أمارس العلاج الجمعي منذ أربعين عاما وواحد (منذ سنة 1971) أسبوعيا في قسم الطب النفسي في قصر العيني، بالإضافة إلى ممارسة أقل انتظاما خارجه، المرضى في قصر العيني أصدق تمثيلا لما يسمى "الشعب المصري" حيث العلاج بالمجان، والحضور اختياري، والمستوى الاجتماعي الاقتصادي التعليمي يمثل أغلبية الشعب المصري الحقيقي، لا شعب ميدان التحرير، ولا حتى أغلب شعب صناديق الانتخاب، هم ناس كادحون بسطاء يعانون مثلما يعانى المصريون الطيبون، وتزيد معاناتهم لدرجة يصنفها الأطباء على أنها تحتاج رعايتهم، فيسمونهم مرضى بالتعريف السائد، لكنهم أساتذتي بحق، لم أتعلم منهم مزيدا من تفاصيل تشريح الطبيعة البشرية فحسب، وهو ما أسميته مؤخرا "نقد النص البشرى"، وإنما تعلمت منهم "مصر" ووعي شعبها الجمعي، وطريقي إلى الحق تعالى، ثم تعلمت منهم معنى الزمن، وجوهرية اللحظة وثقل أمانتها.
سوف أركز اليوم على هذه النقطة الأخيرة عن اللحظات والزمن، فالزمن يتجسد في هذا العلاج الجمعي من خلال تفاعلنا معا معالجين ومرضى في عمق اللحظة التي هي جماع كل الحياة وجوهر الوجود المتجدد، وأنا لم أفهم جوستان باشلار في "حدس اللحظة"، إلا من خلال ممارسة هذا العلاج.
رحت أتابع بكل المشاعر على الناحيتين ما يجري في بلدنا، ومن الشباب خاصة طوال هذا العام، وتساءلت: هل يعرف هؤلاء الناس، والشباب خاصة، شيئا عن هذه اللحظة التي نعيشها معا أنا وهؤلاء الذين أعتبرهم أكثر تمثيلا للمصريين الطيبين البسطاء العباقرة؟ هل هم يعرفون كيف نحاول أن تمتلئ لحظاتنا الواحدة تلو الأخرى بما ينبغي أن تمتلئ به؟ هل يحاسب أي منهم نفسه بعد الغضب والاحتجاج والثورة والمطالب والشجاعة والتضحية، هل يحاسب أي منهم نفسه عن حمل أمانة لحظاته واحدة واحدة؟
إذا كانت الثورة هي إعلان أنه قد آن الأوان لتغيّر كيفي جسيم إلى أحسن، فهي بداية رائعة لاحتمال خطير غير مضمون عادة، فهي بعد هذه اللحظة الفارقة لا تعدو أن تكون "أزمة مفترقية" مثل كل أزمات النمو للفرد، وأزمات التطور للنوع. قبل هذه اللحظة الفارقة وبعدها تأتى مسئولية "ملء الوقت بما هو أحق بالوقت"، (تعريف للتصوف).
لم أكن أتوقع أن لمثل هذا القول ما يقابله في ثقافة أخرى، حتى قرأت على نتيجة أصدرتها ابنتي أ.د.منى التي لها– مع زميلاتها وزملائها- فضل تأسيس أول جمعية مصرية للعلاج الجمعي في الشرق العربي، قرأت كلمة شهر فبراير التي زينت بها ابنتي نتيجة الجمعية لهذا العام 2012، وهي كلمة لواحد اسمه "بالمر" (لم أهتد بعد لمعرفته أكثر) يقول فيها: "إنك لا تعلم أبداً مدى تأثير ما تقوله أو تفكر فيه أو تفعله اليوم على حياة الملايين غداً".
تصورت أن شبابنا الرائع قرأ هذه العبارة مثلما قرأتها، فالتقط كيف أن الفرصة الآن لتحقيق مصداقية هذه الكلمة هي أكبر من أي وقت مضى نتيجة لثورة التواصل والاتصالات، التي أصبحت تسمح لكلمة أي واحد أن تصبح ذات تأثير على الملايين عبر العالم، وليس فقط تأثيرا في تربيط أو تفكيك الشرق الأوسط الملوّن، تصورت لو أنهم قرأوها مثلما قرأتها فشعروا بمسؤولية كل ما يفعلون، وما يقولون، وما يهتفون به، وما يطالبون به، بل وما يفكرون فيه حتى لو لم يخرج عن حيز التفكير، لو أنهم صدقوا أن كل فرد يعيش كل ثانية وهو يشارك إيجابا أو سلبا ليس فقط في مصيره، بل في مصير نوعه، لو حدث ذلك، أو بعض ذلك، إذن لراهنتُ عل نجاح تشكيل ما أسميه "الوعي العالمي الكوني الجديد" القادر على مواجهة "النظام التآمري العولمي الأمريكي الصهيوني الجديد " إن ثورة التواصل وشبكية التبادل قد أتاحت أكثر فأكثر أن تكون اللحظة، والفكرة، والكلمة، من كل فرد عبر العالم، مسئولة عن مصير كل النوع بطول الحياة وعرضها، لعل هذا ما يمكن أن أستلهمه من قوله تعالى "أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ...... (25) (سورة إبراهيم).
ما دام الأمر كذلك فإنه من أهم أولياتنا حتى تكون ثورة، وليست أزمة مفترقية يمكن إجهاضها، أن نحمل أمانة لحظاتنا وما نملأها به من عمل أو فكر أو قول، حتى نحمل شرف أن تدرج مع ما هو طيب يؤتى أكله كل حين، أو قد ننتبه إلى معنى الحديث الشريف أن ما نقوله "لا نلقي له بالا" قد يلقينا في جحيم عددا لا حصر له من السنين!
اتسعت علينا المعركة نحن البشر، وأصبح من الممكن أن يؤثر سلوك كل فرد على حدة في مسار ومآل نوعه جميعا
يبدو أن الحال كان كذلك على مدى التاريخ الحيوي لكل الأحياء التي نجحت أن تفلت من الانقراض عبر التاريخ، حتى بدون أن تتورط في الوعي باللحظات والرصد بالكلمات، فلا شك أن سلوك كل وحدة من الكائنات الحية ساهم في تحديد مصير ملايين الوحدات من نفس النوع إما مع التطور والبقاء، وإما ضد الحياة ومع الانقراض، تم ذلك عبر تاريخ الحياة بدون فضائيات، ولا فيس بوك، ولا تويتر، ولا صحف والعياذ بالله، فما بالك وقد امتلك أحد هذه الكائنات المسمى الإنسان كل هذه الأدوات كما هو الحال الآن؟
حين أتذكر أنه قد مر على بداية الأحداث وفرصة التغيير النوعي عام وبعض عام، وأن عمر الحملة الفرنسية هي ثلاث سنوات لا غير، وعمر الاحتلال الإسرائيلي هو ثلاثة أرباع قرن، تطل على أسئلة في نفس السياق عن علاقتنا بالزمن، وضياع أغلبه في حسابات الماضي والانتقام، وتراودني عشرات الأفكار عن ثقافة اللحظات، وأمانة الوقت، فأتمنى أن يشاركني ناسي وشبابنا خاصة هذه المسئولية، التي لا بد أن تنبهنا إلى أنه آن الأوان أن نتجنب تكرار النص، (إعادة السكريبت) لكي نبدأ في القيام بدورنا الرائع بأن نملأ الوقت بما هو أحق بالوقت، فتكون حضارة، ويكون انتصار للبشر والحياة في كل الدنيا.
إذا كانت هذه هي معالم علاقة الشخص العادي بالوقت، وكيف سيحاسبنا الوطن عليه، وكيف سيدفع النوع ثمنه، ناهيك عن حساب رب العالمين، فما بالك بوقت من يتولى أمرنا، ومتى ينتبه أن ما يفعله، وما يفكر فيه، وما يقوله، يؤثر في ملايين ناسه حالا، وملايين البشر غدا؟
اقرأ أيضا:
الإيمان هو الحل: ضد قوى الانقراض / رمضان، والإبداع، والثورة، والواقع / غصْباً عن أمريكا!!