في الثورة السورية: كيف وصلنا إلى المجازر الحالية؟2
سايكولوجية الدعاية الإعلامية للنظام ولبعض قوى المعارضة الموجهة للمشاعر الطائفية
عندما يوجه النظام ألاعيبه الأمنية والإعلامية في الدعاية الطائفية نحو طائفة واحدة فهو يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فالطوائف المختلفة “الأقليات”، وإن كانت علاقاتها مع بعضها البعض ليست جيدة حتى من ناحية الاعتراف الديني، تنظر بعين الريبة إلى أي دعاية من قبل المسلمين السنة تجاه أي واحدة منها على أنها تهديد لها أيضاً، ليس حباً بالطائفة المستهدفة بل خوفاً من الآخر. وهذا الأمر أحد أسباب اشتغال النظام على الطائفة العلوية بشكل أساسي بإظهار نفسه كنظام علوي يستهدف الثائرين بصفتهم سنة مما يستدعي الكراهية والحقد من السنة تجاه العلويين وبالتالي إثارة التوجس والخوف من الثائرين عند الطوائف الأخرى، ولا ينفع هنا عدم توجيه السنة كراهيتهم تجاه الطوائف غير العلوية أو طمأنتها بأنها غير مستهدفة.
العكس صحيح أيضاً فالخطاب السني الطائفي عند بعض من يدعي تمثيل الثائرين ممن يهاجمون النظام بصفته علوياً متحالفاً مع الشيعة يثير مخاوف الطوائف الأخرى والمسيحيين أيضاً ليس حباً بالنظام أو حباً بالعلويين بل خوفاً من القادم المتخيل كما تصوره وتضخمه دعاية النظام دون كلل أو ملل.
كيف وصلنا إلى المجازر؟
لا شك أن بعض الشبيحة العلويين ومع مرور الوقت تحولوا إلى قتلة محترفين “قاتل متسلسل” قادرين على ارتكاب الفظائع التي نسمع عنها ونرى نتائجها اليوم، طبعاً لا “ينجح” الجميع بذلك بسبب طبيعة البشر نفسها، ولا بد أن النظام استخدم قتلة محترفين من منابت متعددة في المجازر المبكرة على الأقل بقصد الردع، لا يمكن لأي شخص كان مهما بلغت درجة كراهيته وحقده وخوفه أن يقوم بعملية مثل ذبح أطفال صغار أو رجال أو نساء، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على معظم الأصوات المنادية بالثأر والانتقام من السنة…
جرت حوادث متفرقة في الثورة من اعتداءات ذات طابع طائفي من السنة تجاه بعض العلويين الشبيحة أو البريئين، ولكن لم تحدث بعد مجازر جماعية بهذا المعنى، وأظن أن النظام سيحول دون وقوعها بكل ما أوتي من قوة ودهاء لأن ذلك سيضعه في موقف الفاشل في حماية العلويين (وسائر “الأقليات” الأخرى التي يدعي حمايتها)، ونعلم كيف يمارس النظام بدهاء حتى الآن سلوكه التمييزي تجاه “الأقليات” في المعتقلات وحرصه على عدم ممارسة القتل فيهم.. وحتى تمييزهم في توفير متطلبات حياتهم اليومية في المناطق غير المنتفضة التي تضمهم، كما أن هذا النظام مازال يحاول بث الفتنة في بعض المناطق مثل السويداء ودرعا ومناطق الأكراد والعرب في الجزيرة وفي السلمية ومناطق البدو حولها وفي المناطق المسيحية في وادي النصارى ولكن هذه المرة بعيداً عن ثنائية سني – علوي، أما لماذا تحدث المجازر تحديداً في بعض المناطق السنية التي تحيط بها قرى علوية فسأحاول مقاربته بسياق مختلف.
عندما تمردت مجتمعات مدنية على النظام بكافة أشكال التمرد المعروفة ومنها التمرد المسلح أيضاً كان بإمكان النظام مواجهتها بالاكتفاء بالرد العسكري الغاشم واحتلال مناطق هذه التمردات كما فعل مبكراً في الثورة في مناطق عدة، ولكن عندما طال عمر الثورة وانتشرت التمردات المدنية والعسكرية في كل مكان تقريباً وأصبح من الصعب السيطرة عليها مرة واحدة وبعملية عسكرية واحدة نشأت حالة مهددة للنظام، ففي ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تشكل في المناطق المتمردة مدنياً والتي تضم مسلحين شيء يشبه سلطة منافسة للدولة التي يمثلها النظام، ونشأ ما يشبه تنظيم مدني للمساعدة في تلبية حاجات الناس اليومية وقد شارك المسلحون أنفسهم في هذه الخدمات أحياناً؛
ومع مرور الوقت فكر النظام بأن الوضع الجديد قد يصبح مألوفاً للجماعات السكانية المجاورة غير المنتفضة وغير المتجانسة اجتماعياً على صعيد الدين والطائفة والقومية والعشيرة الخ، وقد تعتمد هي نفسها على الخدمات الجديدة اضطراراً على الأقل، لم يكن أمام النظام من حل سوى مشاركة هذه المناطق المحيطة فعلياً بدرجات مختلفة أو بصورة رمزية بأعماله القتالية كأن يضع فيها أسلحته التي تقصف المناطق الثائرة أو يدخل منها شبيحته مع مشاركة شبيحة محليين من هذه المناطق المحيطة، أكثر ما يهم النظام حالياً عدم قيام تفاهمات اجتماعية بأي شكل من الأشكال بين السكان بمعزل عنه وبشكل مستقل، ولذلك من الضروري للنظام زرع الشك بين هذه المجموعات السكانية بحيث لا تشعر بالثقة أبداً ببعضها البعض.
لم يعد يكفي النظام السيطرة العسكرية على المناطق الثائرة لأن ضحايا عملياته الحربية الذين بقوا أحياء سوف يلجئون بالضرورة لجيرانهم لتأمين الحد الأدنى من متطلبات معاشهم.. هناك أماكن في سورية غير قريبة للحدود ولا يمكن اللجوء منها ببساطة إلى الدول المجاورة، هذا هو الأساس المادي لضرورات المجازر ولسماح النظام بحدوثها دون ردع منه، لا يهم النظام ضرب النسيج المجتمعي السوري، ومتى كان يهمه هذا الأمر عبر عشرات السنين من الحكم الأسدي؟ كل سلوك النظام الأسدي منذ عام 1970 في الجيش والدولة والمجتمع كان يدل على ما يمكن أن يفعله في ظروف ثورة شعبية مثلما يحدث الآن، وقد سلك في الثمانينات في حماه وحلب وإدلب نفس المسلك أيام حافظ الأسد، وكذلك فعل بشار الأسد في هبّة السويداء عام 2000 وفي انتفاضة الكورد عام 2004.
أعلى النموذج
أسفل النموذج
الخلاصة
عمل النظام السوري منذ بداية حكم الأسد الأب على تحويل العلويين من جماعة أهلية إلى طائفة سياسية. ربط الأسد الأب هذه الطائفة بعائلته تحديداً بطرق مختلفة وتبادل فيها بعض رموز هذه العائلة الأدوار دائماً. لم تسمح هذه العائلة المالكة والحاكمة بنشوء أي تمثيل مذهبي للطائفة العلوية أو بظهور أي مرجعية دينية للطائفة من أي شكل كان، وقد شجعت هذه العائلة التقسيمات العشائرية ضمن الطائفة بأشكال مختلفة وبحيث تكون عائلة الأسد الأب هي مركز الولاء دائماً. لقد أبرز ورعى هذا النظام عبر كبار ضباط الجيش والأمن العلويين طبقة من “الإقطاع العسكري” في مناطق العلويين لها نفوذها المناطقي والعشائري.
بنى رموز هذا النظام شبكة مصاهرات معقدة بين بعضها البعض ومع الكثير من عائلات رجال الأعمال من فئات اجتماعية متنوعة عدا عن شراكات أعمال الفساد المنظم عبر سنين طويلة. شجع نظام الأسد العلويين على التطوع في الجيش والأمن بعشرات الألوف مثلما شجع هجرتهم من الريف للمدينة عبر بحثهم عن وظائف مدنية في الدولة، ولم يهتم أبداً بالاستثمار في مناطق تواجدهم كي يبقوا فيها. عمل نظام الأسد على اختطاف الطائفة العلوية بالمعنى السايكولوجي الاجتماعي في أحداث الثمانينات مثلما يفعل الآن، ولكن في الثمانينات جرى تمويه عملية الاختطاف تحت ستار الأيدلوجية والسياسة أما الآن فتجري هذه العملية لأول مرة بشكل اجتماعي مكشوف تحت ستار الخوف من الحرب الأهلية أو الطائفية.
لقد استثمر نظام الأسد دماء العلويين التي هدرت في الدفاع عنه بشكل جيد وساعده في ذلك ما حصل من عدم القطع مع ما حدث في الثمانينات، وتوريث الجمهورية الذي حدث وما رافقه من توريث الكثير من عناصر النظام العلوية من الصغار والكبار (الكثير من رموز النظام العلويين من الجيل البعثي الثالث حسب تسمية ياسين الحاج صالح هم أبناء رموز النظام العلويين من الجيل البعثي الثاني).
من الصعب على الثائرين فهم هذه العملية التاريخية التي تتطلب وعياً في علوم الاجتماع والسياسة وغيرها، ومن الطبيعي أن تظهر تصورات حول وجود مؤامرة علوية للاستيلاء على الحكم والاحتفاظ به، وحول وجود حرب علوية على السنة الآن. ومن الصعب أيضاً على نشطاء العلويين في المعارضة والثورة (وعلى النشطاء الآخرين من طوائف أخرى) السلوك كأفراد أو مجموعات بشكل سياسي أو مواطني أو أهلي أو مدني في هذه الظروف خصوصاً مع المحاولات الجارية من بعض القوى السورية والعربية الخليجية على قدم وساق لاختراع طائفة سنية سياسية في سورية والتعبئة في الثورة على أساس أنها ثورة مذهبية عدوها الأول هو الطائفة العلوية.
إن غياب الحراك الثوري في مناطق العلويين وغلبة الانتصار للنظام فيها مع وجود مظاهر التشبيح فيها بكل أشكاله اللفظية والنفسية والفعلية والعنيفة في كثير من الأحيان، وصعوبة أن يدعي أحد أي تمثيل اجتماعي أو سياسي في هذه المناطق بشكل مستقل عن النظام، وتجييش النظام للناس طائفياً في هذه المناطق والتجييش الطائفي ضدهم من الجانب المقابل أحياناً، كل ذلك يجعل مسألة فض الاشتباك بين الثورة على النظام برمزه الأسدي عن رمزه الطائفي العلوي مسألة صعبة، خصوصاً في فترات الاحتقان الطائفي والمجازر والدم المسفوح من الجانبين. نعم ربما يوجد في الطائفة العلوية الآن أكبر عدد من الشبيحة المجرمين من كل لون مدني أو عسكري، ولكن هذا لا يعني الاستنتاج أن العلويين كجماعة أهلية هم المسؤولون عن كل ما يمارسه هؤلاء، العلويون بهذا المعنى ضحايا أيضاً ويحتاجون من يخلصهم من هذا الشرك التاريخي الذي وقعوا فيه.
واقرأ أيضاً:
طفل يُقتل ويُذبح..... كيف ولماذا؟!!!!!!!!؟/ إنهاك سوريا ثم إنهاؤها!/ الدعم النفسي لأهل الشام : تيلي دعم