الثورة المصرية أصيلة واعية منبثقة من أعماق الإنسان المكبّل بالحرمان ,وفقدان منافذ التعبير عن القدرات. وهي شبابية عفوية, تحركت طاقاتها في أرجاء مصر وتوقدت, حتى أحدثت تغييرا ما كان يعرفه الخيال.
الشباب المصري أنفجر وقال كلمته ورفع رايات تطلعاته, ورسم خارطة غدهِ. وبرز بوضوح ووعي وحكمة وفهم عميق ومعاصر لمعاني الحياة والصيرورة الحضارية الإنسانية. وكان رأس نفيضة الشباب والقائمين على إدامة زخم الثورة ووصولها إلى ذروتها, يمثل ولادة حضارية أصيلة معبرة عن حقيقة الأمة.
ومن عجائب هذه الثورة, أن القوى التي ما خطرت على بالها الثورة تمكنت من إقصاء أصحابها الحقيقيين وعقولها المدبرة, وراحت تدّعي ما تدعيه وتعلن ملكيتها الحقيقية للثورة, وفي هذا تكمن أقسى طعنة أصابت الثورة المصرية الحضارية الباهرة, بآليات تنفيذها ووصولها إلى أهدافها المشروعة. وبناءً على ذلك فأن الثورة ستلد ثورة أو متوالية ثورات, لأن الثورات لا يمكن سرقتها بلا ثمن, وأن الثورات لا يمكنها إلا أن تمنح نفسها لرجالها, وتقاوم الاغتصاب والاعتداء, ولا تستكين في قبضة سجان.
الثورة قوة مطلقة لا يمكن حشرها في صناديق الأحزاب والعقائد والمذاهب والرؤى الشمولية, المتوهمة باحتكار الحقيقة والمشحونة بالعدوان الوهمي الفاعل في أروقة كيانها.
الثورة تعبير أصدق عن إرادة الحياة ونبض الوجود الحي. وما يجري في مصر اليوم عبارة عن انبعاجات ثورية حائرة, بسبب القبض على إرادة الثورة وتهميش رموزها الحقيقيين الصادقين, فروح الثورة لا يمكنها أن تتجلى إلا بأبطالها ومنفذيها, فحرارة الانتصار ونشوة الإنجاز تحققت فيهم, وليس بغيرهم من المدعين بالثورة. فالثورة شبابية الملامح والرؤى والتصورات.
وما نراه اليوم, أن الذين تقدموا وتمكنوا, لا يمتون بصلة قوية للشباب, وإنما جيل ربما يسعى إلى قهر الشباب الذي يمثل النسبة الأكبر والأقوى في المجتمع, وفي ذلك تعبير جوهري عن عقلية الطغيان والاستبداد. فما يبدو في المشهد المقرر يغيب عنه الشباب.
وهذا يعني أن ما يجري يعيد ذات الصورة التي قامت ضدها الثورة, وكأن الأحزاب ورموزها لم تعي أن من أقوى أسباب الثورة هو الهوة الكبيرة التي أوجدها النظام السابق ما بين الأجيال, فرأس النظام كان في العقد التاسع ومَن حوله في العقد الثامن, والمجتمع أكثر من نصفه من الشباب , وبذلك حصلت هوة شاسعة بين المجتمع وقيادته, تتلخص في فقدان آليات الفهم والتخاطب, وعدم رؤية المجتمع إلا بعيون أبوية , كما عبّر عن ذلك الرئيس المصري في خطاباته الأخيرة.
إن مشكلة الثورة المصرية تتركز في تباعد الأجيال وافتراقها , ولهذا تداعيات غير حميدة.
وكما هو معروف فأن الطغيان يحقق وجوده بالكبت المطلق بكل وسائله وما يدل عليه, والمجتمعات التي تصل إلى مرحلة الانفجار الكبتوي (من الكبت) الأكبر, تكون قد وصلت إلى درجة الغليان الحضاري القصوى, وفقدت كل الوسائل القادرة على تخفيف الضغط وتقليل درجة حرارة وأزيز الفوران الصاخب.
وبعد أن ينزاح الغطاء الضاغط تتناثر الموجودات المضغوطة بكل ما فيها من الطاقات والتفاعلات لصناعة حالتها الجديدة, ولا بد لها من قوة لأمة جامعة, أي أن انبثاقها يجب أن يكون من خلال عدسة محدبة وليست مقعرة كما يحصل في الثورات العربية.
وبما أن القوى الجامعة لطاقات الثورة وتدفقاتها الشبابية تم إبعادها, فأن حالة من الحركة والتفاعلات العشوائية ستتحقق حتما, وستتحول الموجودات المتحررة من الضغط, إلى موجودات حائرة ويائسة ومتحسرة ومتألمة و متأسفة أو نادمة, وفي هذا تكمن خطورة كبيرة.
وبسبب ذلك تسعى بعضها إلى استعادة الحالة الماضية, أو العودة إلى حالة الوجود المضغوط لكي تشعر بالأمان وراحة البال, فالتغيير المتصاحب بنتائج عشوائية يؤدي إلى اضطرابات سلوكية جماعية هستيرية وخيمة, وهذا واضح في سلوك الثورات ابتداءً بالثورة القرنسية وما أعقبها من الثورات البشرية عبر التاريخ.
وشذت عن ذلك الثورة التونسية التي قدمت نموذجا عربيا راقيا وواعيا لم تسبقها إليه أية ثورة, وعجزت جميع الثورات العربية عن استلهام عقيدتها وآلياتها الحضارية العربية الإنسانية الأصيلة, وهذا يؤكد بأن الشعب التونسي أكثر ثقافة وحضارة ومعاصرة من أبناء الأمة جمعاء.
ومن بديهيات الفهم الحضاري الثوري أن الثورات لا يمكن لها أن تعيش في معتقلات الأحزاب, وخصوصا الدينية ذات العقائد المشوهة والمفصلة على قياسات غاياتٍ في نفس يعقوب ويعقوب. فالدين الحقيقي ثورة إنسانية منيرة, وتمثل ذلك بوضوح خالد منذ الهجرة النبوية الشريفة للمدينة المنورة. فما الدين إلا ثورة بأقصى ما تعنيه الثورة, ولكل ثورة مردودات اقتصادية ومعرفية تنويرية وجوامع روحية وعقائدية تجعل الثائرين يعملون كفريق واحد.
فكانت تلك الثورة ذات غنائم اقتصادية ومعرفية وانتقالات إيجابية مشرقة في الوعي والإدراك البشري. وعلى هذه القياسات يمكن الحكم على أية ثورة. فهل حققت الثورة المصرية انتقاله اقتصادية نوعية؟
وهل أسهمت في الارتقاء بالوعي؟
وهل حركت المجتمع تحت لواء منطوق وطني واضح؟
إن الفهم الحقيقي والجوهري للتفاعلات البشرية يشير إلى أنها نشاطات اقتصادية, فالحرب نشاط اقتصادي بحت, والمجتمعات التي تخسر الحرب تتهاوى اقتصاديا والتي تربحها تتنامى. ومن المعروف أن الدوافع للحروب والغزوات منذ الأزل, إنما هي دوافع اقتصادية يحكمها البحث عن مصادر الطاقة وتنمية القوة, ويتم تسويغها بأنواع الإدعاءات كما يحصل في عالما المعاصر.
والثورة نشاط اقتصادي في جوهره, ومن أهم أسباب الثورات العربية هو العامل الاقتصادي, والثورة التي تتجاهل هذا العامل الجوهري لا يمكنها أن تتفق وتطلعات الثورة العربية. وما يجري في مصر هو الإهمال أو التجاهل لهذا الموضوع والتركيز على موضوعات إلهائية لا تؤمن من خوف ولا تطعم من جوع.
والملاحظة الأخرى عن الثورة المصرية, أن الثورات تلد منظريها ومثقفيها وكتابها وشعرائها ومفكريها وإعلامها, وفي حالة الثورات العربية والمصرية خصوصا, غابت هذه الظاهرة, والتي تعكس أن الثورات العربية سائبة وتتخبط في بيداء الحاضر والمستقبل, وفي هذا تكمن مخاطر انحرافاتها وانكساراتها وتحولها إلى صيرورات متصاغرة متصارعة, لا لشيء, وإنما لتصريف طاقاتها والتخلص من مكبوتاتها الأليمة.
ومن عجائب الثورات العربية أنها اتصفت بالرومانسية, وحسبت أن تغيير النظام القائم سيفتح أبواب الخيرات, وأن العمل الثوري عبارة عن "افتح يا سمسم", وهذا التصور تسببت فيه الأنظمة المستبدة التي جردت الإنسان من مسؤوليته, وزرعت في وعي الأجيال أن كل شيء من مسؤولية الدولة والسلطة والحزب الحاكم, مما تسبب في تنمية مشاعر العداء لكل ما يرتبط بالدولة, وكذلك الإسهام في إضعاف المشاعر الوطنية والحرص على المصلحة العامة. وهذا الانحراف في الوعي والإدراك, أدى إلى تصعيد مشاعر الخيبة واليأس والإحباط في أعماق الناس, ودفعهم للقيام بأفعال يائسة, وكأنها تريد الانتقام من ذاتها وموضوعها.
ولكي يحافظ المختص النفسي عن الأمانة والمسؤولية التاريخية والحضارية, لا بد له أن يحمل مشعل التنوير الفكري والثقافي اللازم لإنارة مواضع الخطوات, وتأهيل الإنسان معنويا ونفسيا لكي يبقى متمسكا باتجاه بوصلته الثورية التي خربتها الحوادث والأحداث, ولابد للقلم أن يتفاعل مع عقل الثورة لكي ترى وتدرك نتائج ما تقدِم عليه.
إن الخروج من هذا المأزق الثوري, يتطلب من الثوار أن لا ينكسروا, وأن يتواصلوا ويحافظوا على إصرارهم وحقهم في قيادة الثورة والتعبير عن منطلقاتها, ولا بد للشباب أن يكونوا في المقدمة, وأن يترجل الدخلاء عليها ويعبّروا عن وطنيتهم وتجردهم من التطلعات الذاتية والحزبية والفئوية. فغياب الشباب وعدم الاعتراف بدورهم والتعامل معهم بعقلية أبوية, تعويق خطير ومدمر لأية ثورة.
فالثورة يقودها الشباب
والثورة يصنعها الشباب
والثورة تصل إلى أهدافها بالشباب, وشباب الثورة المصرية من أنضج شباب الأمة وعلينا أن نفخر بهم ونسلمهم زمام القيادة الوطنية, ونتحرر من أنانيتنا وتصوراتنا الوهمية والحزبية الضيقة السالبة.
وعلى مصر أن تتحرر من قبضة القيادات المسنة لكي تجني ثمار ثورتها, وأن تفسح الحياة للأجيال المتوافدة المتوقدة, وبذلك تكون القوة والرمز والتطلع العربي الخالد والمتجدد.
تُرى لماذا قادة العالم المتقدم من الشباب, وقادتنا من الكهلة؟
وهل أن الثورة المصرية غيّرت أم بدّلت؟
تحية لمصر الكنانة والنيل والحضارة والثورة والأمل والتاريخ, واعتزازا برايتنا المصرية الإنسانية الوهاجة الخفاقة في ربوع ضمائرنا العربية الأصيلة.
واقرأ أيضاً:
لعبة وخيوط تتحرك في مصر / مسار الثورة: رقعة الشطرنج / نداء جبهة علماء الأزهر / التصويت بالخوف / أزمة شباب الإخوان