(سيكولوجية البشر في المظاهرات والاحتجاجات والثورات)
كنت في حالة ذوبان إنساني رائع في أحد أيام الثورة المصرية العظيمة في ميدان التحرير في يوم الجمعة حيث الملايين الهادرة تتحرك نحو هدف مشترك على الرغم من عدم وجود قيادة محددة معروفة بالاسم، وكان يدور في خاطري ما ذكره علماء النفس والاجتماع السياسي عن سلوك الحشد وطبيعته، وكنت أقفز بعقلي ووجداني بين ما قرأته في الكتب وما أعيشه في الواقع.
فقد اهتم علماء النفس بسلوك البشر حين يتجمعون في أعداد كبيرة حيث اتضح اختلاف سلوكهم في هذه الحالة عن سلوكهم في حالاتهم الفردية، وكأن الحشد (التجمع) يأخذ أبعادا نفسية تتجاوز مجموع اتجاهات وآراء الأشخاص منفردين، وكأن تغيرا نوعيا يطرأ يساعد على خروج أفكار ومشاعر لم تكن متاحة لوعي الفرد في حالته الفردية أو في التجمعات الصغيرة (عدة أفراد)، وهذه هي خطورة سلوك الحشد، وهذا هو السبب وراء حرص السلطة (أي سلطة) على تجنب المواقف الحاشدة للجماهير خاصة حين تكون غاضبة أو تكون ممنوعة من التعبير لفترات طويلة حيث تصبح إمكانات الانفجار المدمر أكثر احتمالا.
ويصف جوستاف لوبون الجماهير في حالة احتشادها وانفعالها واندفاعها وغضبها بأنها "أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي، وكما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسي الذي يجعل شخصا ما يغطس في النوم فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات وإيعاذات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها، وفى مثل هذه الحالة من الارتعاد والذعر فإن كل شخص منخرط في الجمهور يبتدئ بتنفيذ الأعمال الاستثنائية التي ما كان مستعدا إطلاقا لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلة. فالقائد أو الزعيم إذ يستخدم الصور الموحية والشعارات البهيجة بدلا من الأفكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير".
ويمكن تفسير سلوك الحشد على أنه خروج للمشاعر المكبوتة بعد إزالة عوامل الكبت والقمع مع الإحساس بالأمان في وسط المجموع ومع هدير أصوات الشعارات الجماعية وبتيسير من قائد يعرف ما يعتمل بطبقات الوعي الأعمق للجماهير فيناديها ويحركها، أي أن القائد الجماهيري هنا لا يستلب الجماهير ولا ينشئ موقفا جديدا وإنما ييسر خروج مشاعر مكبوتة لديهم ويوجهها إلى حيث يريد بموافقة الجماهير.
وفى حالات التجمع والحشد يتكون ما يسمى بالجمهور النفسي، وهو كيان نفسي اجتماعي مؤقت يقوم بدور مطلوب من قبل هذا الكيان. ويصف لوبون هذا الجمهور النفسي بقوله: "الظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي التالية: أيا تكن نوعية الأفراد الذين يشكلونه وأيا يكن نمط حياتهم متشابها أو مختلفا، وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم أو ذكاءهم فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية، وهذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولا، وبعض الأفكار والعواطف لا تنبثق أو لا تتحول إلى فعل إلا لدى الأفراد المنضوين في صفوف الجماهير"...
"إن الجمهور النفسي هو عبارة عن كائن مؤقت مؤلف من عناصر متنافرة ولكنهم متراصو الصفوف للحظة من الزمن، إنهم يشبهون بالضبط خلايا الجسد الحي التي تشكل عن طريق تجمعها وتوحدها كائنا جديدا يتحلى بخصائص جديدة مختلفة جدا عن الخصائص التي تملكها كل خلية"..... وفى حالة الذوبان هذه يحدث "تلاشى الشخصية الواعية، وهيمنة الشخصية اللاواعية، وتوجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، والميل إلى تحويل الأفكار المحرض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة، وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، وإنما يصبح عبارة عن إنسان آلي ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده".... ولذلك يرى لوبون أن "الجمهور دائما أدنى مرتبة من الإنسان الفرد، فيما يخص الناحية العقلية الفكرية، ولكن من وجهة نظر العواطف والأعمال التي تثيرها هذه العواطف فإنه يمكن لهذا الجمهور أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ – وكل شيء يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه أو تحريكه به".
والسلطة تعرف بفطرتها كما تعرف بمفكريها وعلمائها كل هذه الحقائق عن سيكولوجية الحشد وطبيعة الجماهير أثناء المظاهرات أو التجمعات الهائلة لذلك تحول قدر الإمكان دون تكون هذا الكائن الخطر، وإذا حدث وتكون فإنها تحاول حرمانه من قائد يوجه حركته ضدها، أو تدفع هي بقائد يوجه حركة الجمهور في صالحها، أو تحاول تملق هذه الجماهير بإظهار احترامها وتقديرها (في الوقت الذي تنظر فيه السلطة إلى الجماهير بأنها لا عقلانية ولا منطقية وكأنها تتعامل مع طفل صغير تريد استرضاءه حتى يهدأ ثم تفعل هي ما تشاء بعد ذلك)، وفى حالة السلطة الطاغية المستبدة يكون الحل هو قمع هذه الجماهير أو تفريقها بقوات الشرطة وإذا استدعى الأمر قوات الجيش، وقد تفشل هذه الجهود أو تنجح بناءا على موازين القوى بين السلطة والجماهير والتي كثيرا ما تتغير بتعاطف أو انضمام قطاعات من السلطة إلى صفوف الجماهير خاصة حين تكتشف تلك القطاعات أن فردا يريد استخدامها لسحق الجماهير لصالحه وأنه لا يدرك عواقب ما يفعله، خاصة وأن قوى الشرطة والجيش في لحظات حرجة في المواجهة تتذكر أنها منتمية إلى هذه الجماهير انتماء قرابة وانتماء مصير، وهنا تتمرد على رأس السلطة (خاصة إذا كان فردا) وتنحاز إلى الجماهير فتنقلب موازين القوى بسرعة وتنتصر إرادة الجماهير.
وفى وسط الحشد يشعر الفرد بالأمان لأنه الآن جزء من كيان ضخم يصعب عقابه أو مساءلته، ويتمركز الشخص حول هذا الكيان الضخم أكثر من تمركزه حول ذاته، ويضعف التزامه بالقيود السياسية أو الاجتماعية أو الأمنية أو الأخلاقية، ويتوحد مع الجموع الهائجة في حركة أقرب ما تكون إلى حركة القطيع، وتصبح العواطف الملتهبة هنا هي سيدة الموقف فتتحرك الجموع بمشاعر الحرمان أو الرغبة أو الظلم أو القمع أو الإحباط أو الغضب.
وسلوك الحشد من الناحية النفسية أشبه ما يكون بالهستيريا الجماعية حيث يبدأ الحشد بفرد أو مجموعة من الأفراد يظهرون حماسا معينا بشكل مؤثر فينتقل هذا الحماس بما يشبه العدوى إلى الأفراد المحيطين بهم ثم تتسع دائرة العدوى بسرعة تتوقف على قدرة المحركين للحماس وعلى الحالة الانفعالية لبقية الجموع وكل هذا يحدث بشكل غير واع. ولكي يحدث هذا لابد من وجود أرضية مشتركة تدعم انتقال هذا الحماس وتصاعده بشكل تلقائي وسريع، كأن يكون تحمسا وحبا لفريق كرة معين أو كرها وغضبا تجاه شخص أو نظام معين، أو استجابة لشائعة أو فكرة تجد لها في اللاوعي مقابلا يدعمها، كل هذا يوفر أرضية مشتركة للتحرك الجماعي غير الواعي والذي يفجر طاقات طال كبتها في اللاوعي الفردي والجمعي على السواء.
وسلوك الحشد لا يقتصر على المواقف السياسية التي نراها في المظاهرات، وإنما نراه أيضا في مباريات كرة القدم حيث تندفع الجماهير في حماس طاغ نحو تأييد فريق معين أو الغضب من قرار الحكم فينفلت عيارها وتندفع في خطورة بلا ضابط أو رادع، وقد يؤدي ذلك إلى كارثة يموت فيها الكثيرون أو يصابون.
ومثال آخر لسلوك الحشد حدث في وسط القاهرة في شارعي عدلي وطلعت حرب وأمام سينما مترو حين حضرت إحدى الراقصات لترقص أمام السينما ترويجا لفيلمها، واندمجت في الرقص وظهرت ملابسها الداخلية المثيرة وسط حماس الشباب الهائج فاستدعى ذلك من ذاكرتهم صورا ومشاهد أكثر عري للراقصة واستدعى بعضهم أو أكثرهم مشاهد تسربت عبر اسطوانات كومبيوتر تصور الراقصة في أوضاع جنسية، إضافة إلى ذلك كان هناك مطرب شعبي مبتدئ دخل عالم الشهرة من خلال أغنية تتحدث عن العنب لتسقط عليه تلميحات وتصريحات جنسية فاضحة ومثيرة، كل هذا في أول أيام عيد الفطر عام 2006 حيث يتناول بعض الشباب أنواعا من المخدرات والمسكرات تساعد على إذابة ضمائرهم وانفلات رغباتهم وغرائزهم وهنا انطلقت الجموع الهائجة من الشباب في حالة سعار جنسي غير مسبوق في وسط مدينة القاهرة تحت سمع وبصر الناس والأمن وكان الجميع في دهشة ربما لتسارع الأحداث واختلاط الحابل بالنابل، كل هذا حدث على الرغم مما هو معروف عن المجتمع المصري أنه مجتمع متدين ومحافظ، وذلك دليل على أن هناك شيئا ما كان يجري تحت السطح مفاده أن هناك أعدادا هائلة من الشباب تعاني كبتا وجوعا جنسيا ولا تجد منصرفا لذلك بل تجد استثارة مستمرة لكل ذلك عبر الفضائيات ومواقع الإنترنت، كل هذا تفجر في لحظة معينة وفي ظروف معينة فتحولت أعداد غفيرة من الشباب (الذي ربما يبدو كل منهم بمفرده مؤدبا وملتزما بالدين والأخلاق والعرف والتقاليد) إلى حيوان يبحث عن إشباع شهواته خاصة حين تيقن من غياب أو ضعف الضابط الأمني والاجتماعي في هذا السياق.
وفي ثورة 25 يناير 2011 م كان هناك نوع آخر من الحشد الثوري قام به مجموعة من الشباب المصريين الذين حفزوا الناس للخروج من أجل الخبز والحرية والكرامة الإنسانية، وقد حاولت السلطات المصرية المنضوية تحت نظام حسني مبارك قهر هذه الانتفاضة في مهدها بالقوة البوليسية من خلال استخدام خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي والحي، ولكن كل هذه الممارسات القمعية كانت تزيد الثورة اشتعالا حتى نجح الثوار في قهر نظام سلطوي مستبد غاشم ربض على قلب مصر والمصريين ثلاثين عاما.
والعجيب أن الحشد في هذه الثورة الحضارية العظيمة خالف كثيرا من افتراضات "جوستاف لوبون" وغيره من العلماء، حيث كان حشدا رشيدا عاقلا، لم يمارس عنفا أو تخريبا، بل حافظ على سلمية حركته وتدفقه رغم أن هذا الحشد قد تجاوز الملايين العشرة في القاهرة والمحافظات ولأيام عديدة، وقد استطاع ضبط نفسه وضبط حركته على الرغم من استفزازات السلطة وتحرشات البلطجية التابعة لها، ولهذا كانت الثورة المصرية نموذجا لأكبر حشد بشري في أي ثورة على مدى التاريخ الإنساني، ونموذجا لحضارية الحشد وتعقله على الرغم من عدم وجود قيادة موحدة لهذا الحشد، إذ يبدو أن القيادة كانت تتمثل في العقل الجمعي المصري الذي احتفظ في طبقاته العميقة بقيم حضارية سامية.
واقرأ أيضاً:
باستيل مصر/ في روضة أطفال الديمقراطية: كى جي ون/ منظومة الحرية/ الرؤية المستقبلية لمصر/ لا.... للإحباط.