أنا أيضا أحب مصر جدا جدا،
كررت مرارا أنني لا أستطيع أن أعالج مرضاي إلا إذا تقمصتهم بدرجة ما حتى أفهمهم وأحترمهم، ولأنني أمارس هذه المهنة لأكثر من نصف قرن، أصبح هذا التقمص وسيلة لفهم الكثير مما يجرى حولي.
أمرّ هذه الأيام بخبرة جديدة هي محاولة تقمص المتنافسين على كرسي الرئاسة لعلي أعرف الدافع، ومن ثم أتلمس استيضاح بعض خيوط المستقبل.
كان الرئيس السابق قد أعفاني من لعبة التقمص هذه حين قرر أنه لن يترك الكرسي إلا إلى بارئه، وقبل أن أتساءل يا ترى! ثم ماذا؟ تفضل سيادته بأن تولى عني عناء التفكير في هذه المسألة أيضا، وذلك بأن أعدّ عدته لتوريث الكرسي، وكل ما عذَا هذا الاحتمال، بما في ذلك تصريحاته هو بالنفي، اعتبره من باب التسالي، وبرغم ذلك لم أتمكن من التوقف عن عادتي المزعجة، فتقمصت رغما عني الوريث الشاب، والعجيب أنني بدلا من أن أشجب دوافعه ودوافع أهله لهذا التوجه التوريثي وأطلق غضبي وحقدي على الجميع وجدت نفسي -تقمصا- أشفق عليه حتى كتبت مقالا طويلا عريضا بعنوان "من ينقذ الشاب جمال محمد حسني من ورطته" (الوفد 29/7/2009)، روح يا زمان تعالى يا زمان كان ما كان، فإذا بي أتبين أنه كان مشاركا فاعلا ينقصه الذكاء مثلهم، وليس مجرد متورط.
نرجع مرجوعنا للوضع الحالي، فقد لفتت نظري مؤخرا تحركات السيد أحمد شفيق، وأنا ما زلت أذكر دموعه وهو يسلم على زملائه وهو يغادر الوزارة، وقد تصورت ساعتها أن تلك الدموع هي تعبير عن تأثره جدا من نكران الجميل بعد تضحيته بقبول المنصب في هذا الوقت الحرج، المهم تابعت تحركاته الأخيرة، ورجحت حسن النية، وتصورت أنه اكتشف خطة خطيرة لإصلاح حال البلد لا يمكن أن ينفذها إلا هو، وبالتالي جاء على نفسه من جديد وغامر بإعلان عزمه على النزول للترشح للرئاسة وراح يجس النبض، هنا وهناك....الخ.
يا تُرَى هل لم يتعلم؟ رحت أقارن موقفه هذا بموقف الجنزوري وقبوله الوزارة، فأنا مازلت اعتبر أن الجنزوري قَبِلها فعلا للإسهام في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، قَبِلَهاَ وهو يعلم أنها مهمة مؤقتة سرعان ما سيتركها، وهو لا ينقصه لقب رئيس وزارة سابق فارتفع في نظري مواطنا صالحا لم يتخل عن واجبه ولم يبخل بخبرته، فهو لابد يحب مصر جدا جدا. لكن بالنسبة للسيد أحمد شفيق فالأمر يختلف، والأمور أصعب، والانتخابات أقل تزويرا، ومؤيدو الرئيس السابق سواء بطيبة أو بغباء أو بانتهازية ليس لهم تأثير بحيث يقدرون مخاطرته، فلماذا هو مصرٌّ هكذا؟ وقلت لنفسي: لابد أنه يحب مصر جدا جدا.
انتقلت من عجزي عن تقمص هذا المرشح الدمث إلى السيد عمرو موسى وأنا لم يصلني من دوره كوزير خارجيتنا أو كأمين لجامعة الدول العربية ما يفسر لي معاناته وجولاته الانتخابية في هذه السن، وتساءلت ماذا تبقى عنده بالضبط يعطيه لنا إذا ما تولى هذا المنصب وكف شعبان عبد الرحيم عن دعمه خشية الاتهام بالنفاق، وكفت إسرائيل عن إعلان عداوتها لشخصه من باب العمل على نزع بطولة استكباره عليها، أليس هو أولى في هذه السن أن يمضي ما تبقى له من عمر فيما يراه من حقه مواطنا صالحا أدى واجبه وأخذ حقه؟ ولم أجد تفسيرا إلا أنه لابد أنه: يحب مصر جدا جدا.
ثم انتقلت أتقمص صديقة إعلامية، وبيننا نسب ما، وأنا احترمها، وكنت أتابع وأشارك أحيانا في نشاطها الإعلامي، ولقد فهمت إقدامها على الترشيح لهذا المنصب على أنها ربما تفعل ذلك لكسر الحاجز الرجولي الذي يحيط بهذا الكرسي، ومع أنني على يقين من فشلها لصالحها بإذن الله، فقد تعجبت من تضحيتها وهي لم تخرج بعد من شهر العسل إلا منذ أسابيع، ورجحت أنها تملك من الخيال والخطط ما لا أعلمه، فلابد أنها ما فكرت في الترشيح إلا لأنها تحب مصر جدا جدا.
انتقلت بعد ذلك محاولات تقمصي إلى الدكتور البرادعي صاحب الفضل في فتح هذا الباب باكرا حين كان صاحبنا في عز صولجانه، فكان من السهل علي –نسبيا– تقمصه: فهو عالم جليل، ومواطن ذكي وتفكيره منظم، ومتمدن، ونوبلي، لكن وصلتني صحف صباح الأحد أثناء كتابتي هذه الفقرة، فعلمت باعتذاره، مع وعده باستمراره في الشارع مع الشباب والناس، فتأكدت من بعد نظره، ومن أنه يحب مصر جدا جدا.
ثم خذ عندك محاولة تقمص المرشحين الإسلاميين على اختلاف طيفهم من أقصاها إلى أقصاها، ولم يكن التقمص ممكنا حين جمعتهم جملة، فقد وجدت بعض المرشحين على طرفي نقيض من البعض الآخر من أبو الفتوح الحر الرائع إلى أبو إسماعيل القوي الحاسم، قلت لنفسي كلما كان الهدف أوضح كان التقمص أسهل ووجدت الهدف ماثلا ساطعا ويمكن إيجازه في "إعلاء كلمة الله" ورجحت أيضا أن هذا الفريق هو أكثر اتساقا مع نفسه مهما اختلفت التفاصيل، واطمأننت لبضع دقائق لا أكثر، ثم رعبت من أن يتصور أي منهم أنه –دون غيره هو المكلف– بإعلاء كلمة الله، كما يفهمها ويفسرها هو وفريقه حصريا، طبعا خفت على نفسي وأنا أحاور الله عز وجل أسبوعيا في موقعي استلهاما من مواقف مولانا النفري، فعجزت عن مواصلة التقمص من باب السلامة أولا، لكنني عدت وتشجعت وشعرت بثقل مسئولية المسلم الحقيقي إن أراد فعلا أن يعلي كلمة الله للمسلم وغير المسلم بدءًا ببلده وناسه وأهل دينه وقلت لابد أن أي واحد منهم يحب مصر جدا جدا انطلاقا لسائر البشر.
أنا لا أعرف ما يكفي بما يسمح لي بتقمص بقية المرشحين ولا أنا أعرف من هم وخاصة من الثوار، وأتصور أن بعضهم قد وصل إلى سن الترشيح وأنه سيفعلها برغم ما وصله من إحباط نتيجة قلة حظه في تجربة انتخابات مجلس الشعب، وحين تقمصت أي واحد منهم لم أشفق عليه، فمن عرض نفسه لرصاصة وهو في ميدان التحرير، لا مانع أن يعرض نفسه- ويعرضنا معه- لهذا الامتحان حتى لو يكن يملك لديه أي ضمان لاجتيازه بنجاح إلا أنه يحب مصر جدا جدا.
خلاصة القول: الأغلب أن كل هؤلاء الناس الطيبين يحبون مصر جدا جدا،
وأنا كذلك، لكنني والحمد لله لا أصلح للترشيح لهذا المنصب لأسباب نفسية!!
23-1-2012
واقرأ أيضاً:
شرق أوسط جديد بلحية إسلامية!!!/ للسلطة فتنة... لكن لصبرنا حدود/ المرحلة الخرسانية/ القانون ليس حلاً/ نصيحتي للإخوان/ الفلول تحييكم!!
التعليق: مع كل احترامي وتقديري للدكتور العظيم، لكن أليس هذا التواضع والتقمص متنافيا مع معاملتك لأهل مريض يلتمسون استشارتك؟؟؟
وبالذات عندما لا تعطيهم فرصة لتسمعهم وبالتالى كانت الزيارة لعيادة حضرتك فاشلة بجدارة لأنه حسب كلامك المتواضع أن العيال الدكاترة أنت الذى علمتهم وعندما أردت نقاشك في بحث قرأته على النت مزقت الورق ورميته..وقلت لأختي الطبيبة يا حماره أنت مش فاهمة حاجة!!!
ولو كنت أعطيتنا فرصة للكلام فقط لكان أفضل كثيرآ يا أستاذنا المتواضع.