(مدخل محدود من كتاب مقدمة في العلاج الجمعي 1978)
مقدمة:
هذا المقتطف الذي أبدأ به تقديم بعض لمحات من الكتاب المقدمة 1978 تعمدت أن يكون بعنوان "علاقة هذا العلاج بالمدارس النفسية المعاصرة" لأتجنب مسئولية أكبر لو كان العنوان "علاقة العلاج الجمعي بالفلسفة"، مثل عنوان اليوم لأسباب سترد في النشرة. سوف أكتفي اليوم بعرض النص كما نشر في حينه علي أعود لمناقشته وتحديثه لاحقا، مكتفيا الآن بإشارات محدودة لعناوين الإشارات التي وصلتني خلال هذه المدة (ثلث قرن):
أولاً: ساعدني المستوى التعليمي والثقافي لكل هذه المجموعات أن أتأكد من أن الفلسفة ليست كما يتصور المثقفون والأكاديميون، بل هي معايشة كل إنسان من حيث هو إنسان.
ثانياً: ساعدتني الألعاب النفسية بوجه خاص على كشف حركية ديالكتيك النمو من خلال التوليف الحيوي الماثل.
ثالثاً: اتضح لي أكثر فأكثر أن مفهوم "فعل الفلسفة" يتجلى من خلال التركيز على قاعدة "هنا والآن"
رابعاً: عايشت بشكل محدود أثناء بعض التفاعلات في الجلسات وبعد الجلسة في المناقشات بين المتدربين والمشاهدين، إضافات دالة عن "ثقافة السؤال" وطزاجة الدهشة وقنوات المعرفة. أكتفي بهذا القدر وقد لا أعود له مستقبلا إلا حين تعرض عينات من التفاعلات والمناقشات.
المقتطف: (ص129):
.... فضلت أن أستبدل بكلمة الفلسفة تعبير "بعض المدارس الفلسفية" ليصبح العنوان (علاقة هذا العلاج ببعض المدارس الفلسفية) كمدخل متواضع لأؤجل فتح النار عليّ بعض الوقت، فأنا أنتظر أن يأتيني الهجوم من أكثر من مصدر، بل من المصدر ونقيضه أي من الفلسفة، ومن رافضيها معا (أو بالأصح الخائفين منها)، أما محبوها فقد يثارون حين يتصورون أن شخصاً مثلي -بقصوره وتقصيره- قد دخل محرابهم بلا استئذان وبلا استعداد كاف، والحقيقة أني ما دخلت محرابهم دعيَّا أو متخطياً ولكنهم أول من يعلمون ثمن الرؤية، وضريبتها، وعبئها ومصير حابسها، وقد أكون في هذا السبيل مجرد خادم طفل يحمل الماء المقدس بمحرابهم إن رضوا.....،
أما الفريق الرافض (أي الخائف) فأغلبه من الزملاء الأطباء وكثير من علماء النفس الذين ستثور حساسيتهم (بالمعنى الطبي العادي Allergy) عند ذكر كلمة فلسفة... ولسان حالهم يقول "ما لهذا الدعي يريد أن يرجع بنا إلى الغموض والتعميم.. ونحن ما صدقنا أن وجدنا المعمل والتحديد"؟ وأحاول أن أذكر زملائي الأطباء بقول أبينا أبي قراط "إن كل ما يصلح للطب يصلح للفلسفة وما يصلح للفلسفة يصلح للطب...الخ" ولكني أكاد أسمعهم يرددون أن هذا كلام قد مضى عهده واسْألْ أجهزة الأشعة والتشخيص الصوتي... الخ فألتفت إٍلى علماء النفس الرافضين لأذَكَّرهم أن هذا البتر التعسفي بين علمهم وبين الفلسفة قد جنى على الاثنين فيأتيني الرد تخيلا "..بل هو ارتقى بعلم النفس إٍلى العلوم المحددة Science Exacte "وأكاد أسمعهم يكملون" وترك الفلاسفة في غيابات التأمل"، ولا أطيل بعد هذه العجالة الضرورية ولكني أقول أنه بالرغم من هذا وذاك فلابد من قول كلمة أعتقد أنها الحق الشخصي في هذه الآونة.
* * * * * * *
.... عرفت الفلسفة من ممارسة مهنتي -وأعتذر لأهلها ثانية- ووصلت إٍلى بعض مسائلها مواجهةً، ومحاولة حلٍّ من خلال تحدِّي مرضاي وهم يقذفون في وجهي بمشاكل الوجود والصيرورة وأنا لا أجرؤ أن أسمي هذا أو ذاك بالعرض الشائع "أفكار شبه فلسفية"، بل إني توصلت من خلال حوار حي معهم وتفاعل وتجارب بشرية إلى بعض مفاهيم كان لا يمكن أن أصل إليها من خلال القراءة مهما بلغت، (ومنها مفهوم الديلكتيك كما سيأتي بعد). إِذاً فأنا قد فرض عليّ أن أقترب من هذا المحظور فرضاً.
هذه واحدة، أما الثانية فترجع إٍلى تعريف الفلسفة ذاته، حيث يتصور كثير من الناس كل تصور عن ماهية الفلسفة إلا حقيقتها، وقضية تعريف الفلسفة قضية طويلة، هل هي الحكمة أم حب الحكمة، وهل هي دراسة المعارف أم أصل المعارف، وهل هي علم الوجود أم علم الموجودات أم ليست علماً أصلا، وهل هي دراسة القيم الجزئية أم دراسة النسق الفكري المتكامل أم هي النشاط العقلي ذاته، وهل هي معرفة الواقع أم ما هو ليس واقع لكنه واقع... إلى آخر هذه الحيرة المخفية، ولكني خرجت من هذه الدوامة بإيماني بثلاث حقائق أو آراء.
أولاً: أن حب الحكمة غير ادعاء الحكمة، وأن الفلسفة غير التفلسف، وأن كل ما يمكن أن نتعلمه ونعلمه هو التفلسف وليست الفلسفة، وبالتالي فالذي يصعب علينا هو التفلسف والذي تخيفنا معايشته هو الفلسفة.
ثانيا: أن قول أحد الوضعين المنطقيين مؤخراً ".. إن الجمع بين العلم والفلسفة أصبح ضرورة لا غنى عنها، وأن الفصل الذي تم بينهما في غضون القرن التاسع عشر كان له أسوأ النتائج على العلم والفلسفة على السواء" هو قول أصدق ما يكون على علمنا هذا.
ثالثاً: أن معرفة الفلسفة هي ممارسة أساساً ثم تنظير لاحق، وأنه بغير احتمال شجاعة هذه الممارسة فإننا سنمارس عملية عكسية هي وأد كل محاولة فلسفية متواضعة لحساب الشعور بالنقص والخوف (ولا أنسى أستاذنا محمد كامل حسين وقد وقع في قبضة عملاقنا العقاد ينعته بالمجبراتي لأنه تجرأ وكتب رؤيته المتواضعة في "وحدة المعرفة").
وأخيراً:
- ومن واقع مهنتي لابد أن أوضح رؤيتي كمقدمة تبرر ما أنا مقبل عليه من ربط الفلسفة (لا التفلسف) بهذا العلاج، فأقدم مفهوماً خطر ببالي كطفل حامل للماء المقدس لأهله ليس إلا: "الفلسفة هي المحاولة المستمرة المتجددة للحياة المغامرة في اتجاه معين، في لحظة ما، مع قبول تغير هذا الاتجاه دائما مع استمرار المحاولة، ويصحب ذلك عادة درجة من التنظير المعرفي مع احتمال مخاطر الخداع اللغوي عند التعبير لنقل هذه المحاولة إلى الآخرين..، كما يصحبه دائماً تأليف مستمر بين متناقضات الوجود وتجميع مبسط لجزئيات المعلومات (أو العلوم) في مبادئ أولية بسيطة، تتفق مع الاتجاه الآني، وقد تتغير بتغيره".
إذن، فالفلسفة مرادفة عندي للحياة النابضة للإنسان إذ هو متناه يسعى إلى اللا متناه مستعملا في ذلك مكاسبه التطورية وخاصة الرمز والتجريد والإبداع في رحلة وجودية صيرورية معرفية مغامرة. فإِذا تأملنا هذا الذي انتهيت إليه وراجعنا هذا البحث في أناة لوجدنا أبطالنا جميعاً فلاسفة (بالممارسة)، ولكن ما بَخَسهم حقهم هو أنهم أجهضوا المحاولة بالفشل والعجز والشكوى حين ظهرت الأعراض وجاءوا يطرقون باب العلاج..، وإني إذ ألقي بهذا القول بهذه الدرجة من الوضوح لا أجد تعارضاً بينه وبين ما قلت في فقرة التزامي وإيماني بالتفكير العضوي البيوجي، بل على النقيض من ذلك أجده مكملا له تماماً، فإني أعيش على أمل أن يتفلسف الأطباء وهم يخطون خطواتهم المتواضعة في الحياة اليومية العملية بمعارفهم العضوية الثرية من كيمياء وطبيعة وفسيولوجي... الخ، وأن يخوض الفلاسفة دنيا البيولوجي في غير تردد، وقد فعلها منهم الكثيرون وأثروا معارفنا الطبيعية والرياضية بلا حدود...
وقبل أن أدخل في موضوعنا مباشرة أشير أخيراً إلى أني تصورت يقيناً أن أغلب الفلاسفة عبر القرون كانوا يحلمون بمعمل للأفكار: يحققون فيه أفكارهم ويتحققون منها يُوَلِّدو غيرها ما أمكن، كما أن بعضهم قد تمثل أن هذا المعمل هو الحياة العامة - والسياسية بالذات مثل حلم أفلاطون بالملك الفيلسوف (ومحاولاته) وكذلك محاولات الماركسيين مؤخراً...، وأعتقد أن كثيراً مما أصاب الفلسفة على أيدي أبنائها كان نتيجة للحماس لهذا الحلم وللتعجيل في تحقيقه.
وقد كادت الفلسفة كمبحث في الوجود أو القيم وتعريف بالإنسان أن تنتهي على أيدي الذين خدعوا في المعملية السطحية من بيكون إلى الوضعيين المنطقيين، إلى علماء النفس، ورغم ذلك فإن في هذا وحده دليل على إلحاح هذا الحلم، ولكني لا أزال أرى أن حلمهم مازال قابلا للتحقيق ولكن ليس في معمل بالمواصفات الشائعة الآني ولا في تجربة سياسية اقتصادية شاملة لن يستوعبها الأغلب وقد يشوهونها تعجلا أيضا.
وأَكاد أقول أني أثناء هذا العلاج قد خيل إِليّ أحيانا أني في مثل هذا المعمل، بل تطور تصوري أنه ليس معملاً لاختبار الأفكار فحسب بل إنه مصنع أيضا لممارستي هذه الأفكار، أو مصنع للفلاسفة (بالمعنى الأعمق ولكنه لا ينبغي أن يكون مغضباً للمتفلسفين بحال)... وكنت أرجع دائما ومباشرة إلى مقاييسي المحددة (زوال الأعراض، والإنتاج والتكيف والالتزام... الخ)، وقد لاحظ بعض المترددين ذلك وهاجموني بشجاعة وصراحة بشأنه وأنهم يرفضون أن يكونوا إلا فئران تجارب، ولم أدافع عن نفسي ولم أتخلى عن مسئوليتي، ولكن ردي كان "أن الفلسفة قد فرضت علينا لظهور الأعراض ومجيئكم، وبالتالي فليس أمامنا إلا المواجهة حتى وإن شملت التجريب.. وعلى من ينسحب أَن يفعل ذلك على حسابه... ولحسابه".
هذا عن علاقة العلاج بالفلسفة من حيث هي الحياة وهو ما يخص العنوان الذي ألغيته (والذي كان في المسودة) فماذا عن علاقة هذا العلاج ببعض المدارس الفلسفية كما أصبح العنوان بعد التعديل؟.
ذكر الباحث في نهاية بحثه أن روح هذا العلاج الكامنة يغلب عليها الفلسفة الوجودية من جانبها الإيجابي، والحقيقة أن هذا هو الإيحاء الذي يتبادر إلى الذهن إزاء هذا الاتجاه العلاجي بصفة عامة، وأشعر برفض جزئي لهذا التصنيف... (الذي امتد إلى مجالات أخرى من نشاطي الفكري حيث وضعني أستاذي الدكتور عسكر ذات مرة في هذا الاتجاه... وكذلك وصفني من قرءوا روايتي "المشي على الصراط"... الخ)، ولابد أن أناقش هنا مدعاة رأيهم ومصدر اعتراضي، فهذا الباحث (وغيره ممن علق على اتجاهي في المهنة وغيرها) لهم كل الحق حين ينظرون إلى القضية التي أتناولها من خلال ممارساتي أنها قضية كيانية تتعلق بالوجود وجوهره، وهذا صحيح حتى أني اتجهت في مرحلة من تفكيري (حيرة طبيب نفسي) إلى تصنيف الأمراض النفسية إلى أمراض كيانية (وهي مركز اهتمامي) وأمراض تكيفية (وهي على هامش انتباهي...).
وأول احتجاج مني هو أن الفكر الوجودي يبدأ من مقولة الوجود قبل الماهية تأكيداً للاختيار وأن الإنسان صانع نفسه، ولكني قد أشرت فعلا (وخاصة في مناقشة مدرسة "العلاقة بالآخر") أني أضع الماهية الكامنة أساساً لما يحدث فيما بعد، وكأن الوجود يحور الماهية بشكل محدود بتفاعل المكان والزمان معاً ولكنه لا يصنعها ابتداء، وقد بلغ من إيماني بهذا الاستعداد القَبْلي أني أصبحت أقبل في هذا الشأن فكر ماسلو الذي اتهم بالعودة إلى إحياء نظرية الغرائز فيما أسماه "فريك" في حواره معه "النظرية شبه الغرائزية Instinctoid Theotry..."، أقر هنا أنني أنا أميل إلى إحياء مفهوم الغرائز فعلا على أساس اعتبارين:
أولا: إيماني بالتطور وأن عادات اليوم هي غرائز المستقبل وغرائز اليوم هي عادات الماضي... الخ
وثانيا: إيماني بواقع الإنسان وقدراته المحدودة في عمره الفردي رغم قدراته غير المحدودة في تاريخ نوعه..، وبالرغم من هذا فقد فضلت أن أستعمل تعبير "امتداد الذات" Self expansion (الذي استعمله أريتي) عن تعبير "تحقيق الذات" Self aetualicn الذي (استعمله ماسلو)، ذلك لأني بالرغم من يقيني أن الوجود يحدد مسار الماهية ولا يصنعها، فإني لا أوافق أنه يحقق الماهية وإنما هو يطلقها للامتداد بل للموالفة الأعلى..
وكانت المشكلة التي تعنيني وتحدد نوع ممارستي ليست مشكلة الوجود بمعنى أن تكون أو لا تكون To be or not to be ولكنها مشكلة الصيرورة To be or to become، ولكن الصيرورة لا تحل محل ضرورة تحقيق الوجود أولا ولكنها تنبع منه، لأن القفز إلى الصيرورة دون تحقيق الوجود مهرب من مواجهة المشكلة الأولى للوجود، وكذلك الاكتفاء بتحقيق الوجود أملاً في الانطلاق التلقائي قد يوقفنا في خدعة "الهنا والآن" بعيداً عن الإسهام بمسيرة التطور طولا في التاريخ وعرضا في الناس.
وهنا أتوقف قليلاً قبل أن أستطرد لأسمع همس الأطباء (العمليين) القائل: أين العلاج النفسي الجاري أو غيره من كل هذا؟
والتساؤل الثاني: ألا يشوه هذا التنظير الفلسفي مسيرة العلاج النفسي ويخرجه عن هدفه، أو يفرض عليه ما ليس له؟
ونقدم الرد على هذين السؤالين غدًا ونحن نكمل المقتطف من واقع هذا البحث.
ويتبع >>>>>: العلاج الجمعي والفلسفة (2 من 3)
واقرأ أيضًا:
تعتعة نفسية العلاج بوصفة الأعراض(3) / العلاج الجماعي النفسي الإسلامي