عرفته شابا، يقظا، متألقا، مثقفا، ومتحركا بصفة دائمة، ويعمل بجد واجتهاد وبقناعة كبيرة بفكرة المشروع الإسلامي الحضاري، وقد انتمى في بواكير حياته إلى جماعة الإخوان المسلمين وكان لديه قناعة أنها التيار الإسلامي الأقرب لتحقيق هذا المشروع حيث تتبنى فكرا وسطيا ورؤية عصرية ولها كوادر وقدرات تنظيمية محلية وعالمية ولها تواجد وتأثير (بعضه ظاهر وبعضه خفي) في كثير من الدول والجمعيات والمؤسسات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية والمجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية المتعلقة بها.
وعلى الرغم من كراهيته للعمل السري إلا أنه ارتضاه كضرورة مرحلية، وعلى الرغم من كراهيته للطاعة المطلقة للقيادة، أي قيادة، إلا أنه وجد في ذلك قوة للجماعة تساعدها على الحشد والتنظيم فعطل عقله النقدي لحساب المصالح العليا. وقضى هذا الشاب ثمانية عشر يوما بالتمام والكمال في ميدان التحرير وكان على اتصال دائم بي، وكثيرا ما كان يعبر عن أمنيته بالشهادة في الثورة حيث كان يحتسب مشاركته فيها لوجه الله، وشارك في صد العدوان عن الميدان يوم موقعة الجمل وشهد موت الكثيرين من الشباب (من كل التيارات) في هذا اليوم، وكان فخورا بدور الإخوان في الثورة، وتولد لديه شعور بالفخر أن الصف الذي انتمى إليه وضحى كثيرا من أجله يشارك في التغيير.
رأيته مرات بعد التنحي، وقد تغيرت تعبيرات وجهه وفتر حماسه وظهرت عليه علامات الإحباط والصراع الداخلي، لم يكن راضيا عن هرولة الإخوان إلى المجلس العسكري، وكان راغبا في استمرارهم في التيار الثوري متحالفين مع بقية القوى الثورية حتى تؤتي الثورة ثمارها، وكان يردد دائما "أن الإخوان ارتكبوا نفس الخطأ الذي وقع فيه الرماة في غزوة أحد حين تسرعوا جمع الغنائم قبل انتهاء المعركة فتعرض الجيش لالتفاف وتسبب هذا الأمر في خسارة هائلة في المعركة نتج عنها سقوط 70 شهيدا من خيرة الصحابة".
لم يلتزم بقرار الإخوان بعدم النزول في المليونيات التالية للتنحي (وكانت أول مرة يخالف فيها قرارات القيادة)، ونزل بقرار شخصي منه، ونزل أيضا في أيام أحداث محمد محمود، وأحداث ماسبيرو ومجلس الوزراء. كنت حين ألقاه نفضفض سويا في أشياء كثيرة، وكان يصارحني بألم يعتصره وهو يرى الصورة الذهنية للإخوان تتدهور في الوعي العام يوما بعد يوم، وكيف أن الناس وثقوا فيهم وأعطوهم أغلبية أصواتهم، ولكنهم أحبطوا منهم إحباطا شديدا بعد ذلك، وكيف تغلبت المصالح على المبادئ في كل قرارات الإخوان إبان الثورة وبعدها، وكيف أثرت الخلافات والنزعات الشخصية على قرارات مهمة وألبستها ثوب المصلحة العامة ومصلحة الجماعة ومصلحة الإسلام لكي يتم تسويقها وإقناع كوادر الإخوان بها وحشدهم وراءها.
وازدادت حدة الأزمة لديه حين عايش موضوع تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور وما شابها من محاولات الاستحواذ عليها من قبل الإخوان ثم طعنة عدم قانونية اللجنة المشكلة والتي أظهرت عوار تأسيسها وعوار تفكير من أسسوها، لم يكن راضيا عن هذا النهج المتعجل والطامع في الوصول إلى السلطة، وكان يرى أن جماعة الإخوان كيان دعوي تربوي إسلامي حضاري كبير ولا يليق بهذا الكيان أن يتعجل الوصول إلى منصب أو كرسي مهما علا، فدوره مؤكد ومضمون من خلال عمليات الإصلاح والتربية والدعوة إلى الإسلام الوسطي، وكان يؤلمه ما يسمعه وما يقرأه من كلمات جارحة تمس جماعة الإخوان وتشوه صورتها في أعين الرأي العام، وما كان يؤلمه أكثر هو أن الإخوان أعطوا الفرصة والمادة لأعدائهم ومناوئيهم لكي يطعنوهم ويبرزوا أخطاءهم ويشوهوا صورتهم.
هو يعرف أن للإخوان وجه حضاري ودعوي وتربوي وتنظيمي جميل ومؤثر وقوي، ولكنه يرى أن القيادة الحالية للإخوان بتصرفاتها وقراراتها تظهر وجها سيئا للإخوان كجماعة براجماتية استحواذية لا تفي بوعودها ولا تهتم إلا بمصالحها وإنجازاتها، وقد غطى الجانب السياسي -الذي يراه قبيحا- على بقية جوانب الجماعة التي لا يراها ولا يعرفها إلا من عاش بداخلها ورأى حالة التكافل والترابط والإخلاص والتفاني بين المنتمين إليها. هو يذكر تلك اللحظات الروحانية التي كان يعيشها وهو في اجتماع الأسرة الأسبوعي، وفي ليالي الكتائب وفي الرحلات والمعسكرات، لقد تربى فكريا ووجدانيا وروحيا في كنف هذه الجماعة وشعر بانتماء دافئ ومطمئن داخل هذا الكيان الكبير، وعرف كيف يتضافر الدين مع الحياة، وكيف تكون الأخوة والتراحم بين الناس، والتقى عمالقة في الدعوة والفكر من أعضاء الجماعة وكان مبهورا بعلمهم وفكرهم وأدبهم، لقد شعر يوما أن الجماعة هي مصنع الرجال القادرون على تغيير وجه الحياة في مصر والعالم العربي والعالم الإسلامي، بل والعالم كله من خلال المشروع الحضاري والنهضوي الإسلامي.
وعلى الرغم مما تعرض له من تهديد وحرمان من وظائف وملاحقة من أمن الدولة واعتقال لعدة مرات وترويع لأسرته، إلا أنه كان يحتسب ذلك كله عند الله ويشعر أن هذا ثمنا بسيطا لكل ما ناله من خير في كنف هذه الجماعة التي رأى فيها القوة الصلبة لوقوف أمام أعداء الإسلام، والنواة القوية لمشروع النهضة الإسلامية بأبجديات عصرية.
وكانت القاصمة حين رأى أستاذه وحبيبه عبد المنعم أبو الفتوح يتم الزج به خارج الجماعة وتقوم الحرب عليه كمارق منها وخارج عن صفها، فهذا الشاب يعرف أبو الفتوح معرفة جيدة بل هو كان أحد أسباب انضمامه لجماعة الإخوان وكان معجبا جدا بشخصيته المنفتحة على تيارات المجتمع المختلفة وتعاطيه مع المتغيرات الكثيرة في المجتمع المصري. وازدادت أزمته وصراعه حين رشحت الجماعة الدكتور محمد مرسي للرئاسة مخالفة وعدها ومحدثة انشقاقا في صفوف ونفوس شباب الإخوان الذين يرون في أبو الفتوح الشخص الأكثر ملائمة لمنصب الرئيس بما يملكه من مقومات شخصية وقيادية. وهو يخشى كارثة تفتيت أصوات التيار الإسلامي لحساب نجاح مرشح من الفلول وساعتها سيتحمل الإخوان وزر وعاقبة أخطائهم أمام شبابهم وأمام المجتمع المصري كله ويكونون سببا مباشرا في إجهاض الثورة.
والأزمة التي يعيشها هذا الشاب وغيره كثيرون هي كيف يتعايش مع هذا الصراع بداخله، طاعته لقيادة الجماعة في توجهاتها السياسية التي يرى الكثير منها خاطئا وغير موفق، وقناعاته هو وكثير من زملائه الذين يرون أن المبادئ فوق المصالح وأن الجانب الدعوي والتربوي والحضاري يجب أن يعلو على الجانب السياسي البراجماتي والانتهازي. هو لا يريد أن يترك الجماعة التي ناضل في صفوفها وتربى على أيدي علمائها، ولا يحتمل الاستمرار في دعم قرارات خاطئة تجعل صورته وصورة الجماعة بهذا الشكل السلبي الذي يخجل منه أمام زملائه ومعارفه وأصدقائه من شباب الثورة الذين عاش معهم معركة خلع رأس النظام السابق في أيام الثورة المجيدة. وهو يحلم أن تفيق القيادة قبل فوات الأوان فتسحب مرشحها للرئاسة وتعتذر عن أخطائها في محاولات الاستئثار والاستحواذ، وتعود بتواضع لتتلاحم مرة أخرى مع الصف الوطني الذي منحها الثقة لتاريخها النضالي واعتقاده أنها ترعى القيم الإسلامية والإنسانية الأصيلة.
لم يكن هذا الشاب حالة فردية فقد ذكرته كنموذج لشباب كثيرون أعرفهم يعيشون نفس الأزمة، بعضهم يصرح بها لمن يثق به وبعضهم يطويها بمرارة داخل نفسه، وقد حملني بعضهم أمانة نقل ما يشعرون به إلى قيادات الجماعة عسى أن تنتبه وتعتذر وتصحح أخطائها وتعلي المبادئ على المصالح. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
واقرأ أيضاً:
نداء جبهة علماء الأزهر/ لقد وقع الإخوان في الفخ/ معركة الدستور بين الإسلاميين وخصومهم/ قراءة في شخصية أبو الفتوح