الطفـل العنيـد (16)
التهذيب غير الفعال
حين نرجع تصرف الطفل لدوافع معينة يمكن أن يؤدي بالوالدين إلى أن يعاقبوا بسبب هذا الدافع وليس بسبب التصرف، مثلاً ليس من العدل أن نعاقب الطفل ذو النسق غير المنتظم لأنه غير جائع على الغداء، فربما يكون غير جائع في وقت الغداء ولكن الأم التي تتفاعل مع ذلك كصفعة على الوجه "إنه يفعل هذا لكي ينتقم مني لأنه شاهدني أُرهق نفسي في المطبخ لمدة ساعتين" لذلك فهي تغضب وتحبس الطفل في غرفته.
إن الأم التي لديها طفل فائق النشاط يمكن أن تفقد السيطرة على نفسها، بجري الطفل في أرجاء المكان وربما يكسر شيء أثناء جريه غير المتعقل ولكن حين تعاقبه بجلوسه في ركن إنها حينئذ تعاقب طبيعته فمثل هذا التصرف يجب أن يحدد ويسيطر عليه لا أن يُعاقب بسببه. والمشكلة هي أن الطفل الصعب يثير أو يقوم بتصرفات تحير والديه، فتصبح ردود أفعالهم مجرد محاولات تجريبية ليروا النتيجة، وهذا يتبعه دائمًا المفاوضة والرشوة ورد الفعل المبالغ فيه. وهذا يتناقض بشدة مع أسس التهذيب الجيدة التي تتضمن الاستمرارية وفهم ماذا يحدث وماذا تفعل أنت، رد فعل ينبع من إحساس كامل بالسلطة ومع ذلك يصدر بهدوء.
أشعر أنني دائمًا في معركة مع الطفل
إن التهذيب غير الفعال له تأثير مرهق على الأم والطفل وهو مدمر على المدى الطويل، فمع الطفل فائق الصعوبة، المواجهات الدائمة من الأم المرهقة تصبح مظاهر الحياة اليومية ومجرد سلسلة من صراع مستمر على القوة، وفي النهاية تصبح هناك معارك على كل تصرفات الطفل من الصباح حتى المساء تشمل كل شيء من الملبس إلى الطعام إلى وقت اللعب إلى المدرسة لدرجة أنه لا يصبح هناك شيء سهل أبدًا. طبعًا درجة الصعوبة تؤثر في طريقة رد فعل الأم، كلما كان الطفل صعبًا كلما تأثرت الأم.
إن خبرة الوالدين لها وزن ويُعتد بها لأن هؤلاء الأقل خبرة يواجهون أوقاتً صعبة وتؤثر شخصية وطبع الوالدين كما تؤثر أيضًا جميع مظاهر الحياة العائلية مثل الاستقرار في العمل والصحة، قوة الزواج، والأمان المالي فهذا كله يبين مدى عمق تأثر الوالدين بالطفل.
إن المعارك الدائمة تنشأ غالبًا من تكوين أسلوب للعادات بين الطفل والأم، ليس فقط أن الطفل يسيء التصرف مرات ومرات بل إن على الأم أن تدرك أن رد فعلها غير المؤثر أصبح عادة وأيضًا يقوي هذا التصرف السيئ، فإن الوالد يريد من الطفل أن يفعل شيء لا يريده الطفل ولذلك يسيء التصرف ويريد الوالد أن يعاقبه والطفل لا يستمع للأب ويهتاج الوالد: "أنت لا تحترمني"، "أنت تريد أن تصيبني بالجنون"، "أنت تعرف كم أكره ذلك عندما لا ترد عليّ"، ويصبح الأب والطفل محبوسان في مواجهة ويتبع ذلك معارك متسارعة. ويتكرر هذا الفعل ورد الفعل في تنوع أحداث الحياة اليومية، ويبدأ الطفل ذو الستة سنوات في شتم أمه "أنت كسولة، أنت غبية" وهذا يُغضب أمه وتصرخ "كيف تجرؤ على قول هذا لي" وتحبسه في غرفته وتغلق بابها بالقوة، وكلما يشتمها تفعل نفس الشيء وكلما تحدته كلما شتمها وهكذا يصبحان محاصرين في هذا النمط السلوكي العدمي.
أم لطفلة صعبة ذات ثلاث سنوات تخشى أخذها إلى المحلات الكبيرة، فمرة اضطرت إلى الذهاب إلى المخبز وبمجرد أن دخلت الابنة إلى المحل مع أمها أصبحت تعوي وتنوح وغريبة الشكل، أصبحت الضوضاء التي تسببها الطفلة أسوأ فتقول لها الأم بإمكانك أن تأخذي كعكة اختاري أي شيء فتختار الابنة كعكة كبيرة على شكل دب فتطلب الأم من البائع أن يخرجها لها وعندئذ تشير الطفلة إلى كعكة أكبر على شكل قطار وتقول هذه أيضًا فتقول الأم واحدة فقط ولكن الابنة تحبس نفسها في فكرة الحصول على الاثنتين وتكرر القطار، القطار، القطار وتصرخ الأم (لا) فتبكي الطفلة فتصرخ الأم اختاري واحدة فقط وفي النهاية تضطر الأم إلى سحب الطفلة خارج المخبز تاركة خلفها ما جاءت لشرائه.
"لماذا يحدث هذا كلما أخذتك إلى المتاجر؟" وتسأل نفسها مع أنها كررت نفس الأسلوب لنمط عادةً متكرر. وعندما يثار موضوع وقت النوم في منزل طفل ذو إيقاع غير منتظم توجد مشكلة، عادةً أن مشكلة النوم تستمر وقت طويل، فمنذ الثالثة أو الرابعة يتكون أسلوب معارك وقت النوم بقوة في العائلة.
إذا لم يكن الطفل متعبًا سوف يحارب الذهاب للنوم، سيبدأ في الظهور عند مدخل الغرفة ويطلب عصير أو قصة أو لعبته المفضلة وهذا الظهور سيتكرر مرات ومرات، وحينما يحاول الوالدان إجبار الطفل أن يغلق عينيه وينام يبدأ الطفل في شعوره بالقلق والخوف من الذهاب إلى فراشه لأنه يعرف أنه سيكون هناك معركة حتى أنه يدخل في مقاومة النوم. وأخيرًا ينتهي هذا المشهد بالدموع والإحساس بالذنب ويشعر الوالد بعدم الكفاءة ويشعر بالأسف على ذلك الطفل البائس المسكين والطفل الذكي يعرف كيف يستغل هذا الأسف والشفقة.
إن المواضيع يمكن أن تكون كثيرة مع هذا الطفل الصعب وهي تتراوح من الطعام إلى النوم إلى الملابس إلى اللعب إلى المدرسة إلى وقت اللعب ولكن عندما تتصل أو ترتبط بهذا الصراع المستمر فإن تأثيرها على الوالدين يكون نفس تأثيرها على الطفل.
تعايش سيء– نظام وسلطة غير فعالين– تحديد دوافع– نقد القدرة على السيطرة، ويسهم الصراع على القوة اليومي في تلك الدائرة الرهيبة.
ماذا يحدث للأم؟
إن الشخص الأساسي الذي يعتني بالطفل عادةً هي الأم والتي تجد نفسها تستجيب إلى هذه المواجهة بطرق عديدة، وليست كل الأمهات لديهن كل تلك الردود. توجد عوامل كثيرة مخففة لتلك الكآبة من ضمنها أن الآن تستمتع بصحبة طفلها وتتسلى بوجوده، ولكن معظم ردود الأم الشائعة هي:
1. الانزعاج: هذه الأم التي تقول أنا لا أعرف من أين أتى هي ببساطة لا تفهم ماذا يفعل طفلها ولا تستطيع أن تكون ردود فعل مستمرة لفعله فإن استجابتها تتغير دائمًا مع سلوك الطفل مثلاً: يتطلع الطفل بشوق إلى الذهاب لحفل وينطلق سعيدًا وبعد أسبوع تتكرر نفس الظروف حفل آخر ولكن هذه المرة يكون الطفل في نوبة غضب، والأم لا تعرف لماذا وهذا يضايقها، فالتوقعات تلعب دورًا كبيرًا في الإسهام في انزعاج الوالدين، إن الأم المهتمة بالموضة ستلاقي صعوبة في فهم الطفل الذي يريد أن يرتدي نفس الملابس يوم بعد يوم، إن الوالد الهادئ الخجول سوف يتأثر جدًا من الطفل عالي الصوت شديد الانفعال.
2. التعب: بعض من هؤلاء الأطفال يحتاج إلى التوجيه وقيادة مستمرة، إن وظيفة الأبوة أو الأمومة مرهقة جدًا، فمنذ بداية الطفولة تكون متعبًا حين يكون نومك محدودًا جدًا تبعًا لمشاكل التغذية والنوم.
ثانيًا: يمكن أن تكون مبالغًا في توجيه وتربية الطفل في متابعته كثيرًا –تنظيفه– تحضير وجبات خاصة، إعطاء الطفل اهتمام مستمر ولكن بدون نتيجة في تغيير سلوكه وهذا مؤكد متعب جدًا. فالأم التي جهزت غداء خاص لهذه الطفلة الصعبة تقدمه لها الساعة الرابعة كل يوم لأنها تقول أنه الوقت الذي تحب فيه الطفلة أن تأكل وتقول الأم لا أستطيع أن أتغير ولذلك فهي تضطر إلى إطعام طفلين آخرين وزوجها ونفسها الساعة 6,30 مساءً، هذا يزيد من أعباء هذه الأم المرهقة والمضغوطة بتأثير المعارك والانفعالات القوية التي تسهم في تكوين الدائرة الرهيبة.
3. الغضب: إن الأمهات اللاتي لا يتكيفن بسهولة مع الأطفال صعبي المراس غالبًا ما يكونون غضبى، فهذا الغضب الشديد يأتي نتيجة النظام غير الفعال، فكثير من الصراخ وأحيانًا الضرب الذي لا يأتي بفائدة تذكر يتكون لدى الأم تخيلات مثل التخلص من الطفل أو الهروب بعيدًا أو التخلي عن الطفل وهذا الغضب لا يعبر عنه فقط على الطفل ولكن على الزوج وأشقاء الطفل وأثناء إحدى معارك الصراع على القوة ينتج عنها فقدان السيطرة وعقاب جسدي مؤسف شديد.
4. الإحساس بالذنب: كنتيجة مباشرة لإحساس الأم بعدم الكفاءة يوجد إحساس متزايد بالذنب لكونها سبب مشاكل الطفل فهذا على قمة الأشياء التي تقال للوالدين عن طريق الأطباء والمدرسين والأمهات الأخريات وزوجها وعائلتها وعائلة زوجها، والإحساس بالذنب يكون نتيجة سؤال الشخص لنفسه، ما سبب نوبات الغضب والقلق والاضطراب، والأم التي تنظر بهذه الطريقة تعتقد أن العالم يظن أنها أم سيئة وأن طفلها سيء من بيت سيء وهذا يشعرها بالعجز.
فحين تكون الأم في الحديقة تظن أن كل شخص يلومها عندما يضرب طفلها العنيف المنفعل كل الأطفال، إن الأم التي توبخ طفلها أمام جدته يمكن أن تحصل على رد: ماذا تفعلين به؟ لماذا لا تتعاملين بطريقة أفضل؟ هل فعلت هذا بك عندما كنت صغيرة؟ وهي تعرف فعلاً أن أمها تظن أن هذا خطأها أولاً وأخيرًا.
5. الحرج: يعرف الآباء ذلك الإحساس ولكن والدي الطفل الصعب يتضاعف عندهم هذا الإحساس ألف مرة وهذا الإحساس خارجي، أما الإحساس بالذنب إحساس داخلي ويحدث عادةً في الأماكن العامة عندما تلاحظ الأم نظرات الأمهات الأخريات، موظفي المتجر، المشترين، الجرسونات، أمناء المكتبة، سائقي الأوتوبيس، والمشاهدين الآخرين لسلوك الطفل السيئ وأكثر من ذلك لعدم قدرتها على التحكم في الطفل.
6. عدم الكفاءة: تشعر الأم بعدم الكفاءة وبالعجز فهي لا يمكنها التحكم في الطفل وبمقارنة نفسها مع الأمهات الأخريات وبأمها تجد نفسها في وضع سيء. إن الأم التي تحضر طفلها إلى برنامج ترفيهي في المدرسة تكون في مجموعة من الأمهات والأطفال فالأمهات في تلك المواقف تراقب بعضها وتقارن بين تصرفات أطفالهن ولكن الطفل الصعب الذي يواجه مشكلة تغيير النشاط أو التحكم في النشاط يمكن أن يجذب انتباه واهتمام كل شخص من الموجودين. وعندما يطلب المدرس من الأطفال أن يخلعوا المرايل ويضعوا جانبًا فرش الرسم يمكن أن يعترض الطفل بقوة، إن التغيير صعب عليه تحمله في خلال هذا الوقت القصير ويلي ذلك سوء التصرف، ويمكن أن تحدث نوبة غضب عندما تستطيع الأم خلع مريلته وإبعاده عن لوحات الرسم يكون الأطفال الآخرين خلعوا أحذيتهم ومرايلهم لكي يشاركوا في بعض الألعاب الرياضية في الملعب بينما تواجه الأم معركة في إجبار طفلها على خلع حذاؤه، ومع كل هذه العيون على ذلك الطفل العنيد كيف يمكن للأم أن تشعر أنها كفء.
7. الاكتئاب: معظم أمهات الأطفال صعبي المراس يشعرن بالاكتئاب على فترات، خاصةً بعد يوم أو أسبوع سيء، وإذا كانت بعض عوامل بيئتها تشكل عليها ضغطًا فإن هذه الأم ستعاني من اكتئاب فعلي وهذا ليس مجرد مزاج سيء سيمر ولكن مرض متعلق به مجموعة أعراض مرتبطة به (الشهية، مشاكل في النوم، قلة التركيز، انخفاض مستوى النشاط، نقد النفس المستمر ونظرة متشائمة للمستقبل) وهذا الاكتئاب يمكن أن يعالج وأي شخص يعاني من تلك الأعراض يجب أن يبحث عن المساعدة.
8. العزلة: تشعر كثير من الأمهات أن الأخريات يتجنبنها لأنهن لا يردن أن يلعب أولادهن مع هؤلاء الأطفال صعبي المراس وهذا يحدث خاصةً إذا كان الطفل نشط أو يستثار بسهولة أو يضرب الأطفال الآخرين، وإذا كانت العائلة تعيش في مجتمع صغير تشعر الأم أنها وحيدة تمامًا وتعتقد أن لا أحد يعرف ما يحدث لها أو عنده أي فهم لمدى الكارثة التي تعيش فيها، وأسوأ من ذلك أنها تشعر أنها الأم الوحيدة التي مرت بتلك المشكلة. وربما تبحث عن إجابات لتساؤلاتها في الكتب الخاصة بتربية الأطفال أو تحاول أن تتكلم مع طبيب الأطفال ولكن لا أحد يفهم هذه الكارثة أو الحيرة التي تعيش فيها.
9. الإحساس بكونها ضحية: وربما يكون هذا هو الطبع الغالب على هؤلاء الأمهات المقهورات، "لماذا يفعل ذلك بي؟ لماذا يكرهني؟ إنه يفعل ذلك متعمدًا، إنه يريد إثارة جنوني"، وتفقد الأمهات إحساسهن بالكفاءة ويصبح الطفل هو الجانب المسيطر في العلاقة، إنه يتحكم في كيفية شعورك أنت، يتحكم في يومك كيف سيكون جيدًا أم سيئًا، إنه يتحكم في حياتك لقد أصبحت تحت سيطرته وضحية له.
10. فقدان الإحساس بالرضا: تشعرين كما لو كنت تحملين حملاً ثقيلاً فكونك أمًا فهذا صعب بدرجة كافية، فالأم تحصل على مردود قليل بالمقارنة بالجهد الذي تبذله فأنتِ تعملين بجهد كبير لأداء أبسط الأمور مثل مساعدة طفلك في ارتداء ملابسه أو تحضير الغداء له فيستغرق منك ساعات لأداء أمور تأخذ من الأمهات الأخريات دقائق لإنجازه، فوجودك مطلوب بصورة مستمرة ولكن قدر قليل أو كثير من الإحساس بالرضى بالأمومة يهرب منك، فكل هذا الجهد مفروض أن يوجد الكثير لتحصلي عليه ولكن هذا لا يحدث.
11. الشعور بأنك محبوس في فخ: إن أمهات الأطفال صعبي المراس يشعرن بعدم قدرتهن على تغيير قدرهم، فهن ملتصقات بطفل لا يستجيب وصعب تربيته، إنهن يشعرن أنه لا أحد يفهم ما يعانين منه ومعظم الحمل يقع على أكتافهن وكثير من تلك الأمهات أكثر مما تتصور لديهن أمنيات وتخيلات بالهروب من المنزل من هؤلاء الأطفال صعبي المراس.
12. الانغماس الزائد عن الحد: وهذا شائع جدًا في الأمهات ذوات الأطفال الصعبي المراس لاختلاط كثير من المشاعر المختلفة بصورة لا تعقل فتصبحين منغمسة جدًا في صعوبات طفلك ومشاكله وتبذلين مزيد من الحماية والرعاية لاحتياجاته. وهذا ينبع من أنك فقط كأمه يمكن أن تفهمين ما يعانيه وهذا الفهم لتلك المعاناة يثير احتياجك لتظلي قريبة منه، هذه الحماية الزائدة يمكن أن يكون لها صلة بصراعاتك الخاصة لكونك أم.
فمثلاً هذه المشاعر ستكون مبالغًا فيها لامرأة المفترض أنها ناضجة ومستقلة ولكنها مجرد طفلة، فبالنسبة لها هذا الاحتياج لتحمي ابنها سيكون مبالغًا فيه، هذا كله بالإضافة إلى أن ما يفعله الطفل كل يوم يسهم في إعطاء الوالد شعورًا أنه محاصر وأن العدو هو طفله. وطريقة حل هذا الموقف التعس وقطع هذه التفاعلات في تلك الدائرة الرهيبة هو أن تتعلم كل شيء عن لماذا يتصرف ابنك بهذه الطريقة وبعد ذلك تتدرب على أساليب الإدارة والسلطة العاقلة وتتعلم كيف تكون والد لهؤلاء الأطفال بكفاءة وسوف يكون بإمكانك أن تتجنب بعض النتائج السيئة والمؤلمة لكل منكما.
ويتبع >>>>>>: الطفـل العنيـد (18)
واقرأ أيضاً:
كيف نربي طفلاً منظمًا؟ (2) / الطفل العصبي / كيف تصنعين طفلاً يحمل هم دينه؟