(الحاكم الأب والشعب الطفل)
كنت أحاول قراءة وجوه الواقفين أمام ماسبيرو يرفعون لافتات "آسفين يا ريس"... "أبناء مبارك".... "لا لمحاكمة مبارك كبير العائلة".... وعلى الرغم من غيظي الشديد من مبارك وأنا أعرف تاريخه الأسود وغيظي الأشد من هؤلاء الواقفين لمؤازرته والرافضين لمحاكمته محاكمة عادلة أمام قاضي طبيعي، حاولت استعادة رزانتي العلمية وحيادي الطبي، واكتشفت أن من المطلوب قراءة كل وجه على حدة.... ثم عمل تصنيفات بناءا على التشابهات المحتملة بين بعض المجموعات.
فهناك مجموعة من الأشخاص يتصرفون بإخلاص شديد لما يحملون من شعارات، فهم فعلا يشعرون بأبوة مبارك ويتأسفون لمصيره ويعترضون على محاكمته وهو في هذا السن وفي هذه الظروف الصحية، ومجموعة أخرى جاءوا مدفوعين بأي شيء، قد يكون المال أو السلطة أو المصالح أو غيرها، وهؤلاء يتباكون (ولا يبكون) على مبارك وينصرفون عند أول احتكاك بهم أو عند انتهاء يوميتهم مدفوعة الأجر، أما الفئة الثالثة فهم يؤيدون مبارك كنوع من الخروج على الإجماع العام لأنهم يكرهون أن يكون الناس كلهم على رأي واحد فيقرروا أن يتحملوا هم مسئولية الاختلاف وأن يؤيدوا الرأي الآخر الذي ربما تكون له بعض الوجاهة، أما الفريق الرابع فيرى أنها مسألة أخلاق بمعنى أنه لا يجوز ولا يصح ولا يليق أن نعامل رئيس جمهوريتنا السابق وأحد القادة العسكريين وأحد المشاركين في حرب أكتوبر (أيا كان حجم المشاركة) بهذا الشكل مهما فعل من أخطاء.
وعاودني غيظي الشديد مرة أخرى ورحت أتساءل: هل كان مبارك أبا فعلا للمصريين؟... إذن لماذا هجرهم وتركهم يتضورون جوعا وعاش هو يتنعم في شرم الشيخ بعيدا عنهم وعن رائحتهم؟... ولماذا مكّن ابنه الأثير جمال من رقابهم هو ومجموعة رجال الأعمال الذين استنزفوا دماء الغلابة من المصريين وجمعوا في أيديهم السلطة والثروة وتركوا للمصريين الجوع والعري والمرض والشقاء؟... ولماذا أطلق يد حبيب العادلي وقواته البوليسية الشرسة تنهش في لحم المصريين؟... أهذه هي الأبوة التي نبكي عليها ونتعاطف معها؟.
ولتسمح لي عزيزي القارئ بأن نترك سائر المجموعات ونتناول بالتحليل النفسي والاجتماعي المجموعة التي تنظر لمبارك على أنه أب "فعلا" وأنه كبير العائلة "حقا"، لأن هذه المجموعة تتبنى توجهات المجموعات الأخرى أيضا بشكل أو بآخر، فهي ترى في بقاء هذا الأب تحقيقا مصالحها، وترى في محاكمته خروجا على الأخلاق وترى في موقفها المعارض نوعا من التميز، إضافة إلى أن هذه المجموعة تحوي بداخلها تركيبة نفسية تلتقي مع أعداد كبيرة من المصريين والعرب لا يقفون أمام ماسبيرو ولا يتجمعون في ميدان مصطفى محمود أو ميدان روكسي، ولكنهم يتبنون فكرة الحاكم الأب، وربما الحاكم السيد أو الحاكم الرب.
والأمر لا يقتصر على العامة أو البسطاء من الناس بل يتخطى إلى مفكرين ومثقفين وقادة رأي ومسئولين كبار، وأذكر بالمناسبة سفيرا لدولة خليجية كبرى كان يتحدث في برنامج تليفزيوني فيصف ملك البلاد في كل مرة بكلمة "مولاي...." وكررها طوال حديثه، وكان حين ينطقها يتضاءل وينسحق ليفسح المجال أمام لفظ "مولاي" كي يتمدد على حساب ذاته وذوات من يستمعون إليه، وفي بلاد كهذه ترى كبار الشخصيات ومشايخ القبائل يصطفون في صفوف طويلة لينعموا بالسلام على "مولاهم" وتقبيل يده وكتفه ورأسه والدعاء له بطول العمر.
والأمر لا يتوقف عند أصحاب السلطة السياسية بل يمتد ليشمل أصحاب السلطة الدينية من المشايخ والوعاظ، حيث يحتل هؤلاء منزلة عالية من التوقير والتعظيم وربما التقديس، ولذلك ترى مريديهم يقبلون أيديهم وينحنون أمامهم في خضوع شديد، ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يمتد إلى قبولهم لآراء هؤلاء المشايخ دون تمحيص، فهم يسلمون لهم عقولهم وقلوبهم وإراداتهم ويعتبرون ذلك عملا صالحا ومقدسا، بل ويعتبرون مجرد التفكير أو النقد لما يقوله الشيخ خروجا عن الطاعة بل وربما خروجا عن الملّة، وتتمدد لديهم مساحة النقل لتلغي مساحة العقل.
إذن ما الذي يدفع أناس كثيرون للتصرف بهذه الطريقة التي يتخذون فيها أباءا يسلمونهم عقولهم وقلوبهم وإرادتهم؟... وما الذي يجعل بعض الناس يسيطرون على جموع الناس بهذه الطريقة فيسلبونهم عقولهم وقلوبهم وإرادتهم؟. إنها معادلة ذات شقين مفعول به وفاعل، طفل وأب، عبد وسيد، خاضع ومسيطر، وطرفا المعادلة متواطئان ومستفيدان، بمعنى أن كل طرف مستريح لما يحدث وراض به فكأن ما يحدث يتلاءم مع تركيبته واحتياجاته النفسية، ولذلك تستمر هذه المنظومة في مجتمعات بعينها بينما هي قد اختفت في مجتمعات أخرى.
وتتأكد هذه المنظومة بالمثل الشعبي القديم: "اللي مالوش كبير يشتري له كبير"، وهكذا نرى مجتمعات وشعوب تهفو لوجود كبير تسلم له قيادها وتتخذه أبا وربما إلها لتريح نفسها من عناء التفكير والاختيار والمسئولية، ولكي تستريح تماما وهي تسلم نفسها لهذا الشخص فإنها تضفي عليه معاني الأبوة بل وتضفي عليه معاني القداسة حتى تستطيع أن تتقبل منه أي شيء وكل شيء دون أن يصيبها أي ضيق أو رفض، وهكذا تتشكل منظومة الفرعونية ويعاد إنتاجها في كل العصور بأشكال مختلفة.
وإذا تعارض ذلك مع المعتقدات الدينية التي تجعل الألوهية والربوبية لله الواحد القهار الذي في السماء فإن رجال الدين يربطون طاعة هذا الشخص بطاعة الله ويحرمون الخروج عليه مهما فعل، ولهذا تتضخم شخصية الحاكم الأب أو الشيخ الأب مع الوقت وتتضاءل شخصية الشعب الطفل مع الوقت، وتتحدد العلاقة بينهما طبقا لنظرية "إريك برن" في التحليل التفاعلاتي بأنها علاقة ذات الوالد بذات الطفل، والوالد هنا إما أن يكون راعيا فيغدق على الطفل من العطايا والهبات والرفاهيات ما يجعله يتلهى في ذلك ولا يطالب بأكثر منه ويشعر بالامتنان الشديد لهذا الوالد المعطاء الكريم (نموذج السلطة التعويضية الموجود في بلاد الخليج)، أو أن يكون هذا الوالد ينتمي إلى الوالدية الناقدة القاسية فيعامل أطفاله (شعبه) بقهر وقسوة وحدة واحتقار ولا يعطيه شيئا ولا يلقي له بالا ويسيطر عليه بالقوة البوليسية (نموذج مبارك والقذافي وبن علي) وهذا يمثل "السلطة القهرية"....
أما الشعب "العيّل" فيأخذ نموذج الطفل المتكيف، بمعنى أنه يكيّف نفسه مع الأوضاع القائمة، ويخضع لإرادة الكبير وآرائه واختياراته، بل ويقنع نفسه بصحة هذه الآراء (راجع الدراسات التي قام بها أساتذة الجامعات في ليبيا حول الكتاب الأخضر الذي وضعه القذافي)، وهو في ذلك يستخدم أحد الدفاعات النفسية التي تحدث عنها فرويد وهو "التوحد مع المعتدي"، إذ يضفي هذا الطفل الخائف المرتعد من سطوة الأب وسلطته، يضفي على هذا الحاكم الأب كل صفات القوة والبطولة والحكمة والرشد، ولا يفكر أبدا في الخروج عليه أو مخالفته.
وقد يخرج من بين أفراد الشعب من لا يرضى عن هذا الموقف فيبدأ في تبني موقف "الطفل الحر" حيث يرفض تسليم رأسه لأحد ويبدأ في المشاكسة والعناد ويعتز بآرائه الشخصية ويحاول أن يعترض ولكن اعتراضاته لا تصل إلى درجة النضج ولا تصل إلى درجة الخطورة التي تهدد سلطة الأب، وهذه هي مرحلة المعارضة المجهضة والمعارضة غير الناضجة، والتي يسهل على الحاكم الأب وأدها أو احتوائها أو ترويضها أو تشويهها.
عزيزي القارئ إذا كان الكلام قد أصبح صعبا أو معقدا فسأحيلك إلى مسرحيتيّ "مدرسة المشاغبين" و"العيال كبرت" لترى فيهما هذا النموذج، حيث اتضح للطلاب في المسرحية الأولى وللأبناء في المسرحية الثانية أن السلطة التعليمية أو الأبوية ليست سلطة راشدة أو عاقلة أو حكيمة، وأنها سلطة هشة وخادعة، وهنا يبدأ التمرد بظهور حالة الطفل المتمرد الذي يشاغب السلطة ولا يلتزم بطاعتها حيث يراها غير جديرة بالطاعة، بل ويسخر منها ويستهزئ بها، ويبدأ الصراع مع السلطة ولكن الطفل المتمرد هنا لم يمتلك تصورا ناضجا يسمح له بإزاحة السلطة وقيادة الأمور بدلا عنها أو حتى إدارة حياته، ولهذا تظل الإشكالية موجودة في انتظار نضج الطفل المتمرد حتى يمثل معارضة رشيدة، وهو لا يفعل ذلك إلا حين يتحول إلى ذات "الراشد" طبقا لنظرية التحليل التفاعلاتي سابقة الذكر، وذات الراشد هنا تمثل الموضوعية والعقل الناقد والحكمة والتوازن والحسابات المنطقية.
إذن فالعلاقة في الدول الاستبدادية (سواء كانت من خلال سلطة تعويضية أو سلطة قهرية) تكون علاقة حاكم أب (راع أو ناقد) بشعب طفل (متكيف أو متمرد)، وهذه العلاقة لا تنتج مجتمعا سويا، إذ هي تنفخ طول الوقت في ذات الحاكم الأب وربما ترفعه لمكانة الرب، وتسحق طول الوقت في ذات الشعب حتى لتجعله يبدو في عين الحاكم مجموعة من الجرذان (طبقا لرؤية القذافي) أو ربما لا يراهم مطلقا (كما هو الحال لدى مبارك) أو يراهم ولكن لا يكلف نفسه مشقة فهمهم وفهم احتياجاتهم إلا حين يشعر بخطر السقوط (مثل ما فعل زين العابدين بن علي وهو يردد في لحظاته الأخيرة في الحكم: فهمتكم.. فهمتكم)، وفي هذا الجو يتفشى الفساد والاستبداد وتتدهور أحوال البلاد والعباد.
إذن فما هي العلاقة السوية بين الحاكم والمحكوم؟
إنها كما يقول علماء النفس والاجتماع: علاقة راشد براشد، أي أن الحاكم راشد ذو عقل ورأي ورؤية وإرادة، وأيضا الشعب راشد ذو عقل ورأي ورؤية وإرادة، وهناك عقد موضوعي (دستور) يحدد العلاقة بين الحاكم وشعبه بطريقة تحقق مصالح الشعب وتضع حدودا لسلطة الحاكم، وإذا تجاوز تلك الحدود فإن الشعب قادر على محاسبته أو إقالته بطرق دستورية منضبطة. وهنا ينتفي معنى الأبوة والقداسة، ويحل محله معنى الوظيفة والقيادة والمسئولية والمحاسبة. وقد ثبت من تجارب البشر على مدى التاريخ الإنساني فشل النموذج الأبوي المستبد المقدس في الحكم، في حين أن احتمالات نجاح النموذج الراشد (الديمقراطي) أعلى بكثير، وقد تكون هناك استثناءات قليلة، وتلك الاستثناءات تثبت القاعدة ولا تنفيها.
وإذا كان الأمر كذلك وبهذه البداهة والوضوح، إذن ما الذي يدفع شعوبا لأن تتبنى الموقف الطفولي الضعيف أمام جبروت حكامها وتستسلم لهم عقودا طويلة في خضوع مذل وخنوع معيب؟... إنها الرغبة في الشعور بالأمان الزائف والراحة السلبية في ظل أب تخلع عليه صفات القوة والحكمة والقداسة لكي تريح نفسها من عناء التفكير والقرار والمسئولية والاختيار، وهذه الشعوب تكرر المثل القديم: "اللي مالوش كبير يشتري له كبير"... في حين أنها تحتاج لكي تصح وتتعافى أن تغير منطوق المثل كالتالي: "اللي مالوش كبير يكبر هو"، وهذا هو الموقف الثوري الذي حدث في أكثر من بلد عربي، إذ تحول الطفل المتكيف إلى طفل حر متمرد ثار في وجه الأب المزعوم الظالم الفاسد المستبد وأسقطه من فوق عرشه؛
وإذا وقف الأمر عند هذا الحد فإن المشهد سيشبه إلى حد كبير مسرحيتيّ "مدرسة المشاغبين" و"العيال كبرت"، حيث تتحطم صورة السلطة الأبوية ولكن يظل الأطفال حيارى تائهين، ولكي ينصلح الحال فلابد من الإسراع بعملية النضج لكي يصل الشعب إلى مرحلة الرشد (أو أن يقود مرحلة التغيير أشخاص ناضجين)، ولكي ينشئ عقدا لعلاقة سوية (الدستور) بينه وبين الحاكم، ويظل الشعب قويا حاضرا وموجها ومصححا لخطوات حاكمه، ولا يترك المشهد مرة ثانية لحاكم أب يوكله أو يفوضه ليتصرف كيفما شاء فيكتشف الشعب بعد فترة أن هذا الأب قد حرّف التوكيل أو خان التفويض وأنه قد أحكم القبضة على رقبة الشعب مرة أخرى فيحتاج لثورة دامية حتى يتخلص منه.
واقرأ أيضاً:
اللعب في الوعي وأسلحة الانقراض الكامل (2 من2)/ مستويات وتشكيلات قراءة الأحداث/ حكاوي القهاوي (81)/ إسرائيل... إذ تضغط لتأجيل الانتخابات المصرية