في صدر الإسلام كان الناس يعتبرون رمضان فرصة لتحصيل ما فاتهم من بناء آخرتهم بانشغالهم طوال العام في أمور الدنيا وطلب الرزق والمعايش, ولذلك نقل لنا التاريخ عن الصحابة والتابعين صوراً قد يكون فيها نوع من المبالغة في نظر البعض من الإكثار في الأعمال التعبدية من صيام وقيام وصدقات خلال هذا الشهر. ليس مستغرباً أن يظنوها مبالغة فالأمر نسبي, فطبيعة الزمان اختلفت وحجم ما يشغل الناس من أمور دنياهم وسرعة إيقاع الحياة حدث فيها تغييرات كبيرة وربما جذرية. فما نراه اليوم مبالغة يصعب إن لم يكن مستحيلاً فعلها الآن كان أمراً سهلاً نسبياً وممكن جداً ببعض الاجتهاد في ذلك الزمان القديم. فطبيعة الالتزامات الحياتية اليوم تجعل من المتعذر مثلاُ على شخص ما أن يختم القرآن مرتين في اليوم أو أن يقضى كل ليل رمضان متهجداً أو .. أو .. إلخ
إن العبرة هنا تبقى بالكيف وليس بالكم.. فالعبرة الحقيقية هي في اجتهاد الإنسان في الإقبال على ربه خلال هذا الشهر الكريم قدر الممكن والمستطاع وضمن حدود المعقول الذي لا يؤدي إلى الإضرار بمصالح العباد المتعلقة في رقبة المرء, ولا يؤدي إلى إحداث الشلل الكامل في حياة الإنسان, حتى تتوقف الحياة كاملة ويعجز الفرد عن الإيفاء بالتزاماته الطبيعية نحو نفسه وأسرته ومجتمعه.. فالاجتهاد فيها أيضاً نوع من التعبد لله إن خلصت فيه النية لله..
لكن العجيب أن ما يحصل في رمضان من الغالب من الناس اليوم هو العكس تماماً !! الطعام في رمضان أجود ما يمكن, والتكلف فيه واضح, والتنوع في الأصناف على المائدة يشعرك بالتفنن في التلذذ بذلك.. خيم السهرات الرمضانية وما تشهده من معازف وحفلات صارت تنافس في قدسيتها لدى البعض صلاة التراويح في هذا الشهر الكريم, ذلك الكم الهائل من المسلسلات التي تعرضها القنوات المختلفة يكاد يفوق ما يعرض طوال العام حتى صار رمضان هو الموسم الرئيسي لتجار هذه المهنة بإقرارهم الصريح بذلك.. إلى آخر ما نراه من مظاهر تسير على نفس النمط..
تساءلت بيني وبين نفسي عن سبب هذا الانقلاب العجيب في الآية.. كيف يحدث هذا وشياطين الجن مصفدة في رمضان؟ أكل هذا فقط من فعل شياطين الإنس؟؟ بالتأكيد إن لهم دوراً مهماً لا ينكر ولكن حجم الاستجابة والتفاعل الذي يلقونه في غياب شياطين الجن في رمضان يظل غريباً وغير مفهوم ويحتاج إلى أن نتساءل مرة أخرى .. لماذا؟
ليست هذه المرة الأولى التي أسأل نفسي فيها هذه الأسئلة .. على مر سنوات طويلة كررت نفس الأسئلة وناقشت ما يجول في بالي مع الكثيرين حتى تبلورت لدي قناعة أن السبب الرئيسي وراء هذه الظاهرة ليس شياطين الإنس أو الجن.. فقد وجدوا على مر العصور والتاريخ.. لا ينفي ذلك دورهم ولكنه يؤكد على السبب الأهم, إنه ما يجول في قلوب العامة من الناس في هذا الزمان.. تأمل معي قليلاً سلوك الناس أثناء الصيام.. تبرم وانفعال دائم بحجة الصيام وأحياناً حتى في الصباح الباكر قبل أن يبدأ المرء بالتأثر فعلاً بالصيام !! وانظر أيضاً إلى كمية الحجج والأعذار التي يطرحها الناس باسم الصيام ليتهربوا من الواجبات والمسؤوليات..
إن رمضان بالنسبة للكثيرين لم يعد تلك الفرصة التي ينتظرونها للتقرب إلى الله وتعويض التقصير في بناء بيوت الآخرة بانشغالهم عنها في بناء بيوت الدنيا.. بل صارت نظرتهم إليه أقرب إلى النظرة التراثية.. فترى من يصوم ولا يصلي مثلاً وترى .. وترى .. إلخ .... إنهم يرونه موروثاً ثقافياً واجب الاحترام, ويرى الواحد فيهم أنه يبذل جهداً كبيراً طوال نهار رمضان ليحترم هذا التقليد التراثى فيعتقد في قرارة نفسه أنه يستحق مكافأة مجزية مقابل هذا التعب, فيكافئ نفسه بأشهى أنواع الطعام على الإفطار.. وبالإسراف في الملذات المباحة (وأحياناً غير المباحة) طوال الليل.. وكأنه يعوض ما يفوته منها طوال النهار.. وهنا يأتي السؤال التالي.. أين هو الإيمان في قلوبهم من كل هذا؟؟ أين اختفى ذلك الفهم المفترض للحكمة الحقيقة من هذا الشهر في تربية النفس وفطمها عن الملذات طواعية لتستعيد حريتها منها وعافيتها بعد أن ظلت طوال أحد عشر شهراً أسيرة لها ومتعلقة بها..
لم أجد جواباً أبلغ من قول الله تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} , انه حب الدنيا يا صديقي.. انه الاستعجال على تحصيل نصيبنا من المتع فيها.. هذا الاستعجال هو نفسه الذي نراه في أشياء كثيرة أخرى من حولنا.. هو نفسه الذي يدفع الدائن لعدم الصبر على المدين المعسر.. هو نفسه الذي تراه في غلظة وقسوة تعامل التجار اليوم.. نراه في الأنانية المفرطة التي تجعل الغني يمر جوار الفقير الجائع ولا تتحرك نفسه ليمد له يده بلقمة.. نراه في كل مظاهر الجشع والفساد من حولنا.. ونراه في رمضان استعجالاً لتحصيل ما نظن أننا استحققناه بعد عناء الصيام.. متناسين أن الصيام من دون سائر الأعمال اختص الله بها الثواب عليها لنفسه.. متناسين باب الريان لذي خصص للصائمين ليدخلوا منه إلى الجنة..
الجنة !! الآخرة !! هل نحن أساساً ما نزال نتذكرها فعلاً؟؟ هل أساساً نؤمن بها في دواخلنا.. أم أنها مجرد قصص تراثية تروى لنا لم نقنع بها ولم تصادف في قلوبنا ملجأً يؤمن بها.. أتراها الحقيقة أنه لمّا يدخل الإيمان في قلوبنا ...
من البديهي أنه إذا غاب الإيمان وغابت القناعة فلن يكون هناك فعل يعبر عنهما... حين تنظر حولك اليوم ستعرف ما هو الإيمان الذي يحكم قلوب العامة من حولك.. أخشى القول أنه ليس الإيمان بالله واليوم الآخر.. بل هو الإيمان بالمادة والدنيا.. فلا عجب إذن أن انقلبت آية رمضان الكريم لتكون تعبيراً عن هذا الإيمان الجديد...
الطريف في الأمر أن هناك فئة أخرى تفعل العكس تماماً, تتشدد في المبالغة في العبادات تقليداً أعمى لما كان عليه السلف رضوان الله عليهم حتى يوقفوا مصالح العباد باسم العبادة.. وتراهم يبالغون فيها ومع ذلك لا ترى لها أثراً في تعاملهم.. لا يكاد أحدهم ينتهي من أداء النافلة حتى يعود ليكذب ويغش وينافق.. وينصب ويدلس..!! وها نحن الآن أمام صورة أخرى تبدو جديدة للإيمان بالدنيا وبالمادة, ولكنا ليست جديدة حقيقة بل هي من أقدم العصور.. الإيمان بما تم تلقيننا إياه وبمن لقنونا إياه عصبية جاهلية لا أثر فيها لعقل ولا إيمان بالله وإن كان ظاهرها التعبد لله.. هم يقدسون ما تلقوه لذاته ويقدسون من لقنهم إياه بدلاً من تقديس من أنزله عليهم سبحانه وتعالى لتتطهر به أفئدتهم وقلوبهم.. فهم وجه آخر لنفس العملة .. العملة التي صكت بها قلوبهم وأهواءهم في حب الدنيا .. ولهم جميعاً أقول ... ((أف لكم ولما تعبدون من دون الله)) ليس هذا تكفيراً لأحد او إخراجاً له من ملة حتى لا تقطعني ألسنة ما تفتأ تنتظر مثل هذه الكلمات لتعكس مرادها ليتفق مع أهوائهم.. بل هو تذكير بأن عبادة الله تبدأ من القلب, فهو المضغة التي إذا صلحت ..صلح سائر البدن والعمل... وإن لم, تغشاها حب الدنيا صار الناس أقرب لعبادتها منهم إلى عبادة خالقها.. أسأل الله أن يغفر لنا ويطهر قولبنا ويردنا إليه رداً جميلاً وكل عام وأنت يا قارئي العزيز بخير..
اقرأ أيضاً:
حكايا رمضان الحصرية/ كيف نستفيد من رمضان/ رمضان والكهرباء في لبنان/ معلومة تهمك في رمضان/ رمضان والمواقع الإباحية مشاركة