طُلب منهم أن يُدبروا أمور رحيلهم خلال أسبوع. وليس ذلك أسوأ ما في الأمر لأن الأسوأ أن هؤلاء جميعاً لاجئون ولا يجيز القانون الدولي إبعادهم، فضلاً عن أن بعضهم ممن طالت مدة إقامتهم فطلب منهم تقديم طلبات الحصول على الجنسية، وحصلوا على جوازات سفر إماراتية لمدة سنتين، وانتهت صلاحيتها بعد ذلك.
وهؤلاء لا يملكون الآن أية أوراق ثبوتية؛ بحيث لم يعودوا قادرين على الرحيل ولم يعودوا ممكنين من البقاء في البلد الذي استضافهم فكبروا فيه وتزاوجوا وأنجبوا وتدرج أبناؤهم وبناتهم في سلك التعليم حتى وصلوا إلى الجامعات.
طُلب منهم أن يُدبروا حالهم على وجه السرعة، فيحصلون على تأشيرات الدخول إلى دول أخرى ويحجزون بطاقات السفر ويُصفّون أعمالهم، وإلا تعرضوا للتوقيف. ولأنهم لا يملكون جوازات سفر فإن تنفيذ هذه التعليمات يبدو مستحيلاً.
الإجراء مدهش في كل ملابساته! فقد فاجأ الجميع ولم يُعطَ له أي تفسير، خصوصاً بالنسبة للذين قضوا السنوات الطويلة في بلد رحَّب بهم حيناً من الدهر حتى صار "وطناً بديلاً" لهم. ثم إن الأسلوب الذي اتُبع معهم كان مثيراً للانتباه! ذلك أن ترحيل رب الأسرة يعني في حقيقة الأمر اقتلاع الأسرة بأكملها، لأنه لن يُغادر وحده، وإنما سوف يصحب معه كل من يعولهم من الزوجة إلى الأبناء غير الأشقاء، إن وجدوا. وهو للمصادفة ذات الأسلوب الذي تتبعه (إسرائيل) مع الفلسطينيين والفلسطينيات الذين يتزوجون من أبناء جلدتهم الذين لا يُقيمون في الأرض المحتلة! إذ ترفض السلطات الإسرائيلية جمع شملهم وتضطر الطرف الموجود في الأرض المحتلة لأن يُغادرها ويلتحق بشريكه في الخارج، الأمر الذي يؤدي إلى تصفيـة الوجود الفلسـطيني بالتدريج وبمضي الوقت..!!
لم يعد سراً أن أموراً كثيرة تغيّرت في دولة الإمارات بعد رحيل الشيخ زايد بن سلطان، وأن توسيع نطاق التعاون الأمني مع الأطراف الخارجية كان من بين تلك المتغيرات، الأمر الذي كان من شأنه زيادة سطوة الأجهزة الأمنية وبروز دورها. وهو ما ترتب عليه تعدد الضغوط في الداخل، ليس فقط فيما خص الوافدين الذين رحلت أعداد منهم تباعاً، بل أيضاً بالنسبة للناشطين من المواطنين. وأغلب الظن أن ذلك التشدد الأمني كان من أصداء ما سُمي قبل سنوات "بالحرب ضد الإرهاب"، خصوصاً أن أحد أبناء الإمارات كان من بين الذين اشتركوا في أحداث 11 سبتمبر، كما أن اسم دبي تردد كثيراً في التقارير التي تحدثت عن تمويل المنظمات الإرهابية وتحركات المنتسبين إليها. ورغم مضي نحو عشر سنوات على أحداث سبتمبر، إلا أن الضغوط الأمنية لم تتوقف منذ ذلك الحين وحتى اللحظة الراهنة.
وكان ترحيل عشرات اللبنانيين من أبو ظبي قبل سنتين في مفاجأة مماثلة من تجليات تلك الضغوط، حيث ذُكر آنذاك أنهم من الشيعة الذين يُشاركون في تمويل وتأييد "حزب الله" والسيد حسن نصر الله.
وأياً كانت الأضرار التي ترتبت على ذلك الترحيل فإنها كانت أقل سوءاً من تداعيات الموقف الذي نحن بصدده الآن. واللبنانيون في نهاية المطاف لهم وطن استقبلهم، ولكن الفلسطينيين العالقين في أبو ظبي الآن اختُطف وطنهم وأُغلقت أبوابه في وجوههم.
هناك رأي يقول إن هؤلاء الذين تقرر ترحيلهم من قطاع غزة، وإن عملية الترحيل جزء من الضغوط التي تُمارس ضد حركة "حماس" التي تُدير القطاع. يُعزز هذا الرأي أن للإمارات دورها المشهود في تمويل ومساندة السلطة الوطنية في رام الله، كما أنها لها تمثيلها الدائم في التنسيقات الأمنية الوثيقة الصلة بالأوضاع في الأرض المحتلة.
لست متأكداً مما إذا كان قرار الترحيل صادراً عن الاختراقات الأمنية أم أنه قرار سياسي! كما أنني لست متأكداً من إمكانية تدخل رئيس السلطة الفلسطينية لحماية بعض أبناء شعبه من التشريد! ولا أعرف ما إذا كان الأمين العام لجامعة الدولة العربية يستطيع أن يفعل شيئاً لحل هذا الإشكال أم لا!
لكن الذي أعرفـه جيداً أن "رائحـة العداء" للفلسـطينيين تفوح بشـكل ملحوظ في أجواء المنطقـة، وأن اضطهادهم لم يعد يُمارس من جانب (إسـرائيل) وحدها، وإنما صارت بعض الدول العربيـة تُمارس ذلك الاضطهاد بصورة أو أخرى..!!
وكان لنظام مبارك دوره البارز في ذلك! أعرف أيضاً أنـه منذ عقد بعض العرب تحالفهم الاسـتراتيجي مع عدوهم الاسـتراتيجي أصبح الوفاء باسـتحقاقات ذلك التحالف هو قضيـة العرب المركزيـة، ونُقلت قضيـة فلسـطين إلى سـاحـة المزايدات السـياسـيـة..!!
واقرأ أيضاً:
هل نندم علي الانسحاب من غزة؟/ «جريمة» حماس التي لن تغتفر/ أكاذيب دعاة التطبيع/ كنز إسرائيل الاستراتيجي!/ رائحة كريهة في فضائنا/ رحلة العذاب إلى غزة/ فصل في إرهاب الدولة