الذات البشرية الخالية من الثورة لا تنتمي للحياة.
لأن الحياة ثورة، فما دامت في جريان صاخب ومتواصل فإنها ثورة دائبة، ولا يمكن فصل الثورة عن الحياة، لأن في ذلك خنق لها وحرمان من هواء البقاء وطاقات الأمل والرجاء. والذين يريدون مصادرة الحياة يطهّرون الذات البشرية من الثورة، ويحيلونها إلى وجود خامل وشيء خامد يكون التفاعل معه على أنه جماد، لا يمكنه أن يستجيب وفقا لرؤاه، وإنما يجيد الخضوع والاستسلام والنكوص والانحدار في مجاري الضياع.
ومن سياسات الاستقرار والسكون التي تم العمل بها في بلداننا، إفراغ الذات البشرية من الثورة بمعانيها الكاملة، وتحقق هذا التفريغ بواسطة مشاريع وتدابير مُحكمة أدّت إلى إخماد أي بصيص للثورة في الأعماق العربية. وقد لعبت الأنظمة الاستبدادية دورا رئيسيا في برامج التفريغ الثوري وتحطيم الإرادة وسحق الوجود بالطغيان، وضرب الإنسان بالإنسان، وتمزيق الوحدة والتفاعل الإيجابي بين أبناء البلد الواحد.
ومَن يتأمل ما جلبته الأنظمة الفردية، يدرك أنها قد حولت الوجود العربي إلى رماد، وخنقت الناس بدخان إرادتهم المسجورة في تنور الأوطان، وما تمكنت من صناعة التقدم وتحقيق الرفاهية والعيش الكريم. وإنما إنجازاتها حروب وخراب وسلوكيات استبدادية، وتفاعلات مشينة تتمثل بالفردية والتحزبية والفئوية التي قيّدت التطلعات وكبّلت الأجيال ببعضها، وأٌوقعتها في ورطة تدمير وجودها، كما بنت السدود العالية والموانع القاسية لكي تبعد الأجيال عن مناطق مصالحها وهيمنتها واستئثارها بالثروات والسلطة ونعيم الحياة.
وهناك ما لا يُحصى من المشاريع لإخماد الثورات الذاتية في نفس الإنسان وميادين أعماقه المتوهجة المتوثبة، ومن أقبحها القتل والسجن والتعذيب والتحطيم الكامل للكيان، وفي هذه المشاريع يكون ابن البلد هو الفاعل والمفعول به، والحاكم والمحكوم، والجلاد والضحية، والسارق والمسروق والقاتل والمقتول.
أحزاب تفتك ويُفتك بها، وكراسي تظلم ويقع عليها ظلمها، حتى صار الوجود الإجتماعي حالة مرعبة مضطربة متحرقة للإنهيارات والتداعيات الصعبة، ولهذا رأينا وسمعنا ما لا يمكن لعقل أن يتخيله من بشاعات السلوك وتداعيات التفاعلات ما بين أبناء الوطن المقهور.
والعنف القائم في هذه المشاريع الإخمادية يتحقق بواسطة أنظمة فردية مستبدة وأجهزة قمعية يتم إسنادها وإبقاؤها في مواقعها إلى أقصى ما يمكنها من الوقت، وتُحسب أعمارها السلطوية بعقود، وتنسى بأن الحياة نهر يجري وأن هذه السدود التي أقامتها لإخماد الثورات البشرية، ستتهاوى وتعجز أمام تواكب أمواج التيار وتنامي عزمه وقوته.
وأغفلت نداءات "الشعب يريد"، بعد أن تداعت سدود الإستبداد المقامة أمام نهر الجماهير الصاخب، وما استطاعت إخماد ثورات جموع الأجيال، وتبين لها أن سياسات إخماد الثورات الذاتية فاشلة وخاسرة ومكلفة جدا، بما تسببت فيه من انبعاجات غير محسوبة وتفاعلات لا تخطر على بال.
ويتجاهل أصحاب تلك المشاريع أن الأمم الحية لا يمكن إخماد ثوراتها وإنما تراكمها وتأجيلها، وهذا ما يحصل في بلاد العرب اليوم حيث تم ترحيل ثورات الأجيال إلى الجيل المعاصر، مما أدى إلى انبثاق ثورات ذات مواصفات الامتداد والتفاعل مع الأجيال السابقة، وتكنز طاقات ذات قوة انفجارية عالية لا يمكن الوقوف أمامها ومعالجتها.
ولا يُعرف إذا تم إبتكار مشاريع جديدة لخوض معركة إخمادٍ أخرى تحقق المصالح في القرن الحادي والعشرين. لكن المعروف أن الثورة الذاتية تبقى فاعلة ومؤثرة ومؤجلة وتتراكم وتعبّر عن وجودها مهما تفاقم القهر والمنع وتكالبت الأطماع.
17\2\2012
اقرأ أيضا: