إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون أن تكون لديه مجموعة من المبادئ والقيم التي يحددها هو بنفسه سواء بشكل إرادي أو بشكل تلقائي لا شعوري، وعند غياب هذه المجموعة من القيم يصبح الإنسان في حالة من انعدام التوازن والتخبط, وقد تطول مدة هذا الخلل فيدخل الإنسان في مرحلة المرض النفسي وقد تكون قصيرة وهذه تعتبر طبيعية حيث يراجع الإنسان نفسه من وقت لآخر. وبغض النظر عن مدى صواب وخطأ هذه المبادئ التي يتبناها الإنسان فإنه يعتبرها أساساً لتصرفاته ومرجعاً لنفسه لأنه بطبعه لا يتحمل الشعور بأنه مخطأ أو أنه سيء. فحتى أعتا المجرمين يعتبرون أنفسهم أشخاصاً طيبين ويجدون لأنفسهم مبررات لأفعالهم حتى يحافظوا على صورتهم الجميلة أمام أنفسهم.
ويبدأ الإنسان بتكوين مبادئه للمرة الأولى أثناء طفولته بشكل غير واع من خلال فطرته التي فطر عليها بحب الخير ومن خلال التربية والمؤثرات البيئية والاجتماعية التي يتعرض لها. وفي خلال هذه الفترة تكون القيم الذاتية لدى الإنسان في أعلى درجات النقاء والصواب حتى أننا درجنا على استعمال مصطلح براءة الطفولة للتعبير عن هذا الصفاء والنقاء في قيم الإنسان الذاتية.
ومع دخول الإنسان في مرحلة المراهقة تبدأ مجموعة جديدة من القيم بالتغلغل في الإنسان من خلال بداية إدراكه لبعض الظروف الواقعية في الحياة ومن خلال تفتح مشاعره وغرائزه المختلفة وسعيه لتلبيتها مضافاً إلى ذلك محاولته المستميتة لتقليد المثل الأعلى الذي يختاره كمعبر عن طموحه وأحلامه ورغبته في الحرية من القيود التي يشعر أنها تفرض عليه من الأهل والمجتمع بسبب صغر سنه. وعادة ما تكون هذه المجموعة من القيم الجديدة مزيجاً من قيم براءة الطفولة وقيم الكبار الذين له احتكاك مباشر بهم خلال هذه الفترة. ولكن عدم الاستقرار يعتبر أمراً طبيعياً خلال هذه المرحلة ويمثل شكلاً من أشكال النمو, لذا فعادة ما تتسم مرحلة المراهقة بنوع من الاضطراب النفسي ولذلك فهي تعتبر من أخطر المراحل العمرية من حيث الصحة النفسية, حيث أنه مع حدوث هذا الاضطراب يكون المراهق صيداً سهلاً لكثير من أنواع الاضطرابات النفسية المرضية ويصبح الأمر أكثر خطورة عندما لا تتوفر العناية النفسية المناسبة له من قبل الكبار.
ثم يحين الدور على نقطة التوازن المتحركة حين يصبح الإنسان قادراً على انتقاء مبادئه بنفسه والتمييز بشكل واضح بين ما يقتنع به هو وما يكتسبه بحكم التعود أو التعامل مع المجتمع, وهذه تعتبر نقطة التحول بين مرحلة المراهقة ومرحلة النضج. وفي هذه النقطة يبدأ الإنسان بتحديد مجموعة ثابتة من القيم غير قابلة للتعديل ومجموعة أخرى أكثر مرونة يستطيع من خلال تغييرها ضمن حيز معين صعوداً أو هبوطاً وإيجاد نقطة التوازن لنفسه طبقاً لمعطيات ومتغيرات الحياة والمجتمع من حوله.
بشكل عام يمكننا تمثيل نقطة التوازن هذه على خط يمثل محور الخير والشر. ودائما يسعى الإنسان لإيجاد نقطة توازن له على هذا المستوى. وتكمن المشكلة الإنسانية الحقيقية منذ بداية الخليقة في المستوى الذي يختاره لنفسه لإيقاع نقطة التوازن عليه مع الأخذ بالاعتبار جميع العوامل التي تؤثر على اختياره هذا من ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
ومن نسميهم بالأشرار عادة ما يختارون لأنفسهم نقطة توازن منخفضة وكلما انخفض مستوى هذه النقطة كلما أصبحوا أكثر قرباً للشر منهم للخير. وعلى العكس فمن نسميهم بالطيبين عادة ما يختارون نقاط توازن عالية المستوى. ولكن, مع استمرار الصعود بعد حدود معينة يبدأ الإنسان باختيار نقطة التوازن في مناطق خطرة متطرفة في العلو تقود في النهاية إلى السقوط نحو قاع الشر وهذا ما نسميه بالتطرف.
ومن هنا يمكننا صياغة مشكلة الإنسان على أنها إيجاد المستوى المناسب لنقاط التوازن بحيث تظل في الوسط كما يقول الله سبحانه وتعالى "جعلناكم أمة وسطاً" بحيث يكون الصعود أو الهبوط من حولها ضمن النطاق المقبول من الإيجابية والسلبية ومن المثالية والواقعية.
اقرأ أيضاً:
التحرر من قيود الحرية