كانت الصورة المعتادة للفريق أحمد شفيق في الماضي أنه رجل هادئ ورقيق ومتحضر ويتحدث بنبرة صوت هادئة ومنخفضة ولا يميل للهجوم أو التجريح. وكان يبدو عليه القدرة على الإنصات وسماع الرأي الآخر على الرغم مما هو معروف عنه لدى المقربين منه والذين عملوا معه أنه يقرر بعد ذلك ما يشاء كيفما يشاء وقتما يشاء. وكان يبدو متواضعا على الرغم مما هو معروف عنه من ميله للانتماء إلى الطبقات الأعلى وبعده أو ربما نفوره من الطبقات الدنيا وعدم رغبته في الاقتراب منها. وكان يبدو مدنيا في ملبسه وفي طريقة حديثه وفي سلوكه على الرغم من خلفيته العسكرية الطويلة. وكان يبدو شابا في ملبسه (قميص وبلوفر أحمد شفيق الشهيرين) أنيقا في مظهره رشيقا في حركاته.
هذه الصورة النمطية التي كان عليها شفيق في الماضي جعلت بعض المصريين يرون فيه نموذجا لرجل الدولة المتزن المتحضر الراقي، خاصة أولئك الذين لم يتعاملوا معه عن قرب ولم يتفاعلوا معه بشكل حقيقي، أما الذين يعرفونه حق المعرفة فكان لهم رأي آخر. وربما هذا ما جعل حسني مبارك يختار شفيق في مرحلة انهيار نظامه على أمل أن يستطيع شفيق بقدراته ومظهره وصفاته سابقة الذكر مواجة الثورة بشكل هادئ وأن يخفض من حرارتها، وينزع منها وهجها واندفاعها ويسلب حيويتها بدهاء السياسي ثم يحكم قبضته عليها بسلطوية العسكري.
هذه الخلطة "الشفيقية" كادت فعلا تهدد الثورة في أخطر مراحلها (من خلال خطاب عاطفي لمبارك تبعه في اليوم التالي هجمة الجمال والبغال والحمير على ميدان التحرير لإخلائه)، ولكن الله سلم وصمد الثوار أمام مؤامرة شفيق ومن معه، والشباب الواعي كان منتبها لخطورة شفيق فثار عليه وخلعه من رئاسة الوزراء معتبرا إياه عدوا حقيقيا للثورة خاصة أنه لم يعترف بها أبدا في ذلك الوقت.
وحين ترشح شفيق لرئاسة الجمهورية ووصل إلى جولة الإعادة ظهر له وجه آخر لعله يكون الوجه الحقيقي الذي كان متخفيا خلف القناع السابق وصفه، أو يكون تسويقا لشخصية يظنها شفيق مطلوبة في الوقت الحالي، بمعنى أن شفيق يدرك أن ما حدث في الفترة الانتقالية (سواء كان تلقائيا أو مدبرا) من اضطرابات وانفلات أمني وتخبط في القرارات أدى إلى شعور المصريين بالقلق والخوف على حياتهم وعلى لقمة عيشهم وعلى مستقبلهم، وبالتالي فإن ظهوره بمظهر الرجل القوي الحازم الشديد (أو حتى المتعالي المستبد) يعطي الناس الشعور بالثقة والأمان والطمأنينة (خاصة أولئك الذين يتحلون بأخلاق العبيد الذين يرغبون في لقمة عيش وأمان حتى ولو كانا مغموسين بالذل والقهر)، وفعلا بدأ شفيق في تسويق هذه الصورة بوعي أو بغير وعي منه.
ومن هنا رأينا شفيق يظهر في الحوارات والمقابلات والمؤتمرات الانتخابية بصورة مختلفة عما عهدناه منه، فهو أكثر حدة وأكثر غضبا وأكثر عدوانية، ويبدو متعاليا متباهيا بنفسه وبإنجازاته إلى درجة النرجسية، وحين يتحدث عن خصمه يخلع عليه صفات تدعو إلى الازدراء والكراهية والتحقير (وهذه أهم بذور الاستبداد في الشخصية). ويبدو أن الأمر قد خرج من يده فتورط في تصريحات كانت تبدو عدوانية (مثل تصريحه بفض أي تظاهرات شعبية ضده بواسطة الجيش في دقائق معدودة أسوة بما حدث في العباسية)، وادعاؤه بقدرته على استعادة الأمن في 24 ساعة (وفي ذلك إهانة غير مباشرة لمن بيدهم الأمر في المرحلة الانتقالية من العسكريين بأنهم فشلوا على مدى عام ونصف فيما سينجح هو في تحقيقه في يوم واحد، أو حتى اتهام لهم بالتقصير أو التواطؤ)؛
وظهرت كثير من التناقضات والاندفاعات في تصريحاته وكلها تنم عن حالة من القلق والتوتر والخوف ينتج عنها سلوك تعويضي في صورة إحساس مبالغ فيه بالقدرة والتحكم والسيطرة، ومحاولة تطمين الذات باستعادة إنجازات من الماضي وتضخيمها بشكل مضطرب (أنا حاربت وقتلت واتقتلت) مما كان مثارا لتعليقات ساخرة في الإعلام الإلكتروني، خاصة حين كان شفيق يتحدث تحت كل هذه الضغوط فيضطرب منه الحديث ويبدو أحيانا غير مترابط.
ومما يزيد من قلق شفيق وتوتره ما يلاحقه من اتهامات بأنه كان معاديا للثورة في مهدها وفي أوج انطلاقها وأنه منتم إلى النظام السابق وإلى الفلول وبأنه صديق مبارك الذي ثار الشعب عليه وخلعه، ويزيد الأمر خطورة ملاحقته من قبل معارضيه في أي مكان يذهب إليه بكلمات قاسية وإلقائهم الأحذية عليه مما يشكل جرحا نرجسيا لشخصية مثل شفيق يرى نفسه بشكل متضخم.
وهو رغم انتمائه العميق للنظام القديم وولائه الشديد لمبارك واعتباره المثل الأعلى له يحاول أن يركب على ذيل الثورة أو جناحها، وأن يتحول إلى صورة أخرى ربما يستطيع بها أن يمتطي الثورة فيروضها ويعيد النظام القديم ببعض الإصلاحات الشكلية ويعيد الاعتبار لأستاذه ومثله الأعلى مبارك ويحافظ على مصالح المؤسسة العسكرية وامتيازاتها، ويحافظ على مصالح رجال الأعمال الذين يؤيدونه في السر والعلن، ويحافظ على هيكل النظام القديم بأغلب تشكيلاته.
هذا الصراع بين الداخل والخارج في نفس شفيق، بين ولائه القديم العميق وبين ادعاءاته الثورية الانتخابية الجديدة، بين صورته القديمة وصورته الجديدة يجعله يبدو مهزوزا مضطربا متناقضا عصبيا حادا في تصريحاته وفي تفاعلاته، ومع هذا يعتقد أن صورته الجديدة هذه ربما تقنع وتطمئن الخائفين والمذعورين والطامعين بأن هذا الرجل يملك المفتاح السحري للأمن والاستقرار والطمأنينة بينما هو في الحقيقة يفتقد ذلك في داخله.
واقرأ أيضاً:
"المجلس الرئاسي".. ضمن قائمة من المطالب أمام الإخوان / نصيحتي للإخوان / الفلول تحييكم!! / مازوخية المصريين: باي باي ثورة!