اللعب في الوعي وأسلحة الانقراض الكامل (1من2)
تكلمت في المقال السابق عن ضرورة التفريق بين "الوعي" و"العقل" و"المخ"، كما أشرت إلى كيف أن اللعب في الوعي هو أقرب إلى ما يسمى غسيل المخ، وأنه بتطور التكنولوجيا المتعملقة، وما استتبعها من إغارات الإعلام المركزي ثم اللا مركزي على تشكيل ثقافة البشر ومن ثم مصائرهم، قد أصبح الوعي البشري عبر العالم في أيد غير أمينة، أو على الأقل: في أيدٍ غير موثوق فيها،.... وأكمل اليوم قائلا:
.... لكن آلية التواصل هذه قد أتاحت الفرصة لمد شبكة العلاقات الإنسانية عبر القارات، وعبر الأديان، وعبر الألوان، وعبر الأجناس، النتيجة البدهية لهذا وذاك كان ينبغي أن تكون كالتالي: أن يصبح الإنسان أكثر إنسانية، وأعمق وعيا، وأرق تراحما، واقل تعصبا، وأجمل إبداعا. فهل حدث ذلك؟
نعم، حدث ولكن في حدود ضيقة في قطاع محدود عبر العالم، قطاع ما زال يمثل أقلية غير مؤثرة في مسيرة ومصير البشرية، قطاع يملك سلامة الوعي وحدة البصيرة ومثابرة الإنتاج والإبداع، لكنه لا يملك السلطة القادرة على التغيير الواجب لتحقيق ما تعد به مسيرة التطور. هذا القطاع هو فئة المبدعين نقدا وإنشاء، الذين استوعبوا حركة التطور ورصدوا إنذارات الانقراض فراحوا عبر العالم يتواصلون أسرع، ويتعمقون أكثر، ويبدعون أجمل في كل مكان.
لكن الواقع الماثل يقول أيضا: إنه في غفلة من الزمن، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وجد العالم نفسه وقد سلم قيادته – غير مختار– لتيار يسير في عكس الاتجاه تماما، ذلك أن الذي أمسك بزمام السلطة في المجالات الفاعلة:المالية والسياسية والإعلامية والتربوية أساسا هو فريق يمكن أن يعتبر "طفرة شاذة سلبية من النوع البشري".
اللعب في الوعي يشمل توجيه الانتباه وكذلك تشتيته، كما يشمل أيضا آليات الإغراق، بالإلحاح المتمادي والتكرار المتنوع والملاحقة، وهو (اللعب) يتعمد الإلهاء بالتهميش لتحل الهوامش والتفاصيل محل المتن، كما أنه يستعمل الأرقام (سواء دعمت بمعادلات إحصائية (علمية!!) مشبوهة أو لوحت برأي عام ملتبس فتكون النتيجة هي إشلال الفكر العملي والمنطق البسيط، ثم خذ عندك ذلك الاستغراق في التحليل التاريخي أو التبرير التفسيري دون أن يصب لا في الحاضر ولا في المستقبل وكأن الرسالة تنتهي عند ألعاب الحذق وحل ألغاز شطرنج لوحات التاريخ، وأحاجي الأحداث.
خذ عندك أيضا التمادي في عرض القضايا الزائفة (مزاعم قبول الآخر مثلا) لتحل محل القضايا الجوهرية (مثل شرف الجدل لتخليق ما يمكن من الاختلاف الحيوي)، وأخيرا وليس آخرا تقديم المقدسات الجديدة بشكل يجعل منها كهنوتا جاثما، أو صنما راسخا، أو أيديولوجيا مغلقة (من أول الديمقراطية بديلا عن الحرية حتى حقوق الإنسان المكتوبة بديلا عن حقوق الإنسان المعيشة.... إلخ).
وقد تمادى الإعلام عبر العالم في تقديم مناظر العدوان والقسوة حتى القتل والسحل والإبادة دون مبرر تربوي أو أخلاقي أو فني واضح، حتى أنني تناولت ذلك يوما في برنامج ثقافي أقتطف منه ما يلي:
منذ بضعة سنوات كنت أقدم في قناة النيل الثقافية برنامج بعنوان "سر اللعبة" وحين جاء الدور على لعبة "الغضب"، (وكان التسجيل يوم 4 أغسطس 2004). جرى ما أقتطف منه ما يلي:
كانت اللعبة الخامسة من عشرة كالتالي، لعبة تقول: "هُمَّ بيورّونا الدم والهدم والقتل دا كله في التليفزيون ليه؟ عشان نغضب؟ ولا عشان نتعود عليه؟ دانا حتى..." كان على الضيف المشارك أن يكمل هذه الجملة بأسرع ما يمكن مع أقل قدر من التفكير.
جاءت أغلب الاستجابات كما توقعت: دالة تلقائية مؤلمة خطيرة، أذكر منها على سبيل المثال إجابة ضيفة رقيقة، أكملت "... دا انا حتى ما عنتش باحس باللي باشوفه"،
أما إجابتي شخصيا – وأنا مشارك أساسي – فقد قلت ".. دانا حتى ما عنتش بافتح التليفزيون من أصله...".
في هذه الحلقة أيضا كانت هناك لعبة تقول: "الواحد حا يغضب على إيه ولاّ على مين، أنا أحسن لي......" وكان على المشاركين أن يكملوا، وجاءت الإجابات دالة أيضا تعلن أن الأغـلبية أكملوا ما يفيد أن الأحسن لهم أن يتمادوا في التبلد أو "التطنيش" (الطنبلة)... الخ.
كل هذه الآليات الدفاعية، حتى الانسحاب، هي طبيعة بشرية لحمايتنا من فرط الألم، وقد أظهر النقاش، بعد اللعبة أن ما نفعله إزاء ما يعرض علينا (أو يراد بنا) في هذا الإعلام الدامي هو أننا نكتم ما يعتمل بنا حتى لا ننفجر "الآن"، وانتهينا إلى أننا مرة فمرة فمرات نستدرج إلى أن نتبلد أو تهرب، دون انفعال أو تفاعل.
في لعبة أخرى – في نفس لعبة الغضب– قرب نهاية البرنامج كانت العبارة الناقصة تقول "أنا لو سمحت للغضب إللي جوايا إنه ينطلق لآخره يمكن..." واحد منا قال "يمكن انفجر" الآخر قال "يمكن أطُبّ ميت..." أما أنا فقلت: "يمكن أقتل.." إلخ.
وبعد؛
كان هذا منذ سبع سنوات، وقد أثبت الواقع أن هذا "اللعب في الوعي" بهذه الصورة سواء بقصد أو بغير قصد، قد فشل في تدعيم آلية البلادة، التي ظهرت في بعض الاستجابات، بشكل دائم وفي المقابل انتبه الشباب من خلال الاعلام اللامركزي (الفيس بوك والتويتر مثلا) إلى استعمال نفس الآلية في تجميع تراكمات الغضب لتكريس الغضب حتى تفجر ما تفجر في 25 يناير 2011 ثم تمادى بعدها بدرجات متفاوته لفترات متقطعة.
إلا أن المسألة لم تضطرد تلقائيا خطّيا في الاتجاه الإيجابي، ذلك أن الذي حدث بعد ذلك هو الشعور بالافتقار إلى الفكرة المركزية، التي يتخلق منها الموجّه الضام لهذا الوعي الجمعي المتراكم، فوجدنا أنفسنا في ضياع جديد - بقصد فعل فاعل أو بدونه- ونحن نتخبط، مستغرقين في التفسير والتبرير والتأويل، فراحت طاقة الغضب تخفت تخفت، أو تتحول إلى التشفي والثأر وتصفية الحسابات، وهكذا تراجع الغضب البناء حتى خشيت أن نستدرج إلى درجة من الشلل أخبث وأخطر لأنها تسمح لمن يريد أن يزرع في وعينا ما شاء من أفكار أو قرارات أن يفعل ما يشاء، سواء كان عدوا أو صديقا: من الداخل أو من الخارج، ما دمنا غارقين في تفاصيل اللعبة دون أن ننتبه إلى من يدير آليتها.
أخرج من كل ذلك إلى التنبيه إلى أن التحدي قائم، والمعركة مستمرة، والتكنولوجيا جاهزة، والبقاء للأذكى والأحرص والأقدر.
واقرأ أيضاً:
50 % & 50 %، ... فماذا يتبقى لنا؟ / حديقة حيوان طره وما حولها / الجدار العازل وأزمة الإدراك وغياب الفهم