ربما اختلف هذا الخطاب عن خطابات الحملة الانتخابية (التي اتسمت بالحدة والاستقطاب والصراع والهجوم)، حيث ارتقى إلى المستوى الرئاسي الهادئ والواثق، وانتقل من موقف التنافس والاشتباك إلى التوافق والتصالح، وعلى الرغم من وجود أوراق يقرأ منها إلا أنها كانت للتذكرة بالعناصر بينما كان أغلب الوقت يتحدث بشكل تلقائي إلى مشاهديه، وكان التواصل البصري قائما أغلب الوقت. لم تظهر عليه علامات الزهو أو الفرح أو الانتصار أو التباهي، وإنما غلب عليه الشعور بالتبعة والمسئولية، وغلب عليه تواضع منبعث من موقف ديني (وربما أيضا من ضغوط حالية تعكر صفو الانتصار)، ولذلك ردد الآية "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" في الجزء الأول من الخطاب وردد الآية الكريمة "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لايظلمون" (كررها مرتين)، وكأن هذه الآيات كانت مانعة للشعور بالزهو أو التعالي أو التباهي في مثل هذا الموقف، فهو يرجع الفضل لله، ويدرك لحظة الرجوع إليه.
وربما أيد هذا المعنى نظرات العينين وتعبيرات الوجه، والتي كان يغلب عليها مسحة من حزن ومرارة وألم، ربما من آثار سنين الاضطهاد والاستبعاد والحظر والتقييد والاعتقال والتهديد ، تلك المشاعر التي لم تنجح لحظة الانتصار والفوز بمنصب رئيس الجمهورية في محو آثارها من وجه الدكتور مرسي (والذي يأخذ عليه بعض المراقبين أنه لا يرى مبتسما). ونبرة الصوت كانت متوسطة وحازمة وقوية ومؤكدة وفي نفس الوقت راعية ومطمئنة وأبوية. وحركة الجسد قليلة مما يعني حالة من الثبات الانفعالي المعقول، أما حركة اليد اليمنى فكانت منبسطة وتوافقية، ونادرا ما كانت سلطوية .
أثنى على رجال القوات المسلحة ورجال الشرطة الشرفاء ورجال القضاء (على الرغم مما بين الإخوان وبين هذه الفئات من إشكاليات تاريخية وحالية)، وهذا ربما يناسب المقام الرئاسي الذي يسعى للتوافق والتصالح مع القوى المؤثرة على الرغم مما يكون قائما من المشكلات والالتباسات. والملحوظ أن لغة الجسد لديه وهو يثني على هذه الفئات كانت متوافقة مع اللغة اللفظية وهذا يعني درجة عالية من المصداقية في مدح هذه الفئات من رئيس ثوري كان لوقت قريب في صراع مع بعضها، ولكن ربما هو فصل ذلك البعض عن التيار الوطني العام والكبير داخل هذه المؤسسات الحيوية .
غلب على الخطاب كلمات أهلي أحبابي عشيرتي أبناء مصر جميعا شبابهم وشيوخهم، مسلميهم ومسيحييهم في خطاب توافقي تصالحي تطميني ربما ليؤكد فكرة أنه رئيس لكل المصريين وربما للرد على مخاوف بعض التيارات والطوائف التي تخشى استقطابه لجماعته أو لحزبه أو لتياره . وقد عدد محافظات مصر في خطابه وبدأ بالنوبة وسيناء وختم بالنوبة ربما ليؤكد انتماء هذه المناطق النائية واندماجها في النسيج المصري، ذلك الانتماء والاندماج الذي عانى هزات وأزمات بسبب الممارسات الأمنية الغاشمة للنظام السابق.
وعدد كل الطوائف المهنية للشعب المصري، فلاحين وموظفين، أساتذة جامعات ورجال أعمال، عاملين في القطاع العام والخاص، تجار سواقين (أتوبيس، قطار، تاكسي، تكتك)، حرفيين، أصحاب مهن، أصحاب دكاكين، أصحاب أكشاك، من يسترزقون على الطريق، رجال السلك الدبلوماسي والمخابرات العامة. ذكر هؤلاء جميعا بكل التقدير والحب والرعاية. ولكن الفئة الوحيدة التي لم يذكرها هي فئة الإعلاميين، وقد يبدو هذا سهوا أو نسيانا غير مقصود، ولكن الغالب أنه رد فعل لما قام به الإعلام من حملة شرسة في الشهور الأخيرة للهجوم على التيار الإسلامي بوجه عام وعلى الإخوان بوجه خاص، تلك الحملة التي ربما كان بعضها موضوعيا ومركزا على بعض أخطاء الإخوان في المرحلة الانتقالية، وكان البعض الآخر شرسا ومتجنيا وموجها لتشويه صورة الإخوان وشيطنتهم لحساب قوى الثورة المضادة ولحساب المرشح المنافس. وقد قاد هذه الحملة إعلاميون تابعون لأجهزة أمنية، وإعلاميون مستأجرون، ولكن للأسف تورط فيها (بوعي أو بغير وعي) إعلاميون وطنيون اندفعوا للهجوم الشرس على أخطاء الإخوان وهم لا يدرون أنهم كادوا يمكنون لقوى الثورة المضادة من الوصول إلى سدة الحكم وإعادة النظام القديم .
وكان ثمة إلحاح من الرئيس مرسي على أنه رئيس لكل المصريين، وأنه يقف على مسافة واحدة من الجميع، وثمة ثناء على مصر الحبيبة التي بهرت العالم بثورتها وبتضحيات شبابها وبطوابيرها الانتخابية (وكأن الطوابير الانتخابية أصبحت من معالم مصر الحضارية) .
ونظرا للهجوم الإعلامي على الإخوان من ناحية انشغالهم بالمسار الانتخابي البرلماني عن المسار الثوري لذلك أعلن تأكيده على أن الثورة مستمرة حتى تحقق أهدافها، وأكد على استرداد حقوق الشهداء والمصابين، وربما كان هذا مهما لاستعادة الشرعية الثورية في هذه الظروف .
وكما هو متوقع من رئيس جاء من قلب التيار الإسلامي، فقد حفل الخطاب بالمفاهيم الدينية مثل "لقد وليت عليكم ولست بخيركم فأعينوني ما أقمت الحق والعدل فيكم .. أعينوني ما أطعت الله فيكم .. فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، وهو قول نسب لأبي بكر رضي الله عنه حين تولى الخلافة ونسب أيضا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وكان التأكيد على بناء الدولة المصرية الوطنية المدنية الدستورية الحديثة (وفق هويتنا ومرجعيتنا) دفعا لما أثير من شبهات إعلامية حول نية الإخوان في بناء دولة دينية، وفي نفس الوقت تأكيد على المرجعية الإسلامية لهذه الدولة .
وأخيرا فإن هذه تبقى كلمات أول رئيس منتخب لمصر ونحن في انتظار أفعاله، متمنين أن يظل على هذا التواضع والتجرد والقرب من الناس ومن الله، وأن لا يتحول بفعل المداحين والمنافقين إلى فرعون جديد نصنعه كما صنعنا مئات الفراعين في تاريخنا المصري.
اقرأ أيضا
مجلس العسكر وخراب ملطا / نداء أخير إلى كل شرفاء مصر / مازوخية المصريين: ثورة بالقانون وها.. ذي آخرتها! / ثورة... ثورة.... حتى النصر