بعد أن أصبحت الصورة أكثر وضوحا وانحسرت المنافسة في الجولة الثانية بين محمد مرسي وأحمد شفيق، انتابت جموع المصريين مشاعر متناقضة، فأنصار الطرفين سعداء بالطبع لوصول مرشحهم إلى هذه المرحلة وسيسعون لجذب مزيد من الأنصار في الأيام القادمة، ولكن الذي سيحسم الأمر هو الكتلة التصويتية الوسطى التي لم تصوت لهذا أو ذاك، وهي كتلة كبيرة واقعة الآن في صراع مؤلم إذ لم تكن راضية عن مرسي أو شفيق فكل منهما لا يحقق طموحاتها أو أحلامها أو لا يتوافق مع أيديولوجياتها وتوجهاتها، وبالتالي فهي الآن أمام خيارين أحلاهما مر.
فهم يرفضون شفيق بناءا على انتمائه العميق والمؤكد للنظام السابق الذي قامت الثورة لإسقاطه، ويعلمون أن نجاح شفيق هو نكوص للخلف وإعادة إنتاج النظام القديم بكل مساوئه ولكن بصورة قد تبدو أكثر دهاءا، وتتيح الفرصة لاستمرار الحكم العسكري الذي عانت مصر منه أكثر من ستين عاما. وهم يرفضون مرسي لانتمائه الإخواني الذي يعارضونه خاصة بعد الأخطاء التي ارتكبها الإخوان في الشهور الماضية وبعد الحملة الإعلامية الشرسة ضدهم والتي جعلت الصورة الذهنية سلبية لدى قطاعات كبيرة من المعارضين لهم وحتى المحايدين.
إذن فهذه الكتلة الوسطى المكونة من الليبراليين واليساريين والناصريين وحتى الإسلاميين الذين لا ينتمون للإخوان يجدون أنفسهم في صراع تصويتي يسمى في علم النفس صراع "التفادي مقابل التفادي" (Avoidance versus avoidance) بمعنى أنك تقف بين خيارين لا تحب أيا منهما ولكن عليك أن تختار من بينهما. وفي هذه الكتلة الوسطى فريق متطرف يقرر أن يصوت تصويتا انتقاميا مليئا بالتشفي والرغبة في المكايدة للمرشح الإخواني غضبا وحنقا حتى ولو كان ذلك لصالح شفيق الذي هو ضد الثورة بكل أفعاله وبكل علاقاته وصلاته وتحالفاته.
أما الفريق المتعقل من هذه الكتلة الوسطى فيرى أنه على الرغم من أخطاء الإخوان ومحاولاتهم في الاستحواذ واستخدامهم أساليب براجماتية في السياسة لا تليق بجماعة دعوية إلا أنهم في النهاية شاركوا في الثورة بثقل كبير وشكلوا في وقت من الأوقات كتلة صلبة في ميدان التحرير وفي ميادين وشوارع مصر وكانوا حائط سد في موقعة الجمل، وهذا يشهد به كل المنصفين (الذين يشهدون أيضا بأخطاء الإخوان)، وقد عاشوا في معارضة النظم الاستبدادية عقودا كثيرة ودفعوا من دمائهم وأرواحهم وحرياتهم الكثير في سبيل ذلك، وشكلوا في أغلب الأوقات المعارضة المنظمة ذات الثقل المهدد لتلك الأنظمة الاستبدادية وخاصة نظام حسني مبارك.
إذن فالمقارنة بين الإخوان بتاريخهم المليء بالحسنات والأخطاء لا تتوازى ولا تتوازن أبدا مع تاريخ أحمد شفيق وموقفه من النظام السابق ومن الثورة. كما أن الإخوان لهم قواعد شعبية كبيرة في أنحاء مصر ولهم اتصال كبير بالناس ولهم مشروعات خدمية وإغاثية وخيرية تخدم قطاعات كبيرة في المجتمع المصري وحتى خارجه ولهم مشروع حضاري نهضوي بمرجعية إسلامية قد نتفق أو نختلف معه لكن نعطيه حقه من الاعتبار، ولديهم كوادر كثيرة في كل المجالات ومنهم نماذج مشرفة على المستوى الوطني والعربي والإسلامي. في النهاية الإخوان هم فصيل وطني مهم كما وكيفا ونواة صلبة في المجتمع ترتكز على قواعد شعبية ولهم حضور اجتماعي وثقافي وسياسي لا ينكر، وبجانب هذا عليهم ملاحظات كثيرة ولهم أخطاء فادحة في بعض الأوقات، وهم ليسوا ملائكة وليسوا قديسين.
هذا يجعلنا نصل إلى نتيجة وهي أن المقارنة بين الإخوان وبين شفيق مقارنة خاطئة فشفيق لا يمثل نظرية في الحكم ولا يمثل مدرسة في الإدارة ولا يمثل رؤية لنهضة أو إصلاح، وإنما هو شخص يرتكز في تحقيق نجاحه في الانتخابات على القواعد التنظيمية الرسمية وغير الرسمية للحزب الوطني الفاسد والذي انحل بقرار محكمة القضاء الإداري بناءا على فساده.
ومن المهم أن نعلم بأن الذين صوتوا في انتخابات الرئاسة تقريبا 25 مليون منهم 5 مليون لشفيق (كرمز للنظام السابق وقائد للفلول) و20 مليون للمرشحين الآخرين الذين ينتمون للثورة من اتجاهات مختلفة، إذن ما زال التصويت للثورة هو الأقوى ولكنه توزع في الجولة الأولى على أكثر من مرشح ونتمنى أن يتجمع مرة أخرى في صندوق المرشح المتبقي لنعلن للناس أن الثورة مستمرة. وأتمنى أن يتحلى قيادات الإخوان بالشجاعة في هذه المرحلة ويعتذروا للناس بالأقوال والأفعال عن أخطائهم ويبدءوا صفحة جديدة مع الجميع خالية من منطق التعالي والزهو بالأغلبية وأوهام السيطرة والاستحواذ.
من هنا يبدو القرار العاقل والمتجاوز للخلافات السياسية أن الأمر يتطلب الآن اصطفافا وطنيا خلف محمد مرسي (على الرغم من معارضتي له وللإخوان في الترشح لمنصب الرئاسة أساسا)، على الأقل لاستبعاد خطر سيطرة النظام السابق مرة أخرى بكل مساوئه، ثم نأتي بعد ذلك إلى محاسبة الإخوان على أخطائهم وتصويب قراراتهم من خلال معارضة سياسية قوية ورشيدة من كافة التيارات السياسية المختلفة مع الإخوان، وبهذا ننقذ الثورة من الضياع وننقذ مصر من أن يبتلعها الحزب الوطني وأعوانه ورموزه مرة أخرى، وننقذ الإخوان كفصيل سياسي وكحركة دعوية تربوية من الأخطاء التي وقعوا فيها سواء بقصد أو بغير قصد.
واقرأ أيضاً:
نداء جبهة علماء الأزهر / التصويت بالخوف / أزمة شباب الإخوان / الثورة المضادة في الشعب نفسه / خيار العودة إلى "الميدان" وثورة المصريين الثانية