة هذا التحوّل تساعدنا كثيرا في تناول التحولات الكبرى التي نمر بها الآن، والتي تتجاوز ـ في قوّتها وتسارعها ـ انتقال البشر من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة.
(5) هل يفيدنا هذا في فهم التغيرات الكبرى التي يمر بها البشر حاليا؟
ــ يفيدنا كثيرا أن ندرس تحوّل البشر من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، في فهم التحوّل الحالي من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات (لماذا هذه التسمية، ومن أين أتت، سنطرحه فيما يلي من تساؤلات). نحن نمرّ بنفس التغيرات الكبرى التي سبقت عصر الصناعة، ولكن بشكل أكثر قوّة وتأثيرا وشمولا. تغيرات اليوم متلاحقة متسارعة بطريقة غير مسبوقة، وهي تلاحقك شئت أم أبيت.. طوال عصر الصناعة، كان بإمكان دولة ما أن تقرر المضي في حياة الصناعة بنفس أسس عصر الزراعة. هذا إذا لم يجد الاستعمار النابع من طبيعة النظام الصناعي حاجة لاستعمارها.. أمّا اليوم فليس بإمكان أي دولة صغيرة أو كبيرة، قريبة أو بعيدة، أن تتجاهل التحوّل الشامل إلى عصر المعلومات.
(6) كيف نرسم معالم الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات؟
ــ نفعل مافعله المفكرون الأوائل لعصر الصناعة، من موقع أفضل، بفضل قدرتنا على دراسة مرحلة التحوّل الأخيرة من الزراعة إلى الصناعة، والاستفادة منها في فهم التحوّل الجديد.
أولا: ندرس مؤشرات التغير العظمى التي طرأت على حياتنا منذ منتصف القرن العشرين تقريبا.
ثانيا: نختار منها المؤشرات متزايدة التأثير، ومطّردة النمو.
ثالثا: ندرس التأثيرات المتبادلة بين تلك المؤشرات الأساسية المختارة.
رابعا: نحدد المبادئ الأساسية للمجتمع الجديد، ونتتعرّف على آثار الاعتماد على التكنولوجيا المعلوماتية (الرقمية) في صياغة الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للحياة في المجتمع لجديد.
خامسا: ومن هذا يمكن أن نرسي أسس الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات.
(7) لماذا نطلق اسم مجتمع المعلومات على المجتمع الجديد؟
ــ رغم إنه من الصعب أن نقصر أسباب الانتقال من عصر لآخر على سبب واحد أو سببين، إلا أنه من الواضح أن التغيرات الأساسية التي مرّت بها حياة البشر، منذ منتصف القرن العشرين، ترجع إلى حدّ كبير إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم "ثورة المعلومات".
ولكي نفهم مدلول هذا الاسم، نطرح ما يمكن أن نطلق عليه "الدائرة النشطة". على محيطها تنتظم عناصرها التي تقود إلى بعضها البعض بشكل متواصل. هذه العناصر هي:
أولا: تزايد لمعلومات المتاحة وتدفقها. بفضل تطوّر وسائل الاتصال والانتقال.
ثانيا: قاد هذا إلى ضرورة تطوير تكنولوجيات المعلومات، لمواجة ذلك التدفّق.
ثالثا: قاد هذا بدوره إلى المزيد من اندفاع وتوالد المعلومات والمعارف، ممّا أتاح للبشر أن يتحرروا من نمطية المجتمع الصناعي، وأن يتعرّفوا على أساليب حياة تختلف عن أسلوب حياتهم.. فبدأ الناس يتمايزون في مشاربهم وتوجّهاتهم وفي رغباتهم وساليب حياتهم.. وهذا التمايز في حدّ ذاته خلق المزيد من المعلومات.. وهكذا مضت الدائرة النشطة.
رابعا: هذا التفاعل المتسلسل، والذي يقوم على التعامل مع المعلومات، هو الذي قاد إلى تسمية "مجتمع المعلومات".
(8) بماذا تفيد الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات؟
ــ الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات، هي التي نستنبط منها مستقبل أي شيء في مجتمع المعلومات، في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية (كمستقبل الأسرة، أو التعليم، أو العمالة، أو الإدارة، أو الاقتصاد، أو الممارسة الديموقراطية، أو الإعلام)، وتدلنا على المبادئ الأساسية لمجتمع المعلومات، من حيث اختلافها عن المبادئ التي سادت عصر الصناعة، والتي تفيد التحوّل:
* من العمل الجسدي، إلى العمل العقلي.
* من انتاج البضائع، إلى انتاج المعلومات (بالنسبة لمركز ثقل الإنتاج).
* من المركزية إلى اللامركزية، ومن التنظيم الهرمي إلى التنظيمات الشبكية.
* من تلويث البيئة إلى حمايتها.
* من وقود الحفريات إلى أشكال جديدة ومتجددة من الطاقة.
* من الاقتصار على المواد الخام المستخرجة من جوف الأرض، إلى الاعتماد على الخامات المخلّقة.
* من فصل الإنتاج عن الاستهلاك، إلى اقتصاد تعاوني، وإنتاج من أجل الاستهلاك الشخصي.
* من التمثيل النيابي، إلى المشاركة في اتخاذ القرار.
* من الاعتماد على المؤسسات، إلى الاعتماد على الذات.
* من الاقتصاد القومي، إلى الاقتصاد العالمي (جلوبال).
(9) وماذا عن الرؤية المستقبلية لمصر؟
ــ التوصّل إلى الرؤية المستقبلية لمصر، يقتضي الوضوح حول أمرين، الهدف، والمنطلق:
أولا: الهدف المنشود هو اللحاق بركب التطور العالمي، من خلال الرؤية المستقبلية الشاملة لحقائق مجتمع المعلومات، وهو ما طرحنا جانبا من عناصره الأساسية في الأسئلة السابقة.
ثانيا: نقطة الانطلاق، أو الأرض التي نقف عليها، ونحن نمضي في رحلة إعادة البناء نحو المستقبل. أي الوضع الراهن لمصر.. وبخاصّة ما يمكن أن نطلق عليه "الخريطة الحضارية الراهنة لمصر".
(10) ما هي الخريطة الحضارية الراهنة لمصر؟
ــ هذا يعني أن نرصد بأمانة موقعنا على سلّم تلاحق الحضارات البشرية. أو بمعنى آخر: لقد تعاقبت على البشر ثلاث حضارات كبرى، أو أنماط حياة كبري، هي نمط الحياة الزراعية، ثم نمط الحياة الصناعية، وأخيرا نمط الحياة النابع من احتياجات مجتمع المعلومات. ولقد أخذت المجتمعات والدول المختلفة، بنسب مختلفة من تلك الأنماط، وفقا لحظوظها من استخدامات التكنولوجيات الخاصة بكل نمط، ونسب شيوع مبادئ كل عصر من عصور التطوّر المشار إليها.
الدراسة المطلوبة تستهدف معرفة نسب انتماء شعب مصر إلى كلّ من أنماط الحياة هذه.
* إلى أي مدى يعيش الشعب المصري بمنطق عصر الزراعة.
* وإلى أي مدى قد تبنّى منطق عصر الصناعة.
* وما حجم القلّة التي اقتحمت جهد تبنّي منطق عصر المعلومات.
وضوح هذه النسب، يرسم الخريطة الواقعية التي نقف عليها.. وهذا يحدد نوع الجهد المطلوب منا لكي ننتقل بالحياة المصرية إلى واقع مجتمع المعلومات، ويكون أساسا لعملنا ونحن نرسى استراتيجيات إعادة البناء، ونترجمها إلى خطط متكاملة، وبرامج زمنية واقعية, ويحدد نوعية خطط التنمية التي نأخذ.
* * *
التساؤلات العشرة السابقة، والإجابات عنها، تفيد أن معركتنا الرئيسية هي معركة فكرية.. نحن في حاجة إلى إشاعة وعي جديد بحقيقة موقعنا وطبيعة هدفنا، ليس فقط بين الشباب والناشئة، ولكن أيضا بين المتنفذين في حياتنا على أعلى المستويات، وبين جميع السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية..و بين القيادات الفكرية في المجالات الأكاديمية والثقافية والإعلامية.
تجاربنا الفاشلة المتكررة لحلّ مشاكلنا، وإعادة بناء مصر على أسس معاصرة، لا ترجع إلى قصور في ذكاء ساستنا ومفكرينا المنشغلين بأوضاعنا المتردّية، أو إلى نقص في جهودهم، كما لا يرجع شيوع الفساد في مختلف مستويات مجتمعنا، لكنّه يرجع أساسا إلى عدم إدراك أهمية التوصّل إلى: رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها استراتيجيات وخطط متزامنة، تربط بين حركتنا في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفق الأولويات التي تناسب قدراتنا.
واقرأ أيضاً:
ثورة 25 يناير وعرس الاستفتاء/ حشود الإسلاميين ومخاوف الأوصياء/ باستيل مصر/ في روضة أطفال الديمقراطية: كى جي ون/ منظومة الحرية