أصبح الحديث عن الاكتئاب وعلاجه شائعاً في جميع الحضارات. تغير مفهوم الاكتئاب كمرض نفسي منذ الثمانينات، وواجه ولا يزال يتعرض للانتقاد الواحد بعد الآخر، على أنه مفهوم غربي تم حشره في مجال الطب النفسي لأغراض مادية وفكرية واجتماعية. رغم كل ذلك لا ترى طبيبا عاماً أو مختصاً في أي فرع من الفروع الطبية والجراحية من ليس له إلمام بالاكتئاب وعلاجه. تجاوز ذلك الوسط الطبي وأصبح كل إنسان يقبل بأن هناك حالة مرضية اسمها الاكتئاب يمكن علاجها، وإذا تمت مراجعة الطبيب فعليه بوصف العلاج الشافي من هذه الحالة. أقصر الطرق في عالمنا هذا تناول عقار ما لفترة زمنية محدودة وبعدها يمضي الإنسان في كفاحه مع الدنيا ومشاكلها. لكن طلب الشفاء أمر والحصول عليه أمر آخر.
نوبات الاكتئاب شائعة. في كل أسبوع وفي إنكلترا على سبيل المثال هناك 2% من الرجال و 3% من النساء يعانون من الاكتئاب. هذا الفارق في النسبة بين الجنسين يكون على أشده بين عمر 45 و 54 عاماً حيث يقترب انتشار الاكتئاب في النساء إلى نسبة 5% وفي الرجال إلى 2.5%. ينخفض انتشار الاكتئاب بعد عمر 55 عاماً في الجنسين ولكن الفارق بين الرجال والنساء لا يتغير. يمكن تفسير هذه الظاهرة إلى أن عمر 55 هو العمر الذي يستحق فيه العامل في القطاع الخاص والعام التقاعد من الخدمة مبكراً ويتسلم جائزة نهاية الخدمة ويتخلص من ديونه المادية. لكن هذه الأرقام ربما ستتغير في المستقبل لمن هم دون الخمسين من العمر بعد الإجراءات التقشفية ورفع عمر التقاعد من الخدمة في جميع أنحاء العالم الغربي.
لماذا نعالج الاكتئاب؟
بعيداً عن أرقام الانتحار التي تتراوح بين10 إلى 15% من المصابين بالاكتئاب وناهيك عن التدمير الشامل للذات البشرية أحياناً من جراء وباء العصر، فإن الاكتئاب بحد ذاته يؤدي إلى زيادة احتمال الإصابة بشتى الأمراض العضوية. الاكتئاب بحد ذاته يؤدي إلى زيادة مقدارها 60%11من نسبة احتمال الإصابة بأمراض القلب30 والسكري20. لا يتوقف الأمر عند ذلك ويتجاوزه إلى زيادة نسبة الوفيات في المرضى المصابين بالأمراض الخبيثة مع الاكتئاب27 وأمراض الرئة 6. بعبارة أخرى وجود أعراض الاكتئاب تزيد من نسبة الإصابة بأمراض جسدية ومن نسبة الوفيات. لذلك لا بد من وصف العلاج مع وجود أعراض الاكتئاب.
أهداف علاج الاكتئاب:
هناك مصطلحات غامضة في مجال علاج الاكتئاب تسبب أشكالاً للطبيب المعالج ومريضه في نفس الوقت، سواء كان العلاج الذي يتم تقديمه كلامياً أو عقاقير في جميع الأحوال فإن غاية الطبيب المعالج أو المعالج النفسي هو الحصول على هدأة Remission تامة من أعراض المرض. عندما نتحدث عن الهدأة نقصد بها عودة المريض إلى حالته الطبيعية ما قبل المرض.
إن التأكد من الوصول إلى مرحلة الهدأة ليس عسيراً لو كان الطب النفسي السريري يقيس الاكتئاب كما يقيس الطبيب العام ضغط الدم وتركيز السكر في الدم وغير ذلك. هناك يكمن الغموض في تقييم العلاج الذي يتناوله المريض. في نهاية الأمر لا بد من استشارة المريض والحصول على رأيه. العوامل 31 من وجهة نظر المريض المؤشرة إلى الهدأة هي:
1- الإحساس الإيجابي نفسياً مثل التفاؤل، الاندفاع والثقة بالنفس.
2- الشعور بالعودة إلى حالة طبيعية نفسياً.
3- شعور عام شخصي بالرفاهية.
4- العودة إلى ممارسة العمل بصورة طبيعية.
5- غياب أعراض الاكتئاب.
6- الشعور بالسيطرة العاطفية.
إن استجابة Response المريض للعلاج غير الهدأة منه. الاستجابة تعني التخلص من أعراض المرض بنسبة 50% على الأقل ولكن هذا لا يعني نجاحه ولا بد من الطبيب الانتباه إلى ذلك والسعي للحصول على الهدأة. إن استمرار بعض أعراض الاكتئاب حتى وإن كانت طفيفة 12,13 قد تؤدي إلى:
1- وجود عرض واحد يؤدي إلى التفكير بالانتحار في 2% ومحاولة الانتحار في 2.3% من المرضى.
2- وجود 2 أو أكثر من الأعراض الطفيفة تؤدي إلى التفكير بالانتحار في 4.1% ومحاولة الانتحار فعليا في 3.4% من المرضى.
3- وجود 2 – 4 أعراض طفيفة مع واحدة كبرى تزيد من التفكير بالانتحار في 5.8% ومحاولة الانتحار فعليا في 2.8% من المرضى.
يمكن ملاحظة الفارق بين المجموعة الثانية والثالثة والسبب في ذلك يعود إلى أن المريض المصاب بالاكتئاب قد لا يقوى على محاولة الانتحار من جراء الخمول الذي يصيبه على عكس المريض المصاب بأعراض أقل شدة.
ما يعنينا في هذا الامر أن لا مفر من السعي إلى الوصول إلى الهدأة وعدم الرضى باستجابة المريض إلى العلاج، رغم أن هذه الهدأة قد لا تحدث في 33% من المرضى على أقل تقدير. من هنا نتطرق إلى مراجعة الحواجز المانعة للشفاء من الاكتئاب.
حواجز ضد الشفاء من الاكتئاب:
هنالك العديد من الأبحاث التي تناولت دراسة هذه الحواجز ويمكن تلخيصها كالآتي:
1- أزمات الحالة 8 وعدد نوبات الاكتئاب السابقة 15 . كل ما طالت الحالة وزاد عدد النوبات السابقة 10 كلما تضائل الوصول إلى الهدأة.
2- وجود أعراض نفسية أخرى وخاصة القلق 11. إن وجود هذه الأعراض الإضافية لا تزيد فقط من معاناة الإنسان وإنما تؤدي به إلى استعمال عقاقير إضافية، وهذه بدورها تؤدي إلى زيادة في أعراض جانبية ومعاناة أكثر.
3- وجود اضطراب الشخصية24 تم تشخيصه سريرياً. من الضرورة أن يكون الطبيب حذراً في استعمال هذا التشخيص لتبرير عدم استجابة المريض للعلاج لأن الاكتئاب بحد ذاته قد يؤدي إلى تغيير ملحوظ في شخصية الفرد.
4- أعراض ألم جسدي3 الشكوى من الألم بأنواعه شائعة في الاكتئاب، ومن جرائها قد يتم إخضاع المريض لأكثر من فحص مختبري. من المستحسن حسم هذا الأمر بصورة علمية ومهنية دون تحويل المريض من أخصائي إلى آخر وتعريضه لفحوصات مختبرية لا فائدة منها.
5- سوء المعاملة في مرحلة الطفولة 22. إن تعرض الفرد في طفولته إلى سوء معاملة الوالدين وتجارب تحرش جنسي في البيت والمجتمع تترك آثارها السلبية على شخصية الإنسان وتجعله هشاً غير قادراً على مقاومة الضغوط الاجتماعية. ربما لا يستطيع المعالج النفسي تغيير الماضي ولكن لا بد من توجيه انتباه المريض إلى هذا العامل وضرورة تجاوز ذكريات مؤلمة.
6- المعاناة الاجتماعية وظروف اقتصادية قاهرة 25. هناك أكثر من موقع نفسي تلاحظ فيه إنكار تأثير المعاناة الاجتماعية والظروف الاقتصادية القاهرة على الاكتئاب، وهذا كلام غير دقيق. إن الظروف الاقتصادية القاهرة لا تؤدي فقط إلى انخفاض عتبة للإنسان والابتلاء بالاكتئاب فحسب ولكن إن داهمه فإن احتمال الشفاء منه أقل بكثير من غيره من المرضى.
7- صفات شخصية عصابية متعددة 22. ليس هناك إنسان لا يحمل عقدة عصابية ما في حقيبته أو جيبه. من الناس من له عصابة في التواصل مع البشر، الطعام، الهاجس بعد الآخر وغير ذلك. يتم تفريغ هذه العقد مع الوقت، ولكن إن حدث والإنسان لم يتجاوز هذا العصاب أو يرفض التخلص منه فإن الاكتئاب يكون أكثر شدة عليه من غيره.
8- مواقف مختلفة في التعامل مع الضغوط النفسية والاجتماعية والمهنية 26. لكل إنسان طريقته في التعامل مع الضغوط التي لا حصر لها في الحياة وإنما في كل يوم يعيشه. هناك من يقول إن على الإنسان الانتباه لهذه الضغوط والعمل أولاً أن لا يدعها تؤثر عليه نفسياً. ثانياً عليه السعي لمعالجتها.
9- غياب السند الاجتماعي 24. لكل إنسان وعاء يحميه من مصائب الدنيا وضغوطها ويعمل هو كذلك كوعاء يقي غيره من الظروف القاهرة. في غياب الوعاء الذي يحتوي الإنسان تراه عرضة للاكتئاب والأمراض النفسية الآخرى.
10- عدم وجود زوج أو زوجة24. هذا العامل تم إثبات فعاليته لا في حماية الإنسان من الاكتئاب وإنما إن وجد يعجل في شفائه.
11- استعمال مواد كيمائية محظورة 10, 11 مثل الحشيش. هناك الكثير من يشجع الآخرين على اللجوء إلى استعمال الحشيش وغيره للانفصال من الدنيا وتجاوز الظروف النفسية القاهرة. متى ما حدث ذلك فإن احتمال الشفاء من الاكتئاب لا تتضاءل فحسب وإنما يتم إضافة الإدمان إلى مشاكل الفرد.
12- تكرار الحوادث الحياتية المجهدة 15, 16 و 17 في جميع المجالات. الحوادث الحياتية لا نهاية لها مثل تغيير العمل، الزواج، الطلاق ورحيل الأحبة من الدنيا. هناك من الناس ترى قسوة الدنيا عليهم بتكرار مثل هذه الحوادث وخلال فترة زمنية قصيرة. ترى البعض يفقد القريب والصديق بعد الآخر فلا عجب أن تراه يستسلم للاكتئاب والرحيل من الدنيا.
عوامل خطر الإصابة بنوبة اكتئاب16:
يحدث بعض الارتباك عند الحديث عن الحواجز المعيقة للحصول على الهدأة من الاكتئاب وعوامل خطر الإصابة بنوبة اكتئاب. لذلك لا بد من سرد هذه العوامل التي تشتبك أحياناً بما تم التطرق إليه أعلاه....على مدى عمر الإنسان يمكن تصنيف العوامل التي تؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب خلال سنة من عمر الإنسان كما يلي:
1- مرحلة الطفولة:
• رحيل الأم أو الأب.
• التحرش الجنسي.
• غياب الحنان الأبوي في البيت.
• عوامل وراثية.
2- بداية المراهقة:
• اضطراب السلوك.
• ظهور أعراض القلق.
• ضعف إكبار الذات.
• الميل إلى العصابية.
3- نهاية المراهقة:
• تعاطي المواد الكيماوية المحظورة.
• سند اجتماعي ضعيف.
• صدمة حياتية.
• مستوى تعليمي ضعيف.
4- البلوغ:
• الطلاق.
• تاريخ ماضي لنوبة اكتئاب كبرى.
5- العام الأخير قبل الاكتئاب:
• مشاكل زوجية.
• حوادث حياتية مجهدة.
• مشاكل مهنية واجتماعية.
لا بد من الاستفسار عن هذه العوامل لدراسة الأسباب المؤدية للاكتئاب واحتمال تكرار نوبات الاكتئاب.
الاستنتاج:
1- لا بد من السعي إلى الوصول إلى مرحلة الهدأة في علاج الكآبة.
2- ما يقارب الثلث أو أكثر من المرضى لا يصلون إلى مرحلة الهدأة.
3- هناك عوامل عدة على مدى حياة الإنسان قد تقيع وصوله إلى مرحلة الهدأة، وعوامل تزيد من خطر إصابته ثانية بنوبة اكتئاب.
4- لا بد للطبيب المعالج الانتباه إلى هذه العوامل ومحاولة معالجتها إن أمكن أو تنبيه المريض إليها.
المصادر
1. Adult Psychiatric Morbidity in England 2007 NHS information centre for health and social care 2009
2. Barth J et al. Psychosomatic Medicine 2004;:66:802-13
3. Bair MJ et al. Psychosomatic med 2004;66:17-22
4. Cuijpers P and Smit F. J Affect Disord 2002;72:227-236
5. DeVeaugh-Geiss AM et al. Pain Medicine 2010;11:732-741
6. de Voogd JN et al. Chest 2009;135:619-625
7. Fava M et al. Am J Psychiatry 2008;165:342-351
8. Fournier JC et al. J Consult Clin Psychol 2009;77:775-787
9. Holma KM et al. Am J Psychiatry 2010;167:801-808
10. Howland RH et al. Ann Clin Psychiatry 2008;20:209-218
11. Howland RH et al. Drug Alcohol Depend. 2009;99:248-260
12. Judd LL et al. J Affect Disord 1997;45:5-17
13. Judd LL et al. Am J Psychiatry 2000;157:1501-1504
14. Katon W et al. J Gen Inern Med 2008;23:1571-1575
15. Kendler KS et al. Am J Psychiatry 2000;157:1243-1251
16. Kendler KS et al. Am J Psychiatry 2002;1591133-1145
17. Kendler KS et al. Am J Psychiatry 2006; 163:115-124
18. Kennedy N & Paykel ES. J Affect Disord 2004;80: 135-144
19. Lin EHB et al. Diabetes Care 2010;33: 264-269
20. Mezuk B et al. Diabetes care 2008; 31:2383-2390
21. Miller IW et al. J Clin Psychiatry 1998;59:608-619
22. Mulder RT. Am J Psychiatry 2002;159:359-371
23. Nanni V et al. Am J Psychiatry 2011 epub ahead of print
24. Newton Howes G et al. Br J Psychiatry 2006;188:13-2
25. Ostler K et al. Br J Psychiatry 2001;178:12-17
26. Pedrelli P et al. Psychiatry Res 2008;161:302-308
27. Satin JR Cancer 2009;115: 5349-5361
28. Thomson W. J Affect Disord 2011;130:60-65
29. Watkins KE et al. Am J Psychiatry 2006;163:125-132
30. Wulsin LR and Singal BM. Psychosomatic Medicine 2003;65:201-10
31. Zimmerman M et al. Am J Psychiatry 2006; 163:148-150
واقرأ أيضاً:
حكاية الماس والماسا؟ ضد الاكتئاب والوسوسة / حكاية الماس والماسا؟ الآثار الجانبية / حكاية الماس والماسا: علاج الآثار الجنسية / حكاية الماس والماسا أعراض الانسحاب(2)