إن إحدى نتائج عهود الاستبداد التي عشناها على مر السنين هو انتشار ثقافة حل المشاكل بالقوانين، إن القوانين لا تحل مشاكل بل تؤطر حلول المشاكل بعد إيجاد هذه الحلول أولاً، مهما فرضت من قوانين فإن القدرة البشرية على التحايل عليها لا تنتهي. ولطالما تفاخرنا في مجالسنا الخاصة في عهد المخلوع أننا الشعب الذي لم يغلب أو يعجز عن كسر قانون أو تحايل عليه.
إن القوانين حين نشأت فكرتها منذ قديم العصور كان الهدف منها معالجة الشاذ المخالف لثقافة المجتمع، فإذا كانت ثقافة المجتمع هي كسر القانون والتحايل عليه فهل سنشرع قانون يمنع التحايل على القانون!! ربما نفاجأ بعبقري من عباقرة الياقات البيضاء التي أدمنت الظهور في الفضائيات يطرح الفكرة ويدعو لتطبيقها، ولكني متأكد أيضاً أننا لن نعجز عن التحايل على قانون منع التحايل!!
إن ما أحاول قوله هنا أن المشكلة لا تكمن في عدم وجود القوانين، فشخصياً أعتقد أننا نملك عدداً من القوانين يؤهلنا لدخول موسوعة جينيس القياسية بجدارة ومع ذلك نعيش حالة من الفوضى والفساد تؤهلنا أيضاً لنصنّف من الدول المتخلفة بلا جدال، إن المشكلة هي عدم وجود الرغبة الحقيقية لدينا لاحترام القوانين لأننا ببساطة في أحيان كثيرة لا نفهم الهدف منها ونراها مجرد تقييد على علينا وانتهازية من الحاكم أو أننا لا نملك ضمائر حية تدفعنا لاحترام القوانين إن فهمناها. إن مجتمعاً بلا قوانين سوى الأعراف السائدة فيه لكن غالبيته من أصحاب الضمائر يعيش ويسعد أفضل مرة من مجتمع به آلاف القوانين ولكن ضميره مغيب.
كثيرون منا يدركون هذه الحقيقة بشكل تلقائي حتى أنني أذكر قبل الثورة أن أحد الغاضبين من البسطاء قال لي يوماً "البلد دي علشان تتعدل لازم نرمي شعبها في البحر ونجيب شعب جديد!!" قالها من شدة يأسه أن ينعدل حال الناس في ذلك الوقت...
لقد استوقفتني عبارته هذه وقتها وجعلتني أتساءل كالمصعوق أتراه على حق وأن هذا يعني أن الفساد عمّ بيننا حتى ما عاد بيننا من نرحم بسببه كما يقول الله تعالى "..... وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (الأنفال:33) أو أننا نكاد أن يحق قول الله فينا "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً" (الإسراء:16)، ورغم هول الفكرة وجدت بريق أمل هنا وهناك والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول "لا يزال الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة"*
تأملت مرة أخرى تلك العبارة التي خرق بها هذا المسكين أذني وقلبي كما تخرق السهام، وقفزت إلى مخيلتي صورة بشعة أخرى وعدت أتساءل هل نحن بانتظار مخلص يعود بنا إلى الأدبيات الفاشية ويقيم محرقة لنا يحرقنا فيها كما فعل النازيون أو محاكم تفتيش جديدة كما فعل الأسبان، ففي هذه الأدبيات كانت الطريقة الوحيدة التي يرونها لتغيير الشعب هو تغيير أفراده بكيانهم المادي واتخاذ الإبادة الممنهجة حلاً كما تباد الماشية المصابة بالأوبئة، صعقتني الفكرة مرة أخرى وارتعدت فرائصي وأنا أتخيل هذه الصورة الجهنمية، ولكني ما لبث أن استعدت صوابي وهدوئي حين تذكرت أن أياً من هذه المحاولات الفاشية لم تنجح على مر التاريخ يوماً في تحقيق الهدف.
فعدت أتساءل من جديد كيف يتغير هذا الشعب، وأخيراً كدت أقفز وأرقص فرحاً فقد وجدتها، لم آتي بجديد لم يعرفه البشر من قبلي ولكني تذكرت أبسط ما نسيناه في غمرة غرورنا بأننا من أهل الثقافة, حتى غشي على أبصارنا ونسينا أبسط أبجديات الحياة وسنن الكون كما خلقها الله، لا حاجة بنا لأن تسيل الدماء أو ننتظر المعجزات، إننا نستطيع أن نلغي هذا الشعب من الوجود ونقيم شعباً جديداً بتغيير كياناتهم المعنوية، بتغيير أساليب تفكيرهم ودعوتهم لإصلاح قلوبهم ودواخلهم وتذكيرهم بمراقبة الخبير البصير كما فعل الأنبياء والمصلحون الناجحون على مر العصور.
ولكن الخطأ والجريمة أن نغير الأفراد من بشر يحملون أرواحاً وضمائر إلى أشباه آلات لا ترى إلا المادة، أو آلات لا تعمل ولا تنتج إلا ضمن كيانات مادية واقتصادية ألقت بالمكون الروحي وراء ظهرها كما فعلت حضارة الدولار فصعدت على أكتاف العالم ثم تفشى فيهم الفقر وانتشرت البطالة والفساد والانحلال "فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ" (الأنعام:44).
إن الشعب ما هو إلا محصلة جمع أفراده وسلوكه هو المجموع التراكمي لسلوك أفراده وأفعالهم, وكلما تغير فرد نحو الأحسن كلما تقدم المجتمع خطوة صغيرة نحو الأفضل حتى نمتلك في المجتمع تلك الكتلة الحرجة من أصحاب الضمائر الحية فيبدأ التفاعل المتسلسل ونرى نتائج هذا التغير تظهر وتزداد وضوحاً بمسار أُسّي أو لوغاريتمي يتضاعف بصورة تفوق التوقعات مع مرور الوقت.
إننا بحاجة ماسة لأن تتغير أفعال الأفراد نتيجة تغير دواخلهم وقلوبهم لا نتيجة لفرض القوانين عليها، فالقوانين والعقوبات لا تغير الغالبية, بل تمنع فساد القلة الشاذة من أن يستفحل، أما تغيير الثقافة العامة فلا وسيل له إلا دعوة الناس لإحياء ضمائرهم ونشر العلم والثقافة بينهم حتى يغيروا أنفسهم بأنفسهم, فالناس لا تتغير مهما فعلنا بفعل قوة خارجية إلا قليلاً أما التغيير الحقيقي فلا يحدث كما يقول ستيفن كوفي في العادات السبعة إلا من الداخل إلى الخارج والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...
فيا رب يا من قلوب العباد بين أصبعين من أصابعك تقلبها كيف تشاء, قلِّب قلوبنا وطهرها ولا تقلب أبداننا فتفنينا.
___________________________________________
* قرر المحدثون أن هذا الحديث لا أصل، ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني والسيوطي والسخاوي والعجلوني والفتني الهندي والألباني وغيرهم، قال السيوطي:[ حديث الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة. قال الحافظ ابن حجر: لا أعرفه.] الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة 1/10
واقرأ أيضاً:
نصيحتي للإخوان/ الفلول تحييكم!!/ كأنك ماغزيت!/ مازوخية المصريين: باي باي ثورة!/ الانشقاق العاطفي للإخوان