قدم مبارك إلى هيئة المحكمة خطابا في الجلسة الأخيرة من المحاكمة نشرته الصحف يوم الخميس 23 فبراير 2012 م، والخطاب يمكن تقسيمه إلى ثلاث أجزاء رئيسية: الجزء الأول يرسم مبارك لنفسه صورة البطل القومي الذي ضحى من أجل بلاده، والجزء الثاني يتحدث فيه عما جرى إبان الثورة، أما الجزء الثالث فيستعطف فيه الناس، وفيما يلي نتناول ما ورد بمزيد من التحليل والتعليق.
هناك ملمح مهم يعكسه الخطاب من أوله إلى آخره وهو الانشقاق بين الصورة الذاتية لمبارك عن نفسه والواقع الحقيقي على الأرض، مما يجعله يبدو مغيبا تماما عما يحدث، ومغتربا إلى درجة الخطورة، وهو لكي يفعل ذلك يستخدم دفاعات نفسية مثل الإنكار والتبرير، ويضيف إليها آليات مثل التزييف والإيهام والخداع والمراوغة أملا منه في أن يجعل الصورة الذاتية تطغى في وعي المتلقي على الصورة الحقيقية، أو أنه لا يضع المتلقي في الاعتبار وإنما يخاطب نفسه بصورة نرجسية ليصل إلى حالة من التوازن، وهذا ما كان يفعله أيضا طوال فترة حكمه التي طالت واستطالت إلى درجة الملل.
بدأ مبارك خطابه بالحديث عن القضاء ومدحه، ولكن هذا الحديث لم يخل من نبرة تعالي حيث قال "هو قضاء شامخ وعريق لطالما عملت خلال تحملي للمسئولية على حماية استقلاله واحترام أحكامه وصون قدسيته"، فكأنه يرى نفسه حاميا لاستقلال القضاء بسلطته وإرادته ويمن على القضاة بذلك وكأنه فضل منه، ونسي أو تناسى انتفاضة القضاة التي هزت البلاد بحثا عن الاستقلال ورفضا لهيمنة نظامه ومحاولات تشويهه للقضاء وتوريطه في تزوير الانتخابات، ثم استشهد بآية قرآنية "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا....."(الحج:38) وهذا على غير عادته حيث لم يعلم عنه من قبل استشهادا بقرآن أو بحديث أو بقول مأثور أو ببيت من الشعر، فمعروف عنه نفوره من الرموز الدينية والرموز الثقافية، وقربه الشديد هو وأبنائه من أهل المال والأعمال.
ثم راح يدافع عن نفسه أمام نفسه (فهو لا يهتم بالشعب) ربما ليستعيد توازنه بعدما حدث من خلال استعراض لتاريخه العسكري والسياسي واستعراض انجازاته وبطولاته كما يراها. وفي هذا الجزء من الخطاب كان يبدو مبارك في أشد حالاته زهوا واغترابا عن الواقع حيث جاءت كلماته معبرة عن إدراك منفصل تماما عن الأحداث وكأنه لم تقم ثورة شعبية جارفة لخلعه، وكأن الملايين لم تخرج لاسترداد مصر التي خطفها على مدى ثلاثين عام، وكأنه يتحدث عن بلد مختلف تماما عن مصر، فمثلا يقول: "حرصت كل الحرص أن أرعى مصالح الوطن، وأن أحفظ للمواطن المصري كرامته وحقه في الحياة الكريمة" وكأنه لم يستمع لهتافات الملايين الغاضبة التي اتهمته بخيانة الأمانة وبيع مصالح الوطن ثمنا لاستمراره في الكرسي وتوريثه لابنه، وكأنه لم يسمع عن إهانة كرامة المصريين في الداخل على أيدي زبانيته وإهانتهم وضياع حقوقهم في الخارج بسبب ضعفه وتهاونه في حقوقهم.
وذكر أنه جنب البلاد الدخول في صراعات سياسية وعسكرية واعتبر ذلك فضلا منه وحكمة ووطنية، ونسي أن الوجه الحقيقي لهذه السياسة هو ولائه وخضوعه للإرادة الأمريكية والإسرائيلية وتفانيه في الحفاظ على أمن إسرائيل وتنفيذ أجندة أمريك، وأنه بذلك جمّد الدور المصري وقزّمه ونزع كل عناصر القوة من الصف العربي.
ويقول: "بذلت كل الجهد كي أفتح أبواب الرزق والعيش الكريم لملايين المصريين، وأن أفتح أمامهم أبواب الحرية"... ولم يسأل نفسه لم ثاروا إذن؟.. ولم يتذكر أنه خلع من الحكم بينما 44% من الشعب تحت خط الفقر وأن 30% من الشعب يعيش في عشوائيات تفتقر إلى الحد الأدنى من احتياجات البشر، وأن هناك 2 مليون طفل في الشوارع، و2 مليون مواطن يعيشون في المقابر.
ويواصل ادعاءاته: "ومضينا في توسيع مساحات الحريات العامة والانفتاح السياسي والإصلاح الديمقراطي على نحو ما كفلته الإصلاحات الدستورية والتشريعية"، وتناسى أنه عبث بالدستور عدة مرات ليفصله على مقاسه ومقاس ولده ومصالح حزبه وعصابته، وأنه اعتقل الآلاف من المصريين دون وجه حق وعذبهم حتى مات منهم الكثيرون تحت وطأة التعذيب.
وانتقل للحديث عن اهتمامه بالفقراء والضعفاء فقال: "كما أنني وقفت إلى جانب الضعفاء من أبناء الشعب بكل ما أوتيت من قدرة واستطاعة كي أوفر لهم الحماية الاجتماعية وأحفظ لهم كرامتهم ولقمة العيش الكريم"، إذن فلماذا كان شعار الثورة "عيش حرية كرامة إنسانية" إذا كانت هذه الأشياء حسب زعمه متوفرة فعلا، ولماذا ترك الشعب المصري الفقير الجائع فريسة لابنه ولأصدقائه من رجال الأعمال وذهب ليعيش بعيدا في منتجع شرم الشيخ.
ويبلغ اضطراب الإدراك لديه مبلغه حين يزعم "بأن السنوات العشر الأخيرة تحديدا، شهدت مصر نموا اقتصاديا مطردا بعدما تحقق من إصلاح اقتصادي في بنيتها الأساسية والتشريعية الجاذبة للاستثمار، صار لدينا استثمار تخلص من تشوهاته واختلالاته الهيكلية، يوفر الملايين من فرص العمل ويفتح أبواب الرزق والعيش الكريم لأبناء الوطن"... إذن من أين أتى كل هؤلاء الملايين من العاطلين ليثوروا على مبارك ونظامه الاقتصادي، وهو مازال يعيش في الماضي ويكرر أكاذيب رئيس وزرائه عن النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات التنمية التي لم يكن يشعر بها ويستفيد منها إلا رجاله المقربين، ويرى أنه "قد حظيت القرية المصرية والمواطن المصري البسيط باهتمام متزايد ودعم متزايد في صحته وتعليمه ورزقه وأمنه وأمن أسرته"، ومن هنا يبدو المصريون ناكرين للجميل إذ يثورون عليه وهم يعيشون في ظله أزهى عصور الأمن والرفاهية والازدهار.
ويصل إلى أحداث 25 يناير وهو لا يسميها ثورة وإنما مظاهرات يقول بشأنها: "كانت تعليماتي واضحة منذ اليوم الأول، أن تتولى الشرطة حماية المظاهرات السلمية كعادتها وبالطرق المعتادة، وقد مر يوم 25 يناير على نحو سلمي التزمت خلاله الشرطة بحماية المتظاهرين وتطبيق القانون"... وإذا كانت تعليمات الرئيس وقتها هكذا، إذن فلماذا تصرف وزير الداخلية على نحو مختلف وأخلى الميدان ليلا بقوة مفرطة وبوحشية شرسة من المتظاهرين السلميين ثم قتلهم وجرحهم بالآلاف في يوم 28 يناير وما تلاه؟
ثم تتضح الصورة لديه مقلوبة حين يقول: "أبلغني وزير الداخلية في نحو الساعة الثالثة بوقوع حالات تعد واعتداء على رجال الشرطة من جانب المندسين"... وبهذا يرى أن المتظاهرين لم يكونوا من جموع الشعب المصري الذين هبوا لإزاحته عن الحكم الذي اغتصبه بالتزوير والتزييف وإنما يرى أن من فعلوا هذا هم مجموعة من المندسين والممولين من جهات أجنبية، وأنهم هم الذين اعتدوا على الشرطة. وهو حين يدعي ذلك يحاول أن ينفي عن الثورة صفتها واسمها وكونها ثورة شعبية هبت ضد ظلمه وجبروته وتسلطه وفساده، لذلك يستريح حين يوصفها على أنها مؤامرة أجنبية ضد حكمه الوطني الشريف والنظيف.
وفي نهاية خطابه يحاول أن يبدوا ضحية لمؤامرة أجنبية وأن يستعطف الشعب ويستميله إلى جانبه كما فعل في خطابه الثاني إبان الثورة وقبل موقعة الجمل فنراه يقول: "لكنني وبرغم كل شيء، أثق كل الثقة في نزاهة قضاء مصر وعدله، وأثق كل الثقة في حكم التاريخ، وواثق كل الثقة في حكم الشعب المصري العظيم بعيدا عن افتراءات المغرضين ومثيري الفتن والمأجورين الذين يتلقون تمويلات من الخارج"... إذن فهو يرى الشعب المصري العظيم ممثلا في أبناء ومبارك وجماعة آسفين يا ريس ومتظاهري العباسية، بينما عشرات الملايين الذين هبوا لخلعه ومحاكمته هم مأجورين ومغرضين ومثيري فتن، فهل هناك اضطراب في الإدراك أكثر من هذا؟
وتأتي الخاتمة الدرامية في استشهاده بيبت من الشعر –على غير عادته- يقول:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة .. وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
وهنا تبلغ المأساة ذروتها إذ يبدو هذا البيت مناقضا للسياق، فمن الذي جار على من؟... ومن الذي ضن على من؟.. ومن الذي كان يحكم ويتحكم في من؟... ومن الذي ظلم من؟
ومجمل الخطاب يعكس روح مبارك الجافة الخشنة، ويعكس نرجسيته في اهتمامه بالدفاع عن ذاته وتحسين صورته أمام نفسه على حساب الحقيقة التي يعرفها الجميع، وهو يزدري الشعب حين يشك في ذاكرته وذكائه ووعيه إلى هذا الحد المخزي، وهو يعجز عن الاعتراف ولو بخطأ بسيط أخطأه في حق هذا الشعب، وبالتالي لا يملك شجاعة الاعتذار عما بدر منه من تجريف لأموال الشعب وأراضيه لحسابه وحساب ابنه وعصابته وتجريف للشخصية المصرية وإفساد للذمم، وتقزيم دور مصر ووضعها في ثلاجة بحجة المحافظة على الاستقرار والبعد عن المشكلات.
والخطاب في مجمله رسالة سياسية فشل فيها مبارك أن يخاطب الناس بل كان يخاطب نفسه وأبناءه والمنتفعين منه من فلول الحزب الوطني البائد والمنحل، وقد فشل مبارك –كما كان يفشل دائما– في تحسين صورته وإبراء ذمته، إذ كان تزييفه للأحداث وللحقائق مبالغا فيه بالضبط كما بالغ هو وابنه في تزييف نتائج انتخابات مجلس الشعب 2010 م وكما زيف إرادة الشعب ووعيه على مدى ثلاثين سنة ذاق فيها شعبه ألوان من القهر والعذاب والفقر والمرض والحرمان وتدهور تعليمه وانهارت صحته وفسدت الذمم فيه بسبب هذا الرأس الفاسد الذي احترف الإنكار والتزييف والخداع فأهان نفسه وأهان أسرته وضيع تاريخه وأهان شعبه وقزم وطنه ورهن إرادته لألد أعدائه، وكان يستحق محاكمة ثورية تحاكمه على فساده السياسي وليس فقط محكمة جنائية تحاسبه على بعض جرائمه المالية أو الجنائية في فترة الثورة وهي عدة أيام لا تقارن بثلاثين عاما من الفساد والإفساد وخيانة الأمانة الوطنية.
واقرأ أيضاً:
المرحلة الخرسانية/ القانون ليس حلاً/ دليل الحاكم المسلم: لحكم شعب مؤمن/ ..... لابد أنهم يحبون مصر جدا