هل خطر على بالك من قبل –عزيزي القارئ- أن يكون لك أكثر من عقل؟ وهل لو كان للعقول أنواع فكيف تتخيل أن تكون؟ وما مفهومك عن العقل (وليس بالضرورة تعريفك له)؟
والآن: هل لهذا المفهوم المحتمل – تعدد القول: مستويات الوعي: علاقة بما يجري في العالم في السياسة والاقتصاد والحروب والإعلام؟
فرضت علي ممارستي مهنتي أن أواجه هذه الأسئلة ومثلها، ثم فرضت علي مسئولية إبداء رأيي للناس فيما يجري حولي أن أنتبه إلى مثل ذلك وأنا أحاول المتابعة أو المشاركة، ثم توَّج ممارساتي هذه كتاب رائع كتبه "دانيال دينيت" بعنوان: "أنواع العقول"، ينبهنا فيه أن للأحياء قبلنا عقولا ومستويات وهي التي حفظت بقاء من بقي منها بكفاءة رائعة قاومت الانقراض –مثلنا- وانتصرت عليه، وهي هي كامنة داخلنا حالا.
والآن: هل يعرف هذا السر أولئك الذين يملكون أدوات اللعب بعقولنا –الواحد تلو الآخر- هكذا؟
وهل هم يرسمون سياساتهم نحونا من خلال ذلك؟
وهل كل هذا له علاقة بالحوار الوطني الجاري، وبالانتخابات، وبمآل ما يجري حاليا: إما إلى ثورة وطنية، قومية علينا أن نتحمل مسئوليتها لتكون ثورة بالإبداع والبناء كما وعدت بدايتها، وإما إلى فوضى وخراب يضطرنا إلى تبعية مذلة ممتدة أو جديدة؟
لو صدقنا أن لكل واحد منا أكثر من عقل فأي عقل نستعمله ونحن ننتخب رئيس الدولة، وهل هو هو العقل الذي نقف به بين يدي رب العالمين؟ وهل هو هو العقل الذي نذهب به إلى صناديق الانتخاب، وهل هو هو العقل الذي تتلاعب به القوى المحلية والعالمية: مرة بالتلويح بالحرية، وأخرى بالوعد بالجنة المغلقة على أصحابها.
يبدو أنني أقررت في مقال الأسبوع الماضي بضرورة قبولنا الديمقراطية المعروضة في سوق السياسة حاليا، برغم آلياتها العاجزة، نعم رضيت أخيرا، وأمري إلى الله بما حذرت منه سنين عددا، مع أنني ما زلت مصرا على أن المعروض في السوق الحالية هو ديمقراطية مضروبة، ومؤقتة، وملتبسة، وأن العيب ليس في أننا لم ننضج بعد لنحمل مسئولية هذه الديمقراطية، لأن الإشكالية هي إشكالية عامة عبر العالم، وعبر التاريخ، والتاريخ لم ينته كما زعم فوكوياما. حتى الشعوب التي تزعم أنها نضجت وتقدمت وأن لها الحق أن تعلمنا الديمقراطية ولو بالمنح والقروض، مازالت تتعاطى ديمقراطية مضروبة أيضا، لكن بطريقة أخرى، وبأسلوب أحدث وأخبث.
برغم كل ذلك، فإنني مازلت أصر (أو أحلم فأصر) أننا نحن البشر، والمصريون من أعرق تشكيلات هذا النوع من الأحياء المسمى "الإنسان"، في طريقنا إلى أن نبدع نوعا أصيلا مما قد يسمى "ديمقراطية" أيضا، نوعا يليق بهذا الكائن الرائع، لهذا فقبولنا للمعروض في السوق حاليا هو قبول اضطراري مؤقت، تبعا للمثل القائل: "قال إيه رماك على الديمقراطية، قال غباء وقبح وظلم ما هو غير ذلك"، فليكن: دعونا نقبلها ولكن دون تقديس، مثلها مثل كل المبادئ والسلوكيات التي نتصبر بها حتى نلقى وجه الله بالحق الذي يتناسب مع تكريمه لنا – سبحانه، دعونا نتصبر بالديمقراطية حتى تأتينا الحرية التي لا تكتمل إلا عنده تعالى، دعونا نتصبر بالمعلومات الجزئية حتى تأتينا المعرفة الأشمل، ونتصبر بالعبادة حتى يأتينا اليقين، ونتصبر بالإسلام حتى يدخل الإيمان في قلوبنا... ("حتى"-هنا - = "لكَي" و"ليس" "إلى أن")..... الخ.
الذي ألزمني للعودة لتوضيح بعض ما كتبت هو ما جاءني مباشرة، أو في "موقعي على النت"، تعليقا عما جاء في مقالي الأسبوع الماضي، الذي ورد فيه ما يلي: ".... نتصور أن منهم –من المرشحين لدخول امتحان السلطة- من يستغل عواطف الناس البدائية وغير البدائية، ومن يدغدغ آمالهم وأحلامهم في الدنيا وأيضا في الآخرة، وأن من المحتمل ألا تكون كل جهوده خالصة لوجه الله أو الوطن"؟ إلخ
سألني بعض الأصدقاء عن ما أقصده بعواطف الناس البدائية وغير البدائية وكيف يمكن لفريق سياسي أو جماعة دينية لها جناح سياسي أن يدغدغ أحلام الناس وآمالهم، في الدنيا وأيضا في الآخرة؟ وكيف تكون دغدغة الآمال والأحلام حتى في الآخرة هي من ضمن ألاعيب السياسة؟ وأنه: إيش أدخل العواطف والجنة في مشاكل أنابيب البوتاجاز وتصدير الغاز؟ وما هي علاقة موقعة الجمل وانهيار البورصة بالعواطف أو بآمال وأحلام الدنيا والآخرة؟... إلخ
من البديهي أنني لا أستطيع أن أرد تفصيلا على كل ذلك في كلمة بهذا القصر، وخاصة وأنا مضطر أن أتعامل مع الوعي البشري على أنه عدة مستويات (أو كما يقول دانيال دينيت صاحب كتاب: أنواع العقول:، "عدة عقول"، لها ترتيب هيراركي تطوري دال).
وبما أن المساحة المسموح بها للمقال محدودة، فسوف أكتفي في هذه المقدمة بعرض إشارات موجزه عن التساؤلات –التي تحمل الإجابات- التي خطرت لي ردّا على التعقيبات السالفة الذكر، وتحديدا فيما يتعلق بالانتخابات، لحين العودة إليها تفصيلا إذا لزم الأمر.
عدت أتساءل مع السائلين:
أي عقل (مستوى وعي) من عقولنا هو الذي يختار المرشح الذي يمثلنا، وهو يعد بأن يحقق مصالحنا،
وأي عقل من عقولنا يتحمل مسئولية اتخاذ قرارات انبعاث الثورات، أو تهدئتها؟
وأي عقل من عقولنا كان يغرينا أن نستسلم لهذا الظلم طوال عشرات السنين هكذا؟
وهل هذا الذي يضحك علينا الآن وهو يرفع شعار أن "الديمقراطية هي الحل" وهو يصوِّر لنا أنه يبيعنا الحرية "التي هي"، وهو يحاول أن يجعلنا نصدق أنه يسوق العدل الذي عليه ختم مجلس الأمن صاحب الفيتوا إياه، هل هذا السمسار الشاطر أو التاجر الخبيث يخاطب عقولنا الناضجة التي تحسب مصلحتنا على مستوى الاقتصاد، والإبداع، والحرية الحقيقية، والعدل الإلهي؟ أم أنه يخاطب العقل البدائي أو الطفلي الذي يتصور أن الحرية هي الانطلاق حتى الانفلات، وأن الثورة هي ما يحقق مصالحه وتبعيتنا له، وأننا سنفرح بمديحه لنا حتى نتوقف عندما يريد بنا (وليس "لنا")؟
ثم هذا الذي يرفع شعار "الإسلام هو الحل" يقش به الأصوات في صناديق الانتخاب، هل هو يخاطب جمّاع العقول التي تمثل معا الإيمان الإبداعي حامل الأمانة، أم هو يرشو العقل شبه الديني البدائي الذي يركز أساسا على الانتماء لفصيلة من نفس الدين، وعلى احتكار رحمة الله عز وجل وجناته، وعلى الدفاع عن شكل دينه الظاهري على حساب الابتعاد عن رحمة رب العالمين، والذي يفرح بالنصر المبين حين ينمو إلى علمه زيادة أفراد دينه فردا واحداً أو واحدة، وكأن في هذا إثبات أكيد أن دينه هو الأصح، خاصة لو كان هذا الواحد الذي دخل دينه هو مفكر أجنبي (خواجة) مهم أو حتى تافه؟ أو حتى لو كانت زوجة طيبة ناشز!!
هذه الإشكالية ليست قاصرة على شعوبنا ذات الموقع المتواضع على سلم التقدم، ذلك لأنه بإعادة النظر في سوق ديمقراطية الشركات العملاقة المصدِّرة للانقراض الشامل المحرِّكة للإعلام الموجِّه، المسوِّقة لمقاعد الكونجرس والبرلمانات عبر العالم، تحت مسمى "النظام العالمي الجديد" بإعادة النظر في كل ذلك لابد أن نكتشف أنهم يستعملون نوعا فاسدا أيضا من الديمقراطية، لكنها مضروبة بشكل آخر، لهدف أخر حيث يتم تشويهها بالمال والإعلام المغرض وغسيل المخ الجماعي، الذي يمتد بالإعلام والحروب الاستباقية والديون بشكل سرطاني إلى كل العالم، حتى يروح الجميع يستعملون نفس الشعار –الديمقراطية– بتقديس أبله يجعلنا لا نتمكن من تعريتها إلا بعض الوقت بمناسبة فيتو لمجلس الأمن هنا أو توصية لصندوق النقد الإقراضي.. هناك... إلخ.
لكن دعونا نعترف أنه برغم الغش والمؤامرات التحتية والفوقية التي تتصف به ديمقراطيتهم، فإنها تسمح بالنقد المتمادي، الذي هو بداية تحقيق الأمل السالف الذكر في ابتداع ديمقراطيه حقيقية. (انظر مثلا كتاب: الاغتيال الاقتصادي للأمم تأليف جون بركنز 2004 ترجم للعربية 2008).
خلاصة القول مؤقتا: إننا إذْ نضطر إلى تعاطي جرعة ضرورية من هذه الديمقراطية المعروضة، فذلك لا ينبغي أن يكون الفصل الختامي في مسئوليتنا عن حمل أمانة الوعي والحرية، وعلينا أن نتجرع مرارتها وأن نتحمل مضاعفات غشها وتلوثها بوعي كافٍ حتى يحفزنا إلى البحث طول الوقت، مع الشرفاء عبر العالم عن ما يحقق تكريم الإنسان إذْ يتمكن من إبداع وسيلة –وبنفس التكنولوجيا– تتيح لنا استعمال كل عقولنا ونحن نختار معا ما نحقق به وجودنا البشري الخلاق.
المشكلة ليست في إعادة تشكيل الشرق الأوسط بالتصدق ببضعة عشرات من المليارات لنشتري بها "سندوتشات" ديمقراطية، وإنما هي في البحث عن إبداع جديد ينقذ البشر عبر العالم من غباء هذه الطغمة الباغية المهددة لوجودنا معا.
الحل هو الحل:
وسوف يحدث، إبداعاً رائعا في السياسة وغيرها.
5-6-2011
اقرأ أيضا:
الاستهبال على وعىٍ كسولْ / البنتُ..، والعـلَمْ / كيف تجمّع وعي الشباب، وكيف يعاد تشكيله؟ (1 من 2)