ما حدث يوم جمعة العزة 27 يناير 2012 م يحتاج من الإخوان لإعادة نظر وتفكير عميق (وليس بطئ) نظرا لدلالاته وتكراره وآثاره، ونظرا لكون الإخوان يمثلون الآن أغلبية برلمانية يتوقع منها أن تستشعر نبض الناس ومشاعرهم وتوجهاتهم وأن تتجاوب معها. وبالمناسبة فإن كاتب هذه السطور ليس معارضا للإخوان بل محبٌّ لهم ومتحمسٌ للمشروع الحضاري الإسلامي.
لقد كان معروفا مسبقا بأن الإخوان سينزلون في يوم 25 يناير وما يليه لهدفين: الأول هو الاحتفال بعيد ثورة 25 يناير والثاني هو ضبط إيقاع الميدان حتى لا ينفلت ويتحول إلى ثورة ثانية تعيد الأمور إلى المربع صفر في مجرى الثورة المصرية. وكان تقدير الإخوان أن التيارات العلمانية والليبرالية تريد أن تعود بالثورة إلى الشارع مرة أخرى لكي تلغي ما تحقق في البرلمان حيث لم يكن في صالح تلك القوى، وأن ثمة مخطط يريد القفز فوق نتائج صناديق الانتخابات ووصول العلمانيين والليبراليين إلى السلطة عن طريق الضغط الثوري في الميادين والشوارع.
وبناءا على هذه الرؤية صدرت الأوامر (من الغرف المغلقة الهادئة ومن القيادات التي تأثرت بسنوات السجن والتعذيب) للكوادر بتأمين الميدان والنزول للاحتفال بما تحقق من أهداف الثورة (انتخابات نقابية وجامعية وبرلمانية ومحاكمات تجري لرموز النظام السابق) والحرص على العلاقة الودية مع المجلس العسكري. ولكن نبض الميدان كان مختلفا ومشاعره كانت في اتجاه آخر (لم يستشعره مصدرو الأوامر) إذ سيطر على الجموع الغفيرة (التي هي خليط من المصريين بكافة توجهاتهم وانتماءاتهم) مشاعر الإحباط والغضب والرفض لاستمرار حكم العسكر والمطالبة بالقصاص للشهداء والمصابين، والمحاكمة الجادة والحقيقية لرموز النظام السابق (وليس تدليلهم في الطائرات والمنتجعات الصحية)، وتحقيق أهداف الثورة التي لم يتحقق منها شيءٌ فعليا في نظرهم.
لم يكن الغاضبون والمحبطون والحزانى والمكلومون منطلقين من أي خلفيات حزبية أو مخططات تآمرية وإنما كانوا مدفوعين بوعيهم التلقائي الصادق ومشاعرهم الحقيقية التي تعكس الرفض لما قام به العسكر من أخطاء (يبدو كثير منها متعمدا) أدت وتؤدي إلى تفريغ الثورة من مضمونها، بل وتم إلقاء تبعات تلك الأخطاء على الثورة والثوار مما أدى إلى تشويه صورتهم في أعين العامة الذين ظنوا أن الانفلات الأمني والبلطجة والتدهور الاقتصادي هو نتاج الثورة وبفعل الثوار، وهكذا كادت الثورة بهذا الفعل وما سانده من تزييف إعلامي أن تفقد تأييدها الشعبي لولا ذلك الزخم الذي انطلق في 25 يناير 2012 وما بعده ليعيد للثورة توهجها ويعيد للناس وعيهم الصادق بها ويكشف كذب المدّعين والمحتالين والمتلاعبين بالثورة.
للأسف الشديد لم يدرك الإخوان الذين خططوا لشكل تواجدهم في الميدان هذه الحقيقة ولم يستشعروا هذه التوجهات الشعبية فكانوا أشبه بمن يقيم فرحا وسط مأتم كبير، وهذا فعل مرفوض في الوعي المصري العام، إذ سرى العرف لدى المصريين من آلاف السنين على تقديم الحزن على الفرح وعلى مراعاة مشاعر الحزانى والمكلومين وعلى تأجيل الأفراح حتى تندمل الجراح، وأن من يتخطى هذا العرف يصبح متعديا على مشاعر الناس ومستفزا لها وخارقا لقانون أخلاقي في المجتمع. وهذا ما حدث في ميدان التحرير حين ظهرت اللافتات الاحتفالية على منصة الإخوان وبدأ بث الأغاني الوطنية أيضا بشكل احتفالي، وحين استفز ذلك مشاعر الثوار وأهالي الشهداء حدثت المشادات والمواجهات وكادت تحدث كارثة في الميدان لولا العقلاء من التيارات المختلفة والمستقلين الذين صعدوا المنصة وخاطبوا الجميع وطالبوهم بضبط النفس والالتفاف من جديد حول أهداف الثورة وكان من أبرز هؤلاء المهندس محمد الصاوي والأستاذ أحمد ماهر.
ويلاحظ عدم وجود شخصية إخوانيه في ذلك الوقت قادرة على مخاطبة الجماهير الغاضبة وتهدئتها، وتلك مشكلة أخرى يجب أن يهتم بحلها الإخوان وهي افتقاد الرموز ذات الكاريزما العالية والذكاء الوجداني المرتفع لتخاطب الجماهير وتقنعها أو تهدئها في مثل تلك المواقف على أن يكون لهذه الشخصيات مصداقية عالية لدى الجمهور المصري من غير الإخوان، وهذه الصفات الكاريزمية والتأثيرية تتوافر في شخصية مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ولكنه للأسف أصبح خارج الصف الإخواني (على الأقل تنظيميا).
ثم تم معالجة الخطأ بخطأ آخر حين استبدلت الأناشيد الوطنية بإذاعة القرآن الكريم، وقد يبدو للبعض أن إذاعة القرآن في هذا التوقيت (وفي غيره) أمر محمود فلا شيء يعلو على كلام الله، ولكن للأسف الشديد كان استخدام القرآن في هذا المشهد غير موفق إذ كان أشبه بعملية رفع المصاحف إبان الفتنة بين سيدنا معاوية وسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، كما أن سياق التظاهر والهتافات ليس مناسبا للإنصات للقرآن وتدبره وإعطائه الاحترام اللازم لتلقيه، فكان ذلك عرضا للقرآن في غير موضعه.
هذا الانشقاق العاطفي حدث أيضا في أولى جلسات مجلس الشعب حين تم توجيه رسالة شكر للمجلس العسكري، وكان هذا ضد التوجه الشعبي العام الذي يفترض أن يعبر عنه حزب الحرية والعدالة داخل المجلس وخارجه. وحدثت أيضا انشقاقات عاطفية حين كانت تخرج مليونيات للضغط على المجلس العسكري لتحقيق أهداف الثورة ولمواجهة الثورة المضادة وللكف عن التلاعب بحقوق الشهداء والمصابين ومع هذا يمتنع الإخوان عن مؤازرة الذين نزلوا إلى الميدان حيث أن لهم حسابات أخرى. وقد تكون الحسابات الأخرى مقبولة في حالة كون الإخوان جماعة دينية محدودة أو منعزلة، أما حين تدخل المعترك السياسي ويكون لها حزب وأغلبية فمن المحتم أن تكون لدى الإخوان القدرة على التجاوب مع مشاعر الجماهير ومطالباتهم خاصة وقد ثبت أن كل ما تحقق للثورة حتى الآن لم يكن ليتحقق لولا هذه المليونيات والفعاليات التي تغيب عن كثير منها الإخوان وكان ذلك صادما وجارحا للقوى الثورية.
وظهرت قمة الانشقاق العاطفي في أحداث شارع محمد محمود ومجلس الوزراء حين صدرت تصريحات وأقوال (محسوبة على الإخوان) جارحة للثوار والفتيات الثائرات الذين قتلوا وسحلوا في الشوارع وتعرت أجسادهم على يد قوات الأمن والجيش، في الوقت الذي كان يستوجب من الإخوان التوافق مع الأعراف والمشاعر المصرية في مثل تلك المواقف التي تنتهك فيها حرمة النفس البشرية وحرمة الفتيات لا لشيء إلا لأنهن خرجن يطالبن بالعيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية.
ويبدو أن هذا الانشقاق العاطفي ناتجا عن حسابات كثيرة معقدة للقرار الإخواني تجعله عقلانيا أكثر مما ينبغي وبراجماتيا أكثر مما تحتمله جماعة ذات أصل دعوي إسلامي ونشازا أكثر مما يحتمله لحن ثوري محبط وغاضب وحزين، وهذا يجعل الإخوان يصلون متأخرا ويخسرون كثيرا. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
واقرأ أيضاً:
نصيحتي للإخوان/ الفلول تحييكم!!/ كأنك ماغزيت!/ مازوخية المصريين: باي باي ثورة!