كل ما أعرفه عن علاقة أبي بالسياسة هو أنه كان لا يحب الوفد، ولا يقرأ إلا الأهرام، فلماذا هذا الاهتمام الشديد بهذه الصحيفة الجديدة؟ كنا في زفتا، وقد جاوزتُ الحادية عشر بأيام حين ولدت أخبار اليوم (11 نوفمبر 1944)، ولمحتها في يد أبي فحسبت أن الأهرام قد تبرج، كنت أتصور أيامها أن الصحف والإذاعة ليس لديها ما تملأ به الورق أو الوقت إلا أخبار الحرب والغم (الحرب العالمية الثانية!!) وقد سألت أبي هل سيغلقون الإذاعة والصحف حين تنتهي الحرب، فنصحني أن أتعرف على بقية صفحات الأهرام، ولكن الصحيفة التي يمسك بها الآن شيء آخر، صحيفة عناوينها حمراء، وبها صور جميلة، ورسوم ظريفة ساخرة، والحرب لم تنه بعد، هل توجد صحيفة في حجم الأهرام ليست سوداء؟ وبها رسوم ليست صورا؟
سمعت أنها صحيفة الملك، وكنا في أشبال الكشافة نحب الملك: "نحن لمصر، نحن للملك، عاشت مصر، وعاش الملك"، كان حبا بعيدا عن السياسة، لم نكن قد وصلنا إلى مرحلة إرجاع "الفضل كله: لبابا جمال، ولا لبابا سادات، ولا لماما سوزان"، سألت أبي عن مشاعره نحو الأهرام بعد تعلقه بهذه المولودة الجديدة، فأراني إعلانات الأهرام عنها، ولم أفهم كيف ترحب صحيفة عريقة بمنافسة لها هكذا، خطر ببالي أن ذلك مثلما ترحب الأخت الأكبر، بأختها الوليدة.
أنا أكتب ما يعنّ لي في معظم الصحف من عشرات السنين، لكنني لم أكتب أبدا في "أخبار اليوم" إلا هذه الأيام، كيف عادوتني المشاعر التي عشتها منذ نيف وستين عاما هكذا؟ تذكرت كيف كتب رخا تاريخ "4 فبراير" بحروف هي صور النحاس باشا في أوضاع مختلفة، رفضتها ذلك تماما، صحيح أن أبي لا يحب الوفد، لكنه يحب النحاس باشا، كان ذلك بعد صدور أخبار اليوم بشهرين أو ثلاثة بمناسبة ذكرى حادث 4 فبراير 1942، انزعجت من تشكيل صورة هذا الزعيم الطيب النظيف وهو يتقوس منحنيا في رقم "4"، وحين وصلت إلى ذيل حرف "الراء" في لفظ "فبراير" وقد وضع رخا رأس النحاس في آخر ذيل الراء امتلأتُ غيظا وشعرت أنني لو قابلت رخا أيامها لصفعته، أو نزعت سرواله، ولم يصالحني على "رخا" حبي لرفيعة هانم والسبع أفندي ولا المصري أفندي، ظللت طول عمري لا أفهم حادث 4 فبراير هذا!!
لماذا رفض الملك؟ ولماذا ضغط الإنجليز؟ ولماذا قَبِل النحاس؟ هل هو نفس الضغط الذي مارسته أمريكا هذه الأيام لخلع مبارك ليحل محله من يعتقدون أنه يمثل الأغلبية فيكون حليفا أضمن؟ حين عرفت نجيب محفوظ شخصيا، منذ 15 سنة تقريبا، وصلني حبه الغامر ليس فقط لسعد زغلول بل للنحاس باشا، سألته عن حادث 4 فبراير، وأفهمني بنفس الحب كيف أن النحاس باشا قبل هذا الموقف من أجل مصر، وفهمت، وصدقته، وارتاح بالي.
وضعني كل هذا الآن أمام سؤال يقول: كيف يتشكل وعي أطفالنا السياسي، ثم شبابنا؟ وارتبط ذلك بسؤال تكرر كثيرا هذه الأيام: متى تشكل وعي شباب 25 يناير حتى فعلوا ما فعلوه هكذا؟
حين طلبوا مني اقتراحا لمواصلة برنامج أسبوعي في القناة الأولى (طعم البيوت)، قدمت لهم ثلاثين أغنية "أرجوزة" كنت قد كتبتها للأطفال مؤخرا، أمِلا أن نجيب على السؤال "كيف يتكون وعي الشباب" بالذات، وكيف نساهم في توجيهه؟ وتعجبت أنهم وافقوا ورحبوا، كما تعجبت قبل ذلك بسنوات حين قبلتْ قناة النيل الثقافية أن أقدم ألعابا نفسية، في برنامج "سر اللعبة" أحرك بها وعي عينة متطوعة من الناس المصريين، وهم يكملون عبارات ناقصة، نكتشف، نحن والمشاهدون، من خلالها أبعادا جديدة لقيم قديمة.
تداخلت عندي مشاعر الطفولة، بأغاني الأطفال، بهذه "الألعاب النفسية"، بهذه الدعوة الكريمة للكتابة في أخبار اليوم، وتصورت أن بإمكاننا أن نقدم أصعب المفاهيم بأبسط الأساليب بكلمات مكتوبة أيضا في هذه الزاوية المحدودة، أسبوعا بعد أسبوع.
كنت قد قدمت حلقة الأسبوع الماضي في برنامج "طعم البيوت" عن "الحرية" انطلاقا من أغنيتها للأطفال، وشعرت وأنا أناقش المذيعة الفاضلة أننا أحوج ما نكون الآن لإعادة النظر في مفهومها، ونحن نستعد لإكمال هذه الجولة الثورية الحالية، واستعدادا للثورة القادمة.
هل تحتمل هذه الزاوية أن نبدأ بتقليب مفهوم "الحرية" الأسبوع القادم؟
دعونا نحاول، ونتحرك على قدر السماح.
9-8-2011
اقرأ أيضا:
حرية / وصية!! / الدورات السبع / تسابيح رمضانية