مؤهلة لتكون واحدة من أشد المواجهات ضراوة، تلك التي يحلو للبعض بأن يسميها "معركة الدستور" في مصر، بين الأغلبية المنتخبة في البرلمان من الإسلاميين، وبين مجموعات غير منسجمة من الأفراد والقوى والأحزاب لا يجمعهم سوى الهم المشترك دائمًا في القديم والحديث: كراهية الإسلاميين وكل ما يأتون به بغض النظر عن مضمونه.
فلم تكد تنعقد جلسة البرلمان التي كانت مخصصة لانتخاب (اللجنة التأسيسية للدستور) حتى انطلق الصراخ من حولهم في كل اتجاه، داخل البرلمان وخارجه، بأن الإسلاميين يريدون السيطرة على اللجنة ويقصون غيرهم.. يريدون الشريعة لا المدنية ولا الديمقراطية.
وقد توزعت أدوار الصارخين في المشهد، بين المشوشين على الجلسة داخل القاعة من أصحاب الشو الإعلامي، وبين من يهتفون بعلمانية الدولة خارجها، وآخرين يشحذون الهمم عبر (تويتر) و(فيس بوك) لإخراج المليونيات استعدادا للثورة الثانية.
ثم أدارت فضائيات رجال الأعمال الممولة آلتها، فأرسلت على عجل تستدعي الوجوه المكررة في كل المشاهد السابقة، ليشاركوها العرس، ولينفث العالمون ببواطن الأمور سمومهم، أقصد تحليلاتهم... كما لم يغب عن البعض تحريض العسكر لحل البرلمان، ولا استعداء الخارج في الشرق والغرب، ولا معاودة الاتصال بأذرعهم الخفية من البلطجية والمفسدين للاستعداد.. في مشهد عجيب، وإن كنا ألفناه بل سئمناه ومللنا شخوصه.
لكن وبهدوء.. ألم تخرج أغلب دساتير العالم من برلماناتها المنتخبة. فحسب دراسة لجامعة Princeton الأمريكية (أورد بعض نتائجها د.معتز عبد الفتاح في مقال نشرته "الشروق")، أن من بين 200 حالة لكتابة الدساتير في العالم، في الفترة من 1975 وحتى 2003، قام البرلمان بكتابة 42 % منها، أو عبر هيئة تأسيسية معينة من قبل البرلمان (بنسبة 9 بالمائة من الحالات).
ألم يكن ثمة نص في التعديلات الدستورية التي قال لها المصريون "نعم" بنسبة (77 %) يقول: "تتولى جمعية تأسيسية من مائة عضو ينتخبهم أغلبية أعضاء المجلسين غير المعينين في اجتماع مشترك إعداد مشروع الدستور"، وهو الذي يتم الآن وتعترضون عليه.
ألم يكن حصول هؤلاء الأعضاء على عضوية البرلمان ـ أصلا ـ جاء نتيجة لانتخابات شهد الجميع ـ في الداخل والخارج ـ بنزاهتها. وهي الانتخابات التي خرج ملايين المصريين للتصويت فيها، وكانت أصدق تعبير عن إرادة هذا الشعب عبر تاريخه.
وهذا طبعا ليس له علاقة برؤية البعض في أن هذه الملايين ليست من المصريين، أو حتى بما يتحدثون بشأنه من أن الديمقراطية لا تختصر في صناديق الاقتراع. وهو حديث لم نكن لنسمعه لولا الفشل الذي صاحبهم على طول المسيرة الانتخابية، حتى تأكد لهم أنهم لا تمثلون إلا أنفسهم، وليس أمامهم إلا الصراخ عند أي خطوة يخطوها الشعب.
ألم تكن صناديق الاقتراع ـ التي لم تعد ترضيكم ـ هي الآلية التي أتفق عليها هذا الشعب للحكم بين فرقائه، فصارت أشبه بعقد اجتماعي متفق عليه، وهي الآلية الوحيدة المتعارف عليها الآن في جميع دول العالم، أخبرونا أيه الرافضون لاختيارات المصريين، كيف يكون الحكم بينكم وبينهم إذا لم تكن صناديق الاقتراع.
أليس مستقرا في علمكم أن تصويتا شعبيا سينتهي إليه أي دستور يتم إعداده، سواء من داخل البرلمان أو من خارجه، فيعرض على جموع المصريين، فيقبلوه أو يرفضوه، وأيضا عبر صناديق الاقتراع.
معارضة الأقلية للأغلبية من الأمور المتعارف عليها في مجتمعات العالم الحديث، إلا أن الطرق التي ينتهجها المعارضون في بلادنا، وحدة الخطاب، ولهجته تختلف كثيرا، حتى ليبدو الأمر أشبه بانقلاب. بل هي بالفعل رغبة دفينة في الانقلاب لو أتيحت لهم وسائله، مهما كلف البلاد والعباد، فيا أصحاب الصوت العالي، ويا مشعلو الحرائق من وقت لآخر.... من تمثلون؟
واقرأ أيضاً:
ظاهرة "ولاد ابواسماعيل" / أبعاد الاختيار السلفي لـ(أبو الفتوح) وتبعات القرار / مسار الثورة: رقعة الشطرنج