هل يُمكن أن يُعد أدب أي أمة مسؤولا، بشكل ما، عن تشويه نفسية متلقيه من أبنائها، بزرع الكثير من النزعات العدوانية الإجرامية الموجهة ضد كل من ليس من هذه الأمة؟ وهل يمكن لأي نص من هذا النوع أن يندرج ضمن قائمة الأدب الإنساني، حتى وإن شفعت له فنية متطورة وفرها له مؤلفوه؟
الباعث على طرح هذا السؤال، سؤال آخر يطرحه كثيرون ممن أُتيحت لهم فرصة الاطلاع على بعض نماذج الأدب الإسرائيلي، وبخاصة تلك التي تُحرض قارئها اليهودي تحديداً، ضد العرب بشكل خاص، وتدعوه إلى احتقارهم واضطهادهم وقتلهم وتعذيبهم على خلفية عنصرية، وهذا السؤال هو: إلى أي حد ساهمت نصوص الأدب الإسرائيلي في صياغة النفسية العنصرية ذات النزعات العدوانية ليهود إسرائيل؟
بداية، قد يكون من الضروري الإشارة إلى الحقيقة التي تقول: إن الأعمال الأدبية، في أي بلد، على اختلاف أنواعها، من قصة وشعر ورواية ومسرحية، يتجاوز تأثيرها، في متلقيها ـ وخصوصاً إذا كان من أبناء البلد الذي أنتجت فيه ـ حدود المتعة، إلى المساهمة الفعَّالة في تشكيل جزء من بنيته النفسية والعقلية...
وعلى هذا يمكن القول: إن الطموحات والعواطف والمشاعر المتضاربة للفرد العادي التي تُبرزها الأعمال الأدبية الصادرة في أي بلد، سواء عبر الصورة الشعرية الموحية، أو من خلال سيرورة الفعل ورد الفعل لأبطال الأعمال الدرامية، لا بد أن تترك تأثيراً ما في نفسية متلقي هذه الأعمال وفي عقله، ولأنه من المحتمل تَحوّل هذا المتلقي، في أي وقت، إلى جندي الساعة، عندما تتعرض "بلده" لأي خطر من أي جهة خارجية، أو عندما ترغب قيادته في شن حرب على أي بلد مجاور أو بعيد، حتى وإن كانت هذه الحرب عدوانية، فإن تأثير الأعمال الأدبيـة والفنيـة التي قرأها أو شـاهدها، كثيراً ما يظهر في ممارسـتـه السـلوكيـة، على أرض الواقع؛ ذلك أن هذه الأعمال قد سـاهمت، عن وعي منـه أو عن غير وعي، في تشـكيل جزء من نفسـيتـه وجانب مهم من قناعاتـه العقليـة، فإذا به يتصرف في سـاحـة السـلوك، قريباً أو على نحو مشـابـه، لتصرف بطل هذه القصـة أو تلك الروايـة التي قرأها، في ظرف مماثل...
بتعبير آخر: نلاحظ أن تلك الطموحات والعواطف والمشاعر التي قد تبدو فردية في العمل الأدبي، وغير متبلورة واقعياً، أي متخيلة، هي التي تتم بلورتها وتحولها إلى فعل ملموس على أرض الواقع، وخصوصاً في أوقات الحرب، بل هي التي تبرز أثناء المعارك بوصفها عقلية ذلك الفرد المحارب ونفسيته.
على افتراض صحة هذه الرؤية لتأثير العمل الأدبي، في نفسية متلقيه وعقليته، وتطبيقها، من ثَمَّ، على جدلية التأثر والتأثير بين نصوص الأدب الإسرائيلي ومتلقيه من يهود (إسرائيل) تحديداً، يُمكننا القول: إن التحليل الموضوعي لنتائج هذه الجدلية على الصعيد السلوكي للشخصية الإسرائيلية، وخصوصاً في ساحة الحرب، يقودنا إلى حقيقتين هامتين، تتعلق أولاهما بدور المضامين التي تتمحور حولها، وما يزال، نتاج معظم الأدباء الإسرائيليين، وتأثيرها في البنية النفسية للفرد الإسرائيلي، وهي مضامين تُكرس النزعة العدوانية من منظور عنصري ضد العرب، وفي حالتي السلم والحرب معاً... أما الحقيقـة الثانيـة، وربما تكون الأهم، فهي أن ما تدعو إليه تلك المضامين المشـبعـة بالروح العنصريـة العدوانيـة، ضد العرب، لم تبقَ مجرد كلمات، بل تمّت بلورتها، بالتدريج، لتتحول إلى أفعال وممارسـات غير إنسـانية، يقوم بها الفرد الإسـرائيلي ضد الإنسـان العربي، ولاسـيما، في حالات اشـتداد الصراع بين الطرفين...
ولكي نُضيء أكثر كيفية تحوُّل نتائج التأثير الأدبي للنصوص العنصرية التي أنتجها "أدباء" (إسرائيل)، إلى ممارسات سلوكية، تتسم بالعدوانية المفرطة، قام بها، وما يزال، معظم الإسرائيليين الذين قرؤوا بعضاً من تلك النصوص، في مرحلة ما من مراحل حياتهم، قد يكون من الضروري، التعرف أولاً على بعض ما ورد فيها، من صفات سلبية تم استخدامها في رسم صورة مشوَّهة للشخصية العربية، تدفع أي يهودي يطلع على ملامحها إلى كُره صاحبها واحتقاره والحقد عليه والرغبة في إيذائه والفتك به...
ولا أدل على صحة هذا المعطى، من اعتراف "أديب" كـ (عاموس عوز) الذي يضعه النُقاد الإسرائيليون في مقدمة مبدعي الأدب الإسرائيلي، ففي برنامج أدبي جرت وقائعه، في جامعة (تل أبيب)، عام 1979، حول الصورة النمطية للعربي في الأدب الإسرائيلي، وأشارت إليه الروائية الإسرائيلية (شولاميت هارإيفين)، في مقال لها نشرته، في صحيفة (معريف) الصادرة بتاريخ 20/04/1979، قال (عوز)، أثناء ذلك البرنامج، معترفاً دون أدنى مواربة: «العربي في أدبنا شـخصيـة هزيلـة، ونمطيـة دائماً، نُكنُّ لصاحبها الكثير من الاحتقار والترفع والاتهام، وقدراً ملحوظاً من الحقد»، وبدون تردد أو مواربة أيضاً، لم يستثنِ (عوز) أياً من "أدباء" (إسرائيل) أو يهودها من تهمة النظر إلى العربي والشعور تجاهه، على هذا النحو العنصري العدواني، إذ قال معمماً: "كُلنا عموماً..."
وإذا انطلقنا من اعتراف (عوز) الآنف، في محاولتنا تتبع التأثير السلبي لصورة العربي المشوَّهة، في الأدب الإسرائيلي، على نفسية متلقي هذا الأدب وعقليته ومواقفه من صاحب هذه الشخصية، وكيف تمت ترجمة نتائج هذا التأثير السلبي إلى سلوكيات مُفرطة في العدوانية، ضد العرب، مقاتلين ومدنيين عُزلاً، في أوقات الحرب والسلم، على السواء، نلاحظ أن مضامين الكثير من الأعمال الأدبية الإسرائيلية تؤكد وتدعم ما اعترف به (عوز)...
إذ نجد أن كثيرين من مؤلفي هذه الأعمال قد قصدوا متعمدين إلى تحقير الإنسان العربي والحط من كرامته الإنسانية وقيمته، على مختلف الصُعد، ومن أبرز هؤلاء، (شموئيل يوسف عجنون) الذي لم يتورع في روايته الطويلة (تمول شلشوم = أمس وأمس الأول)، عن تشـبيـه العرب بالكلاب في جلسـتهم، كما لم يتورع عن وصفهم بـ(أعداء الحضارة) لزعمه في قصته (تهلا) بأنهم حولوا ما وصفه بـ (مراكز الحضارة اليهودية القديمة في فلسطين) إلى إسطبلات لحميرهم، أما في أعمال روائي مثل(بنيامين تموز) الذي يوصف أحياناً بالاعتدال في نظرته للعرب، فرغم (اعتداله) هذا لم يُظهر العربي، في روايتـه (رقفيئم لنعمان = تراتيل لنعمان) إلا كمغتصبٍ للنسـاء اليهوديات، أو كخادم مطيع للأثرياء اليهود...
وأما في أشعار (ناتان ألترمان) فتطالعنا صورة العربي (القاتل) أو (اللص) فقط، وفي قصة (الأسير) لـ (سميلانسكي يزهار) نجد العربي مجرد (مخلوق ضعيف أبله لا يقدر على شيء)، وكذلك في روايته (خربة خزعة) حيث تُطالعنا صورة العربي (الجبان والمتخاذل والأناني) الذي لا يتوانى عن الهرب من أمام أعدائه محاولاً النجاة بنفسه وماله إن استطاع، تاركاً لأولئك الأعداء أرض وطنه يستبيحونها كما يشاؤون دون أي مقاومة منه...
وإلى جانب هذه الملامح التي أُريد لها أن تُثير في نفسية القارئ اليهودي أقوى مشاعر الاحتقار للإنسان العربي، هناك ملامح أخرى أراد مؤلفو الأدب الإسرائيلي من وراء إلصاقها بالشخصية العربية، أن يُثيروا في النفسية الإسرائيلية أشد مشاعر الحقد ضد صاحبها، من ذلك مثلاً: الغدر والخيانة، كما يزعم (ناتان ألترمان) في قصيدته الطويلة (أنشيه علياه هشنياه = رجال الهجرة الثانية)، ومن ملامحه المفتراة أيضاً رغبته الدائمة في قتل الإسرائيلي أينما وجد، مع حرص الذين يصفونه بهذه الصفة على إغفال الأسباب التي تُثير في نفسه هذه الرغبة، وخصوصاً السبب المتمثل في احتلال أرضه من قِبل ذلك الإسرائيلي، وطرده منها، وقتله، دونما رحمة، إن هو رفض الخروج أو أصرَّ على المقاومة...
ومن أكثر "الأدباء" الإسرائيليين الذين نحوا هذا المنحى الشاعرة اليمينية المتطرفة (نعمي شيمر) والروائية المماثلة لها، اسماً ومنهجاً، (نعمي فرنكل)، وهاتان، مع كثيرين غيرهما، من "أدباء" (إسرائيل)، دعوا قُراءهم اليهود، في الكثير من أعمالهم، إلى عدم التردد في قتل العربي أينما وُجِد، بل ذهب بعض هؤلاء إلى أبعد من ذلك حين راحوا يُصورون لقارئهم اليهودي أن إقدامه على هذا العمل اللاإنساني يُعد مصدراً للإحساس بـ (البطولة والفخر)، كما نقرأ في بعض قصائد (شيمر) نفسها!!!
وبالانتقال من الطرف الأول للمعادلة، أي "الأديب" المؤثر، إلى طرفها الثاني، أي الإسرائيلي المتأثر بإنتاج هذا "الأديب"، نلاحظ أن الهدف الذي قصد إليه مؤلفو "الأدب" الإسرائيلي قد تحقق إلى حد كبير... فالذين تلقوا "أدبهم" من يهود (إسـرائيل)، وتأثروا بـه، وأُصيبوا بعقدة العنصريـة، قد تحولوا، في أيام السـلم والحرب، إلى سـاديين يتلذذون بقتل العرب، حتى وإن كانوا مسـالمين عُزلاً؛ كما تحولوا، وخصوصاً، في سـاحات المعارك، إلى مخلوقات بالغـة الوحشـيـة في ممارسـاتها، ليـس ضد العسـكريين فقط بل حتى ضد المدنيين أيضاً...
وهذا ما نجد أمثلة كثيرة عليه في سجل الممارسات الإسرائيلية ضد العرب، وخصوصاً تلك المذابح المروعة التي لم يستثنِ مرتكبوها حتى الأطفال والعَجَزَة من القتل، وإذا اتخذنا مما فعلـه جنود الاحتلال ضد العرب، في الفترة الأولى من انطلاقـة الانتفاضـة الفلسـطينيـة، مثالاً على نتائج ما زرعـه "الأدباء" الإسـرائيليون في نفسـيـة قُرائهم الذين صاروا جنوداً في جيـش الاحتلال الإسـرائيلي، نجد أن تأثير كتابات هؤلاء "الأدباء"، قد بلغ، من الوحشـيـة والسـاديـة العنصريـة، في الممارسـة السـلوكيـة، حدّاً مذهلاً في قسـوتـه، إذ لم يتورع بعض هؤلاء الجنود عن تكسـير عظام الأطفال الفلسـطينيين، ودفن بعض شـبان الانتفاضـة وهم أحياء!!! وهذه أعمال تصل، في قسـوتها ووحشـيـة تنفيذها إلى أبعد وأشـنع مما فعلـه أي جيـش إرهابي في التاريخ...
بعد هذه الإطلالة السريعة على دور "الأدب" الإسرائيلي في صنع النفسية العنصرية العدوانية لمعظم يهود (إسرائيل)، ودفعهم إلى ارتكاب أبشع الجرائم بحق العرب، يمكن القول: إن صاحب نفسـيـة وممارسـات كهذه، من المسـتبعد أن يكون ميالاً لصُنع السـلام مع العرب، بل العكـس هو الصحيح، كما تؤكد تصرفاتـه وممارسـاتـه... ومثل هذا الموقف من الإسرائيلي، يُعتبر بدهياً، حين ننظر إليه ونُحاكمه، على خلفية النظرة العنصرية التي رسَّخها "الأدب" الإسرائيلي في نفسيته، ضد العرب، طيلة السنوات الخمسين الماضية، كما سبقت الإشارة آنفاً.
خصوصاً وأن مؤلفي هذا "الأدب"، لم يوضحوا لقُرائهم الإسـرائيليين، الأسـباب الحقيقيـة للصراع، ولم يرووا لهم الأحداث كما وقعت، بل كما ألفوها هم، وعلى النحو الذي يزيد الكراهيـة ضد كل ما هو عربي، فقلما نجد "أديباً" إسـرائيلياً تحدث عن المذابح التي ارتكبها المسـتوطنون الأوائل بحق العرب العُزل، أو نجد بينهم من يقول الحقيقـة، ولو لمرة واحدة، حول ملكيـة العرب للأرض التي اسـتوطنها الإسـرائيليون، بعد أن احتلوها بالقهر والقوة، ومازالوا يسـتوطنوها إلى اليوم... بل يُصورون العرب على أنهم... وهكذا دون أي مُسـوغ، لا يريدون لليهود أن يسـتوطنوا تلك الأرض، وأن العرب، هكذا ودون مُسـوغ، يكرهون الإسـرائيليين، وأن العرب، هكذا ودون مُسـوغ، ينتفضون ضد الوجود الاحتلالي (لإسـرائيل) في أراضيهم... فهل يُمكن لعاقل أن يُصدق أن كل هذا الافتراء ليـس مسؤولا عما ارتكبـه ويرتكبـه جنود الاحتلال ضد العرب، أو أنـه غير مسؤول عن رفض معظم الإسـرائيليين لصُنع السـلام مع العرب!؟
واقرأ أيضاً:
فتوى يهودية بإقامة معسكرات إبادة للفلسطينيين/ سيكولوجية الصهيونية في حكايات المهدي(4)/ هل يلعب الإعلام الحديث دوراً تضليلياً؟/ أذرع الإخطبوط الصهيوني في وسـائل الإعلام