كنت قد كتبت هنا من شهرين (بتاريخ 2/6/2011) بعنوان "لم يبق إلا أن يدخلوا امتحان السلطة"، وقد بينت في هذا المقال وفى غيره إن ما فعلته مليونيات التحرير هو نوع من "الديمقراطية المباشرة"، وهي التي تصلح للمجتمعات الصغيرة التي يمكن فيها جمع كل الناس معا لأخذ رأيهم مباشرة دون حاجة إلى من ينوب عنهم، وهذا ما كان يحدث مثلا في مجتمع أثينا قبل الميلاد، فهي "ديمقراطية كل الناس"، دون إنابة، وهي ليست بلا عيوب، ففيها يسود الوعي الجمعي الخطر الذي يخطئ أسهل، ومن أمثلة ذلك الحكم بإعدام سقراط أو تكفير الحلاج فالحكم بشنقه..إلخ،
ما حدث عندنا بعد البداية الناجحة لهذه الديمقراطية المباشرة هو أن الشباب استحلاها، ثم شارك فيها معظم الناس على مختلف هوياتهم، ثم تلوثت بغير أهلها، ثم عاد الفرقاء يتبادلون احتلال ميدان التحرير، مرة ليواجهوا الحكومة، وأخرى لينذروا المجلس العسكري، وثالثة ليحتجوا على أحكام القضاء، ورابعة ليفرضوا تفاصيل التفاصيل لإعادة التشكيل محددين بسرعة مذهلة من يبقى ومن يرحل...إلخ، قلت في نفسي لعله خيرا، فلكل آلية عيوبها ومزاياها.. ثم تحول الأمر أخيرا إلى نوع من المنافسة الحقيقية، وقلت في نفسي أيضا أنه لا مانع من حيث المبدأ، فليس من حق فريق دون الآخر أن يتصور أنه الممثل الأوحد لرأى أغلب الناس، وعلى من يقدر أن يعلن للناس حجم حضوره بعدد الذين يلبون دعوته إلى ميدان التحرير أن يفعل مثله مثل غيره، ربنا سبحانه وتعالى سمح بذلك لكنه كان هو الحكم العدل، (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ..)
أما وسيلتنا نحن البشر فهي بالكثرة والتكاثر، "الكُتْرة تغلب الشجاعة"، فما بالك إذا اجتمعت الكثرة والشجاعة والتنظيم والتحريض معا، مع التخويف بهجمة على الإسلام وصرخات الاستنقاذ تدوي في داخل كل مندفع فاهم أو غير فاهم أنه : "وا إسلاماه"، وما دام هذا الواقع، فهو الواقع، وقد وصلني منه دلالات وتوضيحات أبدأ بذكر بعضها فيما يلي:
أولا: عرف الجميع أن هناك فرقا بين اجتماعات الموائد النقاشية، واتفاقات القادة والساسة، وبين عموم وعى عامة الناس، وزخم حركية الشارع (وهي الجاهزة لملأ صناديق الانتخاب دون تزوير ظاهر)
ثانيا: انتقل الإخوان (أو الإسلاميون عامة) إلى الصراحة وكشف الأوراق، ويبدوا أنهم اطمأنوا، فلم يعودوا مضطرين إلى التكتيك المرحلي، فأعلنوا استراتيجيتهم (واللي عاجبه)، وعندي أن هذا أفضل لهم من اتهامهم بالتحايل والمناورة.
ثالثا: وصلت الرسالة إلى الفريق الآخر (وأنا لا أعرف لهم اسما واحدا، فليكن اسمهم المدنيون، أو التنويريون، أو العلمانيون، أو الثوار.... إلخ)، بأنهم ليس من حقهم أن يحتكروا الرأي لمجرد أن لهم فضل البدء، أو أنهم يرون أنهم اقرب إلى الحداثة والمعاصرة والثورية..ومثل هذا الكلام..الخ
رابعا: تأكد أن آلية التجمهر والتظاهر، وأحيانا الاعتصام، هي العامل الضاغط على من بيده الأمر فظهر لنا اهتزاز ما هو "دولة" إن وجدت أصلا، وتعرّى غياب الحسم في اتخاذ القرار.
خامسا: كانت عينة مليونية هذه الجمعة (29/7/2011) مؤشرا لتوقعات محتملة جدا عن نتائج الانتخابات القادمة مهما طال التأجيل أو اختلف التركيب، أو كتبت المقالات أو اشتد التحذير.
وبعد:
لنفترض –بناء على ما لاح أو تأكد - أن نفس المزاعم (أو الحقائق!!) التي اختزلت الموقف السياسي إلى إنقاذ دين الإسلام بدءا بمصر، ولعنة الله على الكافرين، نشطت أكثر فأكثر، خلال ستة أشهر مثلا فإن الأرجح جدا، حتى بعد الابتعاد عن الديمقراطية المباشرة في ميدان التحرير، أن الناخب المسلم البسيط، في طول البلاد وعرضها سوف ينتخب هؤلاء الناس ليس بالضرورة لأنهم الأفضل أو الأقدر، (مع أنه قد يثبت أنهم كذلك) ولكن لأنه ببساطة يدافع عن دينه، ليكن، وأنا لا أريد بهذا أن تكف القوى المنافسة عن بذل الجهد والحفاظ على الأمل، ولو استعدادا للجولة القادمة (بعد أربع سنوات أو أربعين)، وتماديا في الخيال، أو في قبول الواقع، سوف أفترض أن هذا تم بمباركة الجيش أو حتى برضا أمريكا، فإنه في جميع الأحوال علينا أن ندبر أمورنا، لصالح مصر، ولصالح الإسلام، ولصالح الحق، بدءا من هذا الواقع الجديد.
الإسلام أساسا – مثل أي دين لم يتشوه– طريق تنويري من عند الله إذا ما تخلص من الوصاة ومحتكري تأويله، هو مشروع حضاري إبداعي رائع، وهذا ما لا تريده أمريكا ومَنْ ورائها وحولها من القوى المالية المتوحشة، هي لا تريد للإسلام الحقيقي أن يأخذ أية فرصة حقيقية لإصلاح ما تفسد هي والقوى التحتية التي تخدمها، هي تستعمل الإسلام (مثل مبادئ أخرى كثيرة منها الديمقراطية) من الظاهر كما استعملته طول عمرها بدءا من الأربعينات ضد انتشار الشيوعية، وحتى تجسد في استعمالها بن لادن وأمثاله وجماعته في أفغانستان، وربما هي تستعمله – كما تتصوره – في مصر الآن، وربما في السودان، ولا أقول في فلسطين (لست متأكدا)، لكنها بمجرد أن تتبين أن الإسلام الحقيقي هي غير ما تصورت، وأنه قادر على الاستقلال والمنافسة، تنقلب عليه، وهات يا اتهامات بالإرهاب، وبالتخلف، وبالانغلاق، ....إلخ.
إذا ما ولي الإسلاميون السلطة عندنا، علينا أن نساعدهم أن يتبينوا حقيقة هذه اللعبة الجارية هكذا عبر العالم، عليهم أن ينقذوا الإسلام الذي أنزله الله من الإسلام الذي أصبح أداة لغير ما أنزل الله، بل أحيانا كثيرة، أداة لعكس ما أنزل الله، الإسلام – مثل أي دين لم يتشوه– هو تَنزِيل من رب العالمين، يهدي البشر للتي هي أقوم ليكونوا بشرا، من قال أن الدين ليس له علاقة بالسياسة إلا خوفا من مواجهة السلطة الدينية الطاغية أن تستعمله لغير ما أنزل له، إن الذين يستبعدون الدين من السياسة لهم حق تاريخي في مواجهة ممارسات كنيسة العصور الوسطى، وكثيرين من الولاة المسلمين الكفرة، لكنهم يستعملون الدين الداخلي بكل خبث لصالح ما ليس دينا.
العالم كله بما آل إليه الآن أصبح في أمس الحاجة لمنظومة قيم مختلفة، عن التي تروجها أمريكا، وحتى عن التي تروجها الصين، ومن وراءهما منظومة تبني حضارة مختلفة وليست نقيضة ولا منفصلة، والإسلام الأصل يَعِدُ بإسهام تكاملي وتكافلي في تشكيل هذه الحضارة الجديدة التي يمكن أن تنقذ البشرية من تهديدات الانقراض التي تتزايد باضطراد مرعب لخدمة العولمة المالية الكانيبالية (آكلة لحوم البشر). وأنا حين نبهت إلى ضرورة نقد الحل الغربي الاستسهالي الذي يفضها سيرة بتقسيم الحياة بين الله والجميع (الدين لله والوطن للجميع!)، واقترحت بديلا يقول بأن "الدين لله والوطن لله والجميع لله"، لم يرض عني المتنورون، كما لم يفهمني الإسلاميون.
العلمانية بدعة اضطرارية لمواجهة السلطات الدينية القهرية لكن آل بها الحال إلى تهميش الدين كله أو اختزاله إلى العلاقات الدمثة ومجرد تجنب الإيذاء، وفي رأيي أن هذا جهل بالطبيعة البشرية، وبدور الأديان طريقا للإيمان في تنميتها، يتساوى في ذلك عندي من يختزل الدين إلى نشاط تسكيني يمارس اختياريا في عطلة نهاية الأسبوع، ومن يختزله إلى الشريعة كما فهمها وفسرتها له المعاجم جنبا إلى جنب مع مخاوفه الشخصية، المسلم في طريقه إلى الله، أمامه فرصة رائعة أن يثري الحياة الإنسانية ويحافظ على النوع البشري، ويساهم في إنقاذ البشرية، فرحة المسلم الحقيقي لا تكون بأن يزيد عدد المسلمين بضعة نفر حين يشهر إسلامه مطرب أو مُطلقة أو حتى عالم أو فيلسوف، ولكن فرحته المسئولة هي حين يدفعه دينه أن يساهم بإضافة إبداعية تستهدف سبر غور الطبيعة البشرية كما خلقها الله، لتنطلق بها ومعها إلى ما وعد به الله .
هذا بالنسبة للمسلم المواطن العادي، فما بالك بالنسبة للمسلم الحاكم؟ إن عليه أن يتعرف على حقيقة الإسلام طريقا إلى الإيمان إلى وجه الحق تعالى، هذا هو الموقف الذي يسمح لنا أن نفخر بديننا لو نجحنا من خلال استلهام مقاصده أن نساهم في إضافة تنويرية تطورية حقيقية، اقتصاديا وإبداعا وحضارة وتنويرا، إضافة يحتاجها كل الناس عبر العالم في مواجهة الشياطين القتلة الذين يهددون البشر بالانقراض لمجرد اكتناز مال أكثر، ورفاهية أعلى، أما أن يستعمل الحاكم الذي أتى عن طريق الإسلام لتثبيت مركزه، وتأكيد تفوق أهل دينه بمجرد الانتماء له، فعندك لو سمحت!
ليكن "الإسلام هو الحل"، ولكن كبداية نحو الإيمان، وخير كافة البشر، ماذا وإلا سنظل في الذيل مع تغير اللافتة.
وللحديث بقية.
اقرأ أيضا:
تسابيح رمضانية / رمضان بين الامتناع والإبداع / رمضان، والإبداع، والثورة، والواقع