شهد مخيم اليرموك الفلسطيني الواقع جنوبي مدينة دمشق -قبل أيام خلت- حركة استثنائية، وغير اعتيادية، في ظل الأزمة الوطنية الكبرى التي تعتمل داخل سوريا الشقيقة، عندما توافدت إليه أعداد كبيرة من أبناء المناطق المحيطة به من الأخوة السوريين من أحياء مجاورة، وصفت بأنها مناطق توتر ملاصقة للمخيم من كل الجوانب (الميدان، الحجر الأسود، التضامن، القدم ..) ومجاورة له... مخيم اليرموك، هب بشيبه وشبابه، وفتح القلوب والصدور لجميع من دخل شوارعه وحاراته، وشكّل لجانه الشعبية خلال فترة قصيرة جداً، والتي قامت على الفور بتأمين السكن والإقامة للناس القادمين إليه في مدارس وكالة أونروا وفي البيوت وغيرها، مع تقديم كل ما هو مستطاع من أسباب الحياة لهم جميعاً... مخيم اليرموك، وأبناؤه الشجعان، وأهله الطيبون، استقبل جميع من قدم إليه "استقبال الأهل للأهل" دون التفات لأي معنى أو لأي موزاييك. فهو مخيم، وبالأحرى تجمع فلسطيني استثنائي وطني وقومي بامتياز، كان وما زال في صدارة العمل الوطني الفلسطيني، وفي حضور أبنائه وفي دور مواطنيه في الأزمة السورية، حيث تسود لغة "الحياد الإيجابي" واليد الممدوة للجميع في موزاييك المجتمع السوري من أجل بلسمة الجراح، والدعوة لسوريا وشعبها بالحفظ والأمان والسلامة... فما الذي يميز هذا المخيم الفلسطيني، وما الذي جعل منه يحتل مكاناً استثنائياً في الذاكرة الوطنية الفلسطينية؟
المخيم الاستثنائي
نبدأ القول بأن مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين يملك متسعاً حياً، نابضاً، متألقاً، وافراً وغنياً، في الذاكرة الفلسطينية، وفي موسوعة الكفاح الوطني الفلسطيني المعاصر، وفي مسيرة المقاومة الفلسطينية. كما يملك خصوصية وفرادة ميّزته على الدوام، فهو مخيم المعسكر الأول للفدائيين الفلسطينيين ولحركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الشعبية/القيادة العامة وغيرها من فصائل العمل الوطني الفلسطيني. كما هو مخيم البندقية الأولى، والشهيد الأول، والبلاغ العسكري الأول، ومقبرة الشهداء الأولى التي دفن تحت ترابها القوافل الأولى من شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة، وعدد كبير من قادتها ومفجريها.
مخيم اليرموك، ليس مكاناً جغرافياً بحتاً، أو موئلاً لمجموعات أو كتل بشرية من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، إنه جزء أساسي من التاريخ والفعل، الذي يلخص دراما النكبة الفلسطينية وتحولاتها، كما يلخص سطوة وقوة وحضور الفلسطيني، كما يلخص إنسانية ونبل هذا الشعب الذي رمت به أقدار النكبة خارج وطنه التاريخي فلسطين.... رمزية مخيم اليرموك، باتت موجودة بشكل مستديم في سردية العمل الكفاحي للمسيرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وللوطنية الفلسطينية. فقد تحوّل هذا المخيم إلى مدينة عامرة بمن فيها، وصورة حية عن فلسطين، فكل من عاش بين أزقته وشوارعه، وكل من سكنه وساكن أهله ولو يوماً واحداً، عشقه، وما انفك عشقه عنه حتى الآن.
إنه المخيم الذي ينبض في الحياة ليل نهار، لا تعرف صباحه من مسائه، بأسواقه العامرة المدنية، وبنواديه الثقافية ومراكز المؤسسات الوطنية الفلسطينية المنتشرة على امتداده، والمجتمعية المحلية ومراكز وكالة أونروا والهيئة العامة للاجئين، ليضم بين ثناياه العدد الأكبر من مثقفي فلسطين وكتابها، وأُدبائها، وفلاسفتها، ومنظريها، ومناضليها، وكوادرها، وفعالياتها، وحتى أطبائها، ومهندسيها، ومدرسيها، ومشاكسيها.
فهو أكبر تجمع فلسطيني خارج فلسطين على الإطلاق، إذ تقارب أعداد المواطنين الفلسطينيين داخله بحدود ربع مليون مواطن فلسطيني من أصل أكثر من ستمائة وخمسين ألف مواطن فلسطيني مقيم فوق الأرض السورية، منهم ما يقارب النصف مليون لاجئ منذ العام 1948 وهم من يطلق عليهم اسم "فلسطيني سوري" أو "فلسطينيو سوريو ـ سوريو فلسطين". حيث يتمركز اللاجئون الفلسطينيون في ما يعرف بـ(لب المخيم) بينما يسكن فيه ويحيط به أكثر من مليون مواطن سوري من مختلف مناطق سوريا من أقصاها إلى أقصاها.
التآخي السوري الفلسطيني
لقد صنع الفلسطينيون في مخيم اليرموك، مدينة جديدة باتت كأنها مدينة عريقة في قدمها وتاريخها، تسود فيها حالة التآخي والاندماج الهائل بين أبناء الشعبين الشقيقين التوأمين السوري والفلسطيني. حيث الحياة المشتركة بكل جوانبها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية... إلخ.
مع وجود حالات واسعة من الزواج المتبادل بين أبناء وبنات الشعبين الشقيقين، والأهم في هذا المجال أن الزواج المتبادل يتخطى المنطق الطائفي، لنجد بأن المئات من الشبان الفلسطينيين يقترنون بفتيات سوريات من كل المناطق والطوائف من موزاييك المجتمع السوري، مجسدين بذلك رؤية وطنية وقومية وإنسانية وأخلاقية وحتى إسلامية تتعدى منطق الطوائف المقيت، وتعطي صورة ناصعة عن الشعب الفلسطيني.
وفي التآخي والاندماج، ومنذ العام 1948، ومنذ صدور مرسوم المساواة بالحقوق والواجبات (مع احتفاظ اللاجئ الفلسطيني بهويته الفلسطينية)، يذهب السوري والفلسطيني معاً إلى المدرسة، مدرسة أونروا للفلسطيني، ومدرسة الحكومة التابعة لوزارة التربية للفلسطيني والسوري... ويذهبان للجامعات السورية معاً بفرص تكافؤ واحدة، ويتقدمان للمسابقات الوظيفية معاً وبفرص تكافؤ واحدة، ويذهبان لخدمة العلم (خدمة الجيش) معاً، في مواقع واحدة وفي كليات ومدارس عسكرية واحدة، وفي مهاجع وأسرة نوم وقاعات تدريب واحدة، ليصار بعضها إلى نقل وفرز الفلسطينيين بمعظمهم إلى جيش التحرير الفلسطيني بعد إنجاز الدورات التدريبية، ويبقى منهم البعض ممن لا يتوفر لهم من اختصاص عسكري في جيش التحرير ليخدموا (العسكرية) في القطاعات العسكرية السورية وخاصة منهم الجامعيين (ضباط مجندين).
وفي التآخي السوري الفلسطيني، كان السوري على الدوام معنا في قواعد ومقرات ومكاتب ومؤسسات المقاومة والفصائل الفلسطينية، منذ العام 1965، مدوناً شهادة كبيرة في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني الذي باتت فيه أعداد الشهداء السوريين تقارب ثلث شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة بعموم فصائلها المعروفة.
هذا التآخي الودود واللصيق، كان من المنطقي ومن الطبيعي أن تتوالد انطلاقا منه، تلك الهبة الهائلة والسريعة جداً، من قبل أبناء مخيم اليرموك وشبابه وشاباته وحتى من نسائه وكبار السن فيه، الذين انتشروا في الشوارع، معلنين تشكيل اللجان الشعبية، من أجل مساعدة إخوانهم السوريين من الذين اتجهوا نحو المخيم من المناطق المحيطة به والتي باتت تعرف باسم مناطق وبؤر التوتر خلال الأيام الماضية.... فالشعب الفلسطيني لن يكون جاحداً أو ناكراً، ولا يمكن له أن ينسى اليد البيضاء لسوريا والشعب السوري، الذي استقبل جزءاً كبيراً منه عام النكبة، وشاركه بالمأكل والملبس والماء والدواء والعمل.
اليرموك وحارة الفدائية
لقد تأسس مخيم اليرموك عام 1954، بمبادرة من شخصيات وطنية سورية، عندما قامت الهيئة العام للاجئين الفلسطينيين العرب التي تم تشكيلها عام 1949 لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا وبالتعاون مع وكالة أونروا، بإعادة إسكان اللاجئين الفلسطينيين، بنقلهم من مساجد وجوامع دمشق التي أقاموا فيها لحظة القدوم إلى سوريا عام النكبة، وهي المساجد الموجودة في أحياء الميدان، والشاغور، وباب سريجة، وساروجة والعقيبة، والعمارة، والقيمرية، وقبر عاتكة، وشارع بغداد، وغيرها من أحياء دمشق العريقة ومساجدها القديمة التاريخية.
قام مخيم اليرموك في موقعه الحالي في مكان كان يُعرف بمنطقة "شاغور بساتين"، منطلقاً من الحارة الأولى فيه التي تسمى الآن "حارة الفدائية" باعتبارها الحارة التي انطلقت منها الدفعات الأولى من قوات الفدائيين الفلسطينيين، والحارة الأولى التي سقط منها أكثر من خمسة عشر شهيداً، من أبناء الجليل شمالي فلسطين.
يعود أصل سكان مخيم اليرموك في سوريا إلى مناطق الشمال المحتل عام 1948 في الجليل وعكا وصفد وحيفا وطبريا ومنطقة غور الحولة، وقليل منهم يعود إلى مدن يافا واللد والرملة ومناطق قطاع غزة.
مخيم اليرموك، الشامخ الآن في استقبال واحتضان أشقائه السوريين القادمين إليه من المناطق المحيطة به، يكتب مدونة جديدة في سفر العمل الوطني الفلسطيني، وفي إخلاصه وحبه لشعب ولبلد عاش على ترابها وأكل من خيراتها، وشرب من مائها، وتعلم في مدارسها وجامعاتها، منذ اللجوء القسري عام 1948.
على جدران مخيم اليرموك، وفي شوارعه رسم الفلسطينيون مآسيهم، مؤرخين بخربشات أقلامهم دراما اللّجوء، فتدمع جدران المخيم عند التحليق عليها. وعلى جدران المخيم نشروا ملصقاتهم، وصور شهدائهم. ورسموا على جدران مدارس أونروا (يوجد 38 مدرسة تابعة لأونروا في اليرموك) لوحات العودة إلى حيفا ويافا وعكا وصفد وطبريا واللد والرملة، العودة هناك إلى الوطن السليب، وإلى الهوية التي ما زالت تعيش في وجدان كل لاجئ فلسطيني.
إن تلك الكلمات ليست شاعرية، أو لغة خشبية أو متقادمة، كما يعتقد البعض، إنها كلمات "قوة الحق في مواجهة حق القوة" تتأجج كل يوم عند تلك الأجيال التي توالدت في صفوف اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، لتكسر ما قاله وزير خارجية الولايات المتحدة فترة الخمسينيات من القرن الماضي جون فوستر دالاس "الكبار يموتون والصغار ينسون".
واقرأ أيضاً:
في الثورة السورية كيف وصلنا إلى المجازر الحالية؟3 / الرؤية الثورية / الملتحون يفعلونها في دول الربيع / السياسة والتياسة .. أيهما أكثر حظا في مجتمعنا ؟