علق أحد الكتاب الساخرين بقوله: إذا كانت الحكومة ستحل كل أزمة مع الناس بإقامة حواجز خرسانية، إذن فمن الأفضل أن تتولى شركة المقاولون العرب مهمة إدارة شئون البلاد في هذه المرحلة.
لقد باتت الحواجز الخرسانية الضخمة والأسلاك الشائكة أحد العلامات البارزة في منطقة وسط البلد بالقاهرة، وهي تزداد مع الوقت، إذ يبدو أنها الحل -في نظر المسئولين- للتخلص من مواجهة المحتجين والمتظاهرين، فهي تحجب أصواتهم وشعاراتهم وهتافاتهم ومطالباتهم وقبل ذلك حجاراتهم.
وحين قامت وزارة الداخلية ببناء حاجز خراساني بينها وبين المتظاهرين، كتب أحدهم على صفحته على الفيس بوك يطالب زملاءه بأن يتوجهوا إلى الجهة الأخرى لوزارة الداخلية ليتظاهروا هناك فتقوم الوزارة بعمل حائط خرساني من الخلف يضاف إلى الحائط الأمامي وبذلك تحاصر الوزارة نفسها داخل هذا المربع الخرساني فيستريح الناس منها.
وسياسة الحواجز الخرسانية هذه تعتبر امتدادا لسياسة الحواجز والكردونات الأمنية التي ميزت عصر مبارك، إذا كانت هناك حواجز أمنية من تشكيلات سيارات وأفراد قوات الأمن المركزي في طول مصر وعرضها وخاصة حول الجامعات والنقابات وكل التجمعات. وفي هذا السياق قد تبدو الحواجز الأمنية رغم كآبتها وقبحها أفضل بكثير من الحواجز الخرسانية التي تشوه الشوارع والميادين في وسط القاهرة الآن وتوحي بصمم السلطة وعدم قدرتها على التحاور مع الشارع ومع الشباب بوجه خاص، وبفشل الآليات السياسية في التعامل مع فئات المجتمع خاصة الثوار.
ويبدو أن الحواجز الخرسانية مرتبطة بالعقلية العسكرية التي تبني الحصون والمتاريس لتحتمي بها من هجمات الأعداء، وإذا كان هذا صحيحا فلربما نجد سواتر رملية تنشأ في شوارع القاهرة وميادينها بل ربما يتطور الأمر لنرى "تبّات" وخنادق يتمترس خلفها وبداخلها الجنود لتصبح القاهرة بعد ذلك ثكنة عسكرية، وبهذا يحق للعسكر البقاء فيها إلى أجل غير مسمى على اعتبار أنها منطقة عسكرية ممنوع الاقتراب منها أو التصوير، ولا يحق بالتالي لنوارة نجم أن تطالب برحيل العسكر وعودتهم إلى ثكناتهم بل سيطالب العسكر نوارة أن ترحل بعيدا عن تلك المنطقة العسكرية.
ومنطق الجدران العازلة هو نفس منطق إسرائيل في التعامل مع الفلسطينيين إذ يعتبرون أنهم مجرد مخربين ولا يصلح معهم حوار أو تفاهم أو تعايش ولذلك فإن آخر العلاج "العزل". وبهذا يصبح العزل سمة عنصرية توحي بعدم جدارة الطرف الآخر بسماع رأيه أو الاستجابة لمطالبه أو مقترحاته.
وهذه بالضبط كانت سياسة مبارك إذ كان لا يرى الشعب جديرا بأي شيء إلا بعصا الأمن المركزي وحذائه، ولهذا فشل تماما في التواصل مع الناس وكان ذلك سببا ليس فقط في خلعه ولكن في كراهية الناس الشديدة له وإصرارهم على محاكمته وإنزال أقصى العقوبة به لأنهم اختزنوا في داخلهم كل مظاهر التعالي والإهانة والنبذ التي وجهها نحوهم. ولما كانت مرحلة مبارك تتسم بكونها تعتمد على الدولة البوليسية رأينا انتشار الكردونات الأمنية، أما الآن فنحن في مرحلة حكم عسكري تعبر عنه الحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة وكأننا على الحدود مع عدو نخشى خطره.
وربما تشير تلك الحواجز إلى طريقة تفكير خرسانية متصلبة لا تستطيع مواكبة إيقاع الثورة التي كانت في معظمها شبابية، ولا تستطيع استيعاب هذا الفائض من الحيوية الشبابية المطالبة بالتغيير والبناء.
إذن فنحن الآن أمام فريقين متصارعين، أحدهما يتبع سياسة الحواجز الخرسانية الثابتة لضبط إيقاع الحركة والحياة بما يوافق إيقاعه، وفريق آخر يتميز بخفة الحركة وسرعتها ويتميز بمرونة المخ وقدرته على إجراء ملايين العمليات والاتصالات في وقت قصير جدا يمكنه من التجوال في الداخل والخارج ويطرح أمامه آلاف البدائل الإبداعية في التفكير والسلوك وهو لا يرى في تلك الحواجز إلا مساحات يكتب عليها شعاراته الشبابية ويمارس عليها إبداعاته الفنية لتحويلها إلى جداريات تضاف إلى رصيده الثوري. أما البلطجية والباعة الجائلين وأطفال الشوارع فيشكلون فريقا ثالثا ويجدون خلف تلك الحواجز فرصة رائعة لقضاء حاجاتهم.
واقرأ أيضاً:
كأنك ماغزيت!/ مازوخية المصريين: باي باي ثورة!/ الانشقاق العاطفي للإخوان/ حكاوي القهاوي