حضرت يوم الإثنين جلسة لجنة استماع في مجلس الشورى لصياغة بعض مواد الدستور المتعلقة بالأسرة والطفل، وحضرت يوم الأربعاء اجتماع هيئة محترمة "جدا"، واقترحت تأجيل الكلام عن المشروع الحضاري، وأن نبدأ بمعايير اختيار الرجال (والنساء) لفترة ما بعد المرحلة الانتقالية، فرفض الطلب "بأدب جم"، ودخلنا في جدول الأعمال حول معاني كبيرة "جدا" وعميقة "جدا"، وخرجت قبل نهاية الاجتماع لأجلس "في عز حر الظهيرة" على رصيف "الميدان" الأشهر والذي أعرفه الآن بكثرة باعة الأعلام على جوانبه و"نصبات الشاي" في وسطه. اقترب مني أحدهم (بابتسامة غير بريئة) قائلا: "كوباية شاي مظبوطه لسعادتك وبعدها تقول اللي انت عايزه"، فقبلت على الفور (لأنني طول عمري نفسي أقول اللي انا عايزه) رغم أنني لا أفهم ماذا يقصد. وما أن شربت الشاي حتى أحسست بالميدان العظيم يصغر ويكبر، وأعمدة النور تصبح أقزاما تقفز .. وأعلام سوداء تملأ المكان ... وخيام قليلة مصنوعة من قش الأرز موضوع عليها صور سعد زغلول ومصطفى كامل وعبد الناصر وعماد عفت ومينا دانيال ومصطفى الصاوي .. وعسكري مرور بيكسر في الإشارات .. والظابط بيلطش في العيال، وعسكري المراسله بيصقف ويقول له "جدع ياباشا .. اديهم على قفا أمهم" . وشيئا فشيئا لم أعد أر وجها أعرفه، بل أشباح تروح وتجيء، وخيام تفوح منها روائح متباينة (ولكنها غير مريحة)، وباعة جائلين يقضون حاجاتهم تحت حراسة البلطجية، وسيارات تعطلت في الميدان لعدم وجود بنزين، ويمر أشخاص من وقت لآخر أحدهم يحمل لافتة "ثورة حتى النصر"، والثاني "ثورة حتى العصر" والثالث "تحرير التحرير" والرابع "تغيير التغيير وتطهير التحرير"، والخامس "نريد معايير واضحة للاختيار" ومن وقت لآخر يتناوشون بلا سبب واضح.
ومر عصام من أمامي منكس الرأس فعاتبته على التفريط في شرف الثورة ثم سمعت صوتا من وسط الميدان يتهمه بالتواطؤ ويذكره بأنه رفض أن يحلف اليمين في الميدان وكانت هذه دلالة عدم الإخلاص للثورة، فحاول عصام أن يثبت حسن نيته ويؤكد طيبته وبراءته، ولكني لم أر في وجهه طيبة بل استسلاما وخضوعا لا يليق بمسئول ثوري، وخشيت من استمرار "شرفنة" الكرسي، وشعرت بالقلق من استمرار عرض حلقات مسلسل "الزعامات المستأنسة والقيادات الأليفة" في شهر رمضان المعظم. وبعد فقرة إعلانية طويلة شاهدت مدير إدارة عموم القطر يتحدث بلا صوت عن قرب تشكيل شيء ما لم أتبينه، ولكنني رحت أمارس هوايتي في قراءة ملامح وجهه ووجوه من حوله والتي لا أكاد أراها من فرط ما هي باهتة ... وجه أبيض أكثر من اللازم .. ملامح بريئة أكثر مما يحتمل المقام الوظيفي .. وجه طفولي لم ينضج بعد ... يقولون رجل طيب يحرص على أداء الفرائض .. (نعم ربما أرضاه زوجا لإحدى قريباتي ولا أختاره وزيرا أو محافظا أو مديرا ) .... يده في الماء دائما (واللي إيده في الميّه مش زي اللي إيده في النار) ... خال من آثار تجارب السنين وآلام الخبرات الحياتية ... قامة غير بارزة ... يغطس بسهولة وسط عموم الناس .. حين يجلس على الكرسي ترى الأخير ولا تراه .. وحين يقف خلف المنصة ليلقي الكلمة يحتاج لنفس الرجل الذي كان يضع وصلة خشبية لأحمد عز كي يطال الميكروفون.
لم أتذكر أنني سمعته (أو سمعت أحدهم) يوما يقول كلمة حق عند سلطان جائر .. لم أسمع له (أو لهم) تأييدا للثورة ولا شجبا لها ... لم أره (أو أرهم) في الميدان .. لم أقرأ له (أو لهم) كلمة وقت سيادة الطغيان ... ليس له كتاب عن الوطنية أو المواطنة ... ملامح وجه تعكس هدوءا ظاهريا ينم عن محاولات قمع مزمنة للأفكار والانفعالات وآثار طاعة أبدية ... الفم ضيق من طول الصمت .. والأذن متسعة من كثرة سماع الأوامر والإرشادات والتوجيهات .. والعين ضاقت من كثرة غض البصر عن الحرام والحلال خوفا ورهبا .. لم يتعود رفع الصوت إذ تربى على أن خفض الصوت من أهم الفضائل .. لم يتعود كلمة "لا" إذ الطاعة هي القيمة الأعظم ... تربى على كتمان المشاعر والأفكار فصار الوجه قناعا لا تدري ما خلفه من غضب أو عدوان... يقولون سيتولى حقيبة كذا أو كذا أو سيعين محافظا هنا أو هناك .... من جاء به ليستوزره أو يستمدره أو يستحفظه ولماذا ؟ ... ما هي معايير الاختيار أو الرفض ... يقولون أن الجهات السيادية والرقابية بحثت فلم تجد عليه شيئا في سيرته الذاتية .. يصنفونه لديهم بأن "ليس له نشاط" وليس عليه غبار ... ولا تهم بعد ذلك الأسماء المجهولة أو الملامح الباهتة أو التاريخ المنسي ... وحين تختار مسئولا باهتا يأتي بمسئول أكثر بهاتة كي يشكل خلفية مناسبة لصورته.
أين الهامات والقامات والتاريخ والأسماء والوجوه والمواقف .. هل تكفي البراءة والنزاهة .. هل نختار الأبيض ليأتي بمن هو أكثر بياضا .. هل نختار الأقل حروفا ليأتي بالممسوح. وهذا الآخر كان يقطن قصر السلطان في زمن الطغيان .. لا بأس فقد تاب وأناب .. فلتكن توبته لنفسه لا علينا .. أتريد قطعة من التورته ؟ .. لا أحب الحلوى .. تجزع منها نفسي .. ثم أنني صائم .. انت لسه شارب دلوقتي كوباية شاي حمضانه بجنيه !!! .. اركن على جنب وخلي المركب تمشي .. على البلاط كده ؟؟! ... مشروع النهضة لازم يتحقق .. أيوه احنا عشنا كلنا علشان مشروع النهضة بس مش كده ومش بالمواصفات دي .. احنى أدرى هانعمله ازاي ... طب بس خدوا رأينا ... انت فلول ولا شيوعي ؟ .. لا والله ولا لي أي علاقة حتى بتوفيق عكاشه .. دا انا عشت حياتي أحلم بمشروع النهضة وضحيت واتبهدلت عشانه كتير، بس ما جاش في خيالي إنه هايكون كده.
الميدان قاعد يضيق وعماويد النور بتقصر والأعلام بتسود من كتر دخان السجاير .. وريحة البانجو بتخنق .. وبنت ناشره ملابسها الداخلية على عمود الخيمة اللي جنب "نصبة الشاي" .. والنهاردة جمعة "لحس الكوع" وفيه عشرين منصة بس من غير ميكروفونات .. والهتيفة كتير بس خرس .. وعساكر المرور زوغوا وسابوا العربيات تدخل في بعضها ساعة خروج الموظفين .. والكهربا بتيجي بالنهار شوية وتقطع طول الليل .. والعربيات بتجرها الحمير علشان مفيش بنزين ... ومدير إدارة عموم القطر صاحب الوجه الأبيض البرئ "جدا" والسيرة الذاتية الخالية من كل شيء قاعد يبص على المنظر بابتسامة باهتة ويردد "خير" ... "خير" . .. والبرادعي أعلن تأسيس حزب الدستور .. لكن هايكمل بعد ما يرجع من سفره الطويل .. وحمدين صباحي بيدوروا عليه الناس اللي انتخبوه مش عارفين راح فين .. وحازم أبواسماعيل باعت رسالة صوتية لأنصاره في الميدان يطلب منهم الصبر والثبات حتى تحقيق النصر.
قالوا لازم يبقى المسئول كده باهت الملامح وخافت الصوت ومجهول التاريخ علشان اللي ورا الستاره يقدر يحركه زي ماهو عايز!! .. . طب ما يطلع اللي ورا الستاره ويتحرك بنفسه هو يعني احنا قلنا لأ ... هو ما بيعرفش يشتغل إلا ورا الستارة في هدوء ... ما ينفعش أبدا ياخد دور الرجل الأول كده علنا ... ربنا يقويه ويعينه ... والريس ماسك مسدس ميّه وقاعد يعد من واحد لميّه .. وعند رقم 99 ييجي يضرب بالمسدس ما يطلعش ميّه .. والعسكر فطسانين على نفسهم من الضحك ويقولولوا اضرب كمان .. ومجلس الشعب انشقت الأرض وبلعته .. ومجلس الشورى فيه ناس كتير قاعدين يسمعوا بعض ويشوروا بعض من ورا بعض ... وظابط أمن الدولة اللي كان بيستجوبني زمان جاي ناحيتي ووراه جيش جرار من الشرطة العسكرية (اللهم اجعله خير).
طيب هاقوم أنا بقى أشرب لي كوباية شاي تانية يمكن افوق واشوف حد مجنون يوافق ينشر الهلوسة دي ... تصبحوا على خير.
واقرأ أيضا
مبروك لمصر، ولكن المعركة طويلة/ خبر مبارك المكذوب/ قراءة في أول خطاب رئاسي للدكتور مرسي/ تسابيح رمضانية