في نهاية شهر أيلول هذا العام سيتوقف احتكار شركة للي Eli Lilly المطلق لعقار الأولانزابين Olanzapine أو زايبركسا Zyprexa كما تفضل الشركة استعمال هذا الاسم لوليدها. في نهاية شهر آب تقدمت أكثر من 30 شركة عقاقير طلباً لإنتاج الدواء، وبلا شك فإن ذلك سيؤدي إلى انخفاض سعره في المملكة المتحدة وبقية الدول.
ليست غايتي من هذا المقال تقديم أدلة إحصائية حول هذا الدواء، وسواء إن كان فعالاً للغاية أو كثير الأعراض الجانبية. الحقيقة أنك إذا دخلت أي ردهة للأمراض النفسية أو عيادة اجتماعية في المملكة المتحدة أو أوروبا فإنك على أقل تقدير سترى هذا الدواء على جدول عقاقير أحد المرضى. غايتي في عرض هذا المقال هو كسائق لسيارة على طريق سريع طويل متوقفا عند محطات خدمة وفي النهاية يأمل أن يصل الى مخرج هدفه من الطريق السريع.
قبل عقدين من الزمن لم يكن مستعصياً على طالب كلية الطب أن يخمن تشخيص حالة مرض نفسي أثناء الامتحان النهائي. إن كان المريض يتناول أدوية مضادة للذهان فهو مصاب بالشيزوفرانيا، وإن كان يتناول اللثيوم Lithium أو أدوية مضادة للكآبة Antidepressant فهو مصاب بالهوس الاكتئابي Manic Depressive أو الاكتئاب الذهاني Psychotic Depression وهلم جرا. أما هذه الأيام فالحال غير ذلك:
* المستشفيات تغيرت.
* العقاقير تغيرت.
* وكذلك فإن الطبيب النفسي قد تغير.
في يومنا هذا ترى أن وقعات أو تصانيف الشكاوي والأمراض النفسية لا عد لها ولا حصر، والشكر في ذلك عائد إلى كوكل Google أولا والجمعية الطبية الأمريكية للأمراض النفسية American Psychiatric Association ثانياً، حيث ساهمت الأخيرة في إضافة تشخيص بعد آخر والله أعلم كم سيكون عدد تصنيفات الأمراض النفسية عندما يصدر المجلد الخامس لتصنيف الأمراض النفسية في العام 2014. خلال أسبوع راجعت عدة وصفات فترى مريضاً مصاباً بفقدان الذاكرة الدائم Amnesic Syndrome من جراء الإدمان على الكحول يتناول 10 مغم من الزايبركسا يومياً، مرضى مصابين بالشيزوفرانيا يتناولون من 10 إلى 60 مغم يومياً، مرضى مصابين بثنائي الاستقطاب Bipolar Disorder (رقم 1 إالى5) جرعتهم من 2.5 الى 20 مغم يومياً، مريض مصاب بالكآبة يتناوله بجرعة 5.7 مغم، مريض مصاب بالقلق المتعمم Generalized Anxiety Disorder بجرعة 12.5 مغم يومياً ومرضى مصابين باضطراب الشخصية Personality Disorder يتناولون جرعات من 5 إلى 10 مغم يوميا. في يومنا هذا لا حاجة أن تفكر بالتشخيص الدقيق، فكل ما هو مطلوب أن تكتشف أن هناك عملية زورانية Paranoid Process أو عملية ذهانية Psychotic Process أو حتى اكتئابية من النوع الثناقطبي Bipolar Depression وتصف الزايبركسا وغيره بحرية.
الولادة
إن عملية اكتشاف أي عقار واستعماله بعد ذلك تشبه إلى حد كبير عملية إخصاب بالأنابيب. العملية شاقة، مؤلمة، باهظة الثمن ونتائجها غير مؤكدة، وتحتاج إلى صبر قد يفوق طاقة البشر الاعتيادية. هذا ما حدث مع الزايبركسا حيث قرر العلماء الثلاثة محاولة تغيير التركيب الكيمائي لعقار الكلوزابين بعد لقائهم بزملاء لهم أثناء مؤتمر علمي في نهاية السبعينيات، لتفادي أعراضه الجانبية المعروفة. استغرق العمل أكثر من3 سنوات وتوصل الفريق إلى ستة أنماط من الدواء أثبتت التجارب أنها لا تقوى على العيش، وكاد الثلاثة أن يتركوا المشروع لولا إصرار أحدهم على إعطائه فرصة أخرى، وقد حالفه الحظ بعد أكثر من عام، وباشرت الشركة بعدها برعاية وإجراء التجارب على مولودها الجديد في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.
ملعب الحياة
بعد ذلك دخل الطفل إلى مدرسة الحياة في التسعينيات وكان دخوله في مرحلة من التغيير في عالم الصحة النفسية مشحونة بحركة إغلاق المؤسسات التي تضم المرضى وكأنهم سجناء، وتدعو إلى التوقف عن تهميش المرضى المصابين بأمراض ذهانية وعلاجهم ضمن المجتمع وليس خارجه. كانت عاصفة التغيير قد بدأت في منتصف الستينيات في إيطاليا وكان تعرف أيامها بالحركة الطلابية، وانتشرت آثارها بعد ذلك إلى أنحاء أوروبا.
الأغرب من ذلك أن ترى اليوم السيد برلسكوني على كرسي الحكم، وهو ليس باليميني فقط ولكنه على درجة من التهور لا يمكن وصفها على حد تعبير مجلة الإيكونيميست قبل شهرين.
أيامها كان عقار الرسبيردون Risperidone قد دخل الأسواق، ولكن كثيرين أصيبوا بخيبة أمل لأن الرسبيردون في جرعات تتجاوز5 مغم يومياً لا يختلف كثيراً عن الجيل الأول للأدوية المضادة للذهان، يضاف إلى ذلك إفرزاه الهائل لهورمون البرولاكتن Prolactin أما الزايبريكسا فقد غير كل ذلك: لا إفراز للبرولاكتن، تهدئة المريض لا شك فيها، وما عليك إلا إعطاءه العقار مرة واحدة يومياً.
ومع بداية الألفية الثالثة بدأت التعابير المستعملة في الطب تتغير بسرعة هائلة وموازية لعملية اختفاء الأسِرَّة في المستشفيات، وبدأ الطبيب النفساني يستعمل لغة جديدة. اليوم نسمع تعابير مثل: فريق أزمات Crisis Team، فريق علاج في البيت Home Treatment Team ، لجان حماية البالغين المعرضين للاستغلال Protection of Vulnerable Adults ، قانون العلاج الإجباري في المجتمع Community Treatment Order، عمال إسناد المرضى Support Worker ، والكل يقول تعالج المريض في البيت قبل كل شيء، ولكن قلما يتم طرح السؤال: هل هناك بيت للمريض؟.
نعود الآن إلى العقاقير المضادة للذهان فهي على قائمة عقاقير المرضى المصابين بأشد الأمراض العقلية وهي الشيزوفرانيا، وأي تخطيط رسمي للأمراض العقلية يتوقع أن تصرف 50% من ميزانية الأمراض النفسية على هذا المرض بالذات. ولكننا فجأة نرى بأن استعمال العقاقير إياها قد توسع وبدأت فرق الطب النفسي تقيم احتياجات المريض بدلاً من تشخيص المرض مما ساعد في شيوع استعمالها لعلاج أعراض مرضية بدلا من التدقيق في التشخيص.
الأزمات
لكن دخول الزايبركسا إلى مدرسة الحياة لم يخلُ من مشاكل وعادت مدرسة المجتمع تشكو الطفل إلى أبويه وتنصحهم بأنه غير صالح للتعليم. بدأت الدعاوى ترفع في أمريكا بأن شركة للي تجاهلت معلومات تفيد بأن الدواء يؤدي إلى السمنة المفرطة والسكر، وبدأ الجميع يسمع بعاهة الأيض Metabolic X Syndrome وخطورة هذه الأدوية على الانتقال الكهربائي للقلب QTc Prolongation بدلاً من اتخاذ موقف إنكار وتصلب، لجأت شركة للي بسرعة إلى توعية طبية في أنحاء أوروبا، وساعدت في إقامة عيادات للعناية الغذائية والأمراض الجسدية للمرضى المصابين بالشيزوفرانيا وممن يتناولون علاج ألزايبريكسا وغيره من أدوية الجيل الثاني. فمتابعة ضغط الدم وتخطيط القلب تتم بصورة منتظمة، مع التشجيع على التغذية الصحية، والتمارين المنتظمة وأصبح الكل مولعاً بخفض وزنه، والحقيقة أن أشد الناس ولعاً هم العاملون في مجال الصحة النفسية وأكثر من مرضاهم.
عندما نتحدث عن الزايبريكسا فإننا نتحدث عن صيغ Formulations أو أخوة العقار. كانت الفيلوتاب Velotabs ناجحة للغاية واستنفذت الحاجة إلى إعطاء المرضى العلاج رغم أنفهم بالإبر. و لكن إبرة الزايبركسا لم تنجح بالمرة أما إبره المستودع Depot فهي يذكرني بقواعد سباقات العدو في الساحة والميدان فإن بداية خاطئة هذه الأيام تعني عدم التأهيل فهذا بالضبط ما حدث فلا ترى أحدا يفكر باستعمال عقار يستوجب انتظار المريض لعدة ساعات لانتظار ظهور أعراض جانبية.
حال ألزايبركسا في المدرسة لم يخلُ من صراعات مع منافسين له. القائمة ليست بالطويلة وتشمل الكوايتابين Quetiapine والأري بببرازول Aripiprazole . الأول استغرق فترة طويلة لمعرفة الجرعة الصحيحة، والآخر دائم الارتباك في الجرعة وانتهى كمساعد للكلوزابين Clozapine عسى أن يمنع زيادة الوزن وظهور مرض السكر. كانت المنافسة شديدة بين الأدوية وهي أحياناً أشبه بملاكمة من غير ممول واضح ولا أحد يتحمل عبء تكاليف هذه العقاقير غير وزارات الصحة.
نهاية المطاف
اجتاز الزايبركسا الامتحان وجلب على شركة للي أعظم أرباح في تاريخها، مما ساعد على تمويل الكثير من المشاريع العلمية في مجالات أخرى والجميع في هذه الشركة العملاقة يشكره. وصلت سيارتنا إلى نهاية الطريق غير أن المخرج من الطريق السريع غامضا. سيبدل الزايبركسا ثوبه البنفسجي بثوب آخر رخيص الثمن غير أن شركة للي وغيرها لم تكشف إلى الآن عن دواء جديد أو جيل جديد من الأدوية. وإن التحديات الاقتصادية التي تواجه الغرب بفضل مشاكل اليورو واليونان، كان لها تأثيرها على شركات العقاقير، وربما أن قيادة العالم ستنتقل عبر المحيط الهادئ إلى الصين. وهنالك أسطورة تقول بأن أهل الصين اكتشفوا أمريكا قبل كولومبوس. لا أصدق ذلك ولا أظن أننا سنرى عقاراً سيولد في الصين قريباً.
واقرأ أيضًا:
هل الأدوية النفسية باهظة الثمن أفضل؟! مشاركتان