أكتب هذا المقال بينما أتابع المؤشرات الأولية لنتائج انتخابات الرئاسة، وإذا كان من المبكر التنبؤ بالنتيجة النهائية إلا أن ثمة ملمح خطير يلوح من بين تلك المؤشرات ويستحق التحليل والتعليق ألا وهو حصول الفريق أحمد شقيق على نسبة عالية من الأصوات. والغريب في ذلك أن هذه أول انتخابات رئاسية تجري بعد ثورة شعبية عظيمة أطاحت بنظام طاغ جثم على قلوب المصريين ثلاثون سنة وأهدر قيمة مصر وأفقر وأمرض وأذل وعذب أهلها. وفي قمة الصعود الثوري جاء أحمد شقيق رئيسا للوزراء باختيار مبارك، وغالبا كان الهدف من الإتيان به امتصاص غضب الشعب الثائر وتبريد الثورة تمهيدا للقضاء عليها، حيث في وجوده حدثت أخطر هجمة على الثورة فيما عرف إعلاميا بموقعة الجمل، ولو كانت هذه الخطة نجحت لأجهضت الثورة تماما، ولكن الله سلم والشهداء قدموا أرواحهم ليحموا الميدان من البلطجية المدعومين حكوميا من مبارك وشفيق.
واتضح للناس بما لا يدع مجالا للشك أن شفيق لا يعترف بالثورة، بل هو يسخر منها ويقف ضدها ويحمي ظهر مبارك، ولم يكن هذا غريبا عليه فهو تلميذه وخليله وأثيره، وهو من قلب النظام السابق الذي قامت الثورة لإزاحته، لهذا خرجت الملايين إلى الميادين والشوارع تطالب بإسقاط شفيق بعدما اتضحت مؤامرته على الثورة. وكان من المفترض أن يقدم شفيق للمحاكمة على جرائم ومخالفات كثيرة قدمت ملفاتها للجهات المختصة ولكن لأسباب لا نعلمها لم يحدث ذلك، وكان يجب أن يحاكم جنائيا وسياسيا عن مذبحة موقعة الجمل (على الأقل) فهو المسئول الأول عن حدوثها ولكن هذا لم يحدث، وكان من المفروض طبقا لأعراف وقواعد الثورات أن يعزل سياسيا على الأقل لمدة عشر سنوات ولكن ذلك لم يحدث، وبلغ التبجح ذروته في ترشحه لرئاسة الجمهورية بعد الثورة في مشهد عبثي.
وقد تهيأ المسرح لحصول شفيق على نسبة عالية من الأصوات من خلال حالة من الانفلات الأمني المقصود (أو المسكوت عنه) مع التدهور الاقتصادي في المرحلة الانتقالية، مما أدى إلى شيوع حالة من الخوف والقلق وانعدام اليقين في المستقبل إضافة إلى تكفير الناس بالثورة والثوار. وفي هذه الأجواء التي يتلمس فيها الخائفون من الشعب (وهم كثر) يتم تسويق شفيق وعمرو موسى على أنهما رجال دولة لهم خبرات سابقة في الإدارة والسياسة وأنهما –وحدهما– قادرين على إعادة الأمن والاستقرار للبلاد. ووقع عدد كبير من الناس (بسطاءهم ومثقفيهم) في هذا الفخ، ونسوا الثورة وأهدافها تحت تأثير الخوف والقلق وانعدام اليقين وربما أيضا نتيجة لإحباطهم من التيار الإسلامي الذي لم يكن عند توقعاتهم ولم ينجح في إعطاء النموذج الأخلاقي المنتظر منه طوال الشهور السابقة، وتفرقت أصوات مؤيدي الثورة بين عدد كبير من المرشحين.
وهكذا اتجهت أصوات كثيرة إلى شفيق ولو حدث ونجح في الانتخابات فستدور البلاد في حلقة مفرغة، إذ ستصبح الثورة مجرد انتفاضة شعبية مؤقتة وسيستتب الأمر للنظام القديم أكثر وأكثر وتعود الوجوه الكريهة مرة أخرى، وربما ينكل بالثوار ومؤيديهم بطرق مباشرة أو غير مباشرة، وستجهض نبضة النمو وقفزة التغيير التي بدأت في 25 يناير. ربما لا يحدث ذلك بأبجديات حسني مبارك البدائية الفجة ولكن بشكل أكثر دهاءً وحنكة وخبثا وتخفيا، وسيشعر حينها شباب الثورة وكل من أيدوها ودفعوا من دمائهم وأعصابهم وأرواح شهدائهم أن كل هذا قد راح هباءً وربما لا تستقر الأمور لأحمد شفيق رئيسا، ولو استقرت فسيكون بوسائل قهرية قسرية وبتكلفة أمنية وسياسية باهظة الثمن على الجميع.
وربما يقول قائل: وما الخطأ في أن ينجح أحمد شفيق؟... أليست هذه هي الديموقراطية؟.. أليست أصوات المصريين هي التي أتت به إلى كرسي الرئاسة؟... ألا يعتبر الاعتراض على النتيجة نوع من دكتاتورية الأقلية؟.
والحقيقة أن كل هذا صحيح في الظروف العادية للشعوب، أما في الثورات الكبرى فإن قوانين وأعراف الثورة تستلزم إزاحة رموز النظام القديم خاصة المقربين والمؤثرين والمحوريين منهم، ولا تكتفي بالإزاحة بل تقوم بالمحاكمة، وفي أغلب الثورات لم تكن القوانين العادية هي التي تستخدم في محاكمتهم لسبب بسيط هو أنهم هم الذين وضعوا هذه القوانين لتخدمهم وتحميهم وأن هذه القوانين لا تستطيع الإحاطة بالجرائم السياسية الكبرى ولا تواكب الفعل الثوري التغيري الجذري. وربما هذا هو أحد أهم أخطاء الثورة المصرية أنها لم تحاكم أعداءها على جرائمهم السياسية البشعة، ليس هذا فقط بل حتى عجزت عن عزلهم سياسيا بقوانين فعّالة فتركتهم يعبثون في وعي الناس ويحركون خلاياهم النائمة ويلعبون على أوتار الخوف والقلق المصنوع في نفوس الناس ويسخرون الإعلام الموالي لهم حقيقة ويستغلون بؤس الناس وفقرهم الذي تسببوا فيه ليشتروا أصواتهم بالمال.
وتكون نتيجة هذا كله أن تصبح أصوات الناخبين في هذا الجو نوعا من الثورة المضادة، ونوعا من النكوص والخوف من التغيير والحنين إلى الماضي الذي ألفوه، ويصبح الشعب عدو ثورته وعدو شبابه الثائر وعدو تطوره وعدو حريته وعدو كرامته، وكأنه يقوم بنوع من إيذاء الذات أو الانتحار بحثا عن الأمان والاستقرار المزعوم، وهي نفس الفكرة التي عاش بها مبارك على صدورنا ثلاثين عاما بائسة، ولا عزاء للخائفين واليائسين والباحثين عن لقمة العيش تحت ظلال الذل.
واقرأ أيضاً:
مسار الثورة: رقعة الشطرنج / نداء جبهة علماء الأزهر / التصويت بالخوف / أزمة شباب الإخوان / تحليل نفسي للمناظرة الرئاسية الأولى / حكاوي القهاوي