الحدث الثقافي والسياسي الكبير الذي شهدته مدينة القدس العربية المحتلة مساء السبت 26-5-2012، والذي بموجبه دخلت عروس المدائن موسوعة (غينيتس) للأرقام القياسية، من خلال أطول مائدة طعام طبيعي خالية من الكيماويات واللحوم، ليس حدثاً عادياً، أو عابراً في مدينة عريقة أدمى قلبها طول سنوات احتلال بغيض استهدف البشر والشجر والحجر، فهذا الفعل الثقافي تزامن بعفوية مع احتفالات المحتلين بما يُسمونه "يوم القدس" حسب التقويم العبري، فأغلقوا منافذ المدينة المقدسة وقاموا بمسيرات و"بلطجة" و"زعرنات" في شوارعها وأسواقها تحت حراسة عسكرية مشددة، بل وصل جنون القوة عند بعضهم إلى اقتحام ساحات المسجد الأقصى وتدنيسه، وجاء الردّ المقدسي الفلسطيني ثقافياً وحضارياً، من خلال أطول مائدة طعام طبيعي تدخل موسوعة (غينيتس) العالمية...
جاء الردّ بحضور آلاف المقدسيين الذين اكتظت بهم شوارع المدينة، ليتجمعوا في ملعب المطران في تظاهرة ثقافية إبداعية لافتة، يهتفون بصوت واحد "هنا القدس" هنا القدس الفلسطينية العربية الشامخة، هكذا أنشد الفنان أحمد أبو سلعوم، فردت عليه الجموع المقدسية، شاء من شاء وأبى من أبى ومن أبى فليشرب من مياه البحر الميت كما قال رمز فلسطين وقائدها الراحل ياسر عرفات، ولأهمية الحدث ولمن لم يقرأ الرسالة جيداً، كان الحضور الرسمي الفلسطيني ممثلاً باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، مكتب السيد الرئيس، رئيس الوزراء، وزراء، محافظة مدينة القدس، قادة فصائل وأحزاب، رجال دين مسلمين ومسيحيين، ممثلين للمؤسسات الوطنية والشعبية، وآلاف المقدسيين، اجتمعوا على رؤوس الأشهاد ليهتفوا للقدس، عاصمة الشعب الفلسطيني السياسية والدينية والتاريخية والحضارية، وليشهد العالم من خلال موسوعة (غينيتس) أن القدس فلسطينية عربية...
وإذا كان الآخر لا يملك غير القوة العسكرية الغاشمة لإثبات وجوده غير الشرعي، وغير القانوني لجوهرة المدائن، وعاصمة العواصم، فإن الردّ المقدسي الفلسطيني جاء رداً ثقافياً حضارياً مدعوماً بحقائق لا تكذب، فالأكلات الشعبية الفلسطينية مثل (ورق الدّوالي، المفتول، الرشتاية، المجدرة، المحاشي، الحُمص، الفول، الفلافل، الملفوف، الخبيزة، المقلوبة، المنسف، المسخن....إلخ) من القائمة الطويلة التي يسيل لها لعاب من يشمّ رائحتها ليست أمراً عادياً كما يظن بعض الفلسطينيين الذين وجدوها في بيوتهم منذ ولادتهم، بل هي نتاج حضارة وثقافـة توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد منذ غابر الأزمان، تماماً مثلما هي الرقصات والدبكات والأغاني الشـعبيـة التي انطلقت من حناجر المقدسـيين، ولو لم تكن كذلك لكانت شـعوب أخرى تعرفها وتعلم طريقـة تحضيرها... وهذا لا يعني أن للعاصمـة الفلسـطينيـة ثقافـة منفصلـة ومنغلقـة، كون الاحتلال يُحاصر المدينـة بجداره التوسـعي، ويعزلها عن محيطها الفلسـطيني وامتدادها العربي؛ فالثقافـة المقدسـيـة جزء من الثقافـة الفلسـطينيـة بشـكل خاص والعربيـة بشـكل عام، مع التأكيد على خصوصيـة القدس الأكثر اسـتهدافا من قِبل الغزاة...
وللتذكير فقط فإن الموروث الشـعبي هو جزء من الهويـة الوطنيـة لأي شـعب، وشـهادة تاريخيـة على عمق جذور الشـعب على أرضـه، وبلادنا فلسـطين تكاد تكون متحفاً كبيراً لكثرة ما تحتويـه من كنوز حضاريـة أنتجتها أجيال متعاقبـة عبر التاريخ؛ فقدسـنا رغم صغر مسـاحتها وجلال قدرها، وكثرة الطامعين بها كما هي بقيـة مدننا وقرانا، شـاهد على عظمـة شـعبنا، ومسـاهماتـه في بناء الحضارة الإنسـانيـة عبر التاريخ، فالقدس القديمـة وحدها تختصر حضارة تحتاج إلى آلاف الباحثين وعشـرات الدارسـين لحصرها وتدوينها، ففيها المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، وعشرات المساجد والكنائس الأخرى، إضافة إلى الزوايا والتكايا والأسواق العريقة، والمدارس ودور العلم، والأبنية التاريخية التي يحمل كل بناء منها قصة حضارة ومجد، وسور المدينة العظيم... وغيرها، وهندسة الأبنية التاريخية في المدينة تتفوق جمالاً ومعماراً وتنظيماً على مثيلاتها الحديثة، وتندرج الأكلات الشعبية وأدوات المطبخ ضمن هذا التراث العظيم، ومن هنا تأتي أهمية دخول موسوعة (غينيتس) العالمية، فالمائدة لم تكن للطبيخ فقط ولملء البطون كما يتوهم البعض، بل تحمل في ثناياها رسالة تقول: (القدس تنطق بأنها مدينة عربية) ويشهد العالم على ذلك، من خلال شهادته بأن كل شيء في القدس عربي بما في ذلك الطبيخ.
واقرأ أيضاً:
بدون مؤاخذة ـ عفواً سيادة الرئيس