إشهار إفلاس، إدراك الحقيقة
الجزء الثاني
إننا بحاجة لإعادة قراءة وتأمل هادئ للقرآن والسنة ومعطيات الحياة الحديثة من تطور تكنولوجي ونمو هائل في التعداد السكاني وما يفرضه ذلك من تطوير الأدوات الإدارية والفكرية والثقافية والسياسية الجديدة التي تنبع مقاصدها وأطرها من مقاصد الشريعة وأحكامها وتتفق معطياتها مع احتياجات المجتمع البشري اليوم، إننا بحاجة لنظم سياسية جديدة ونظم اجتماعية جديدة ونظم ثقافية وفنية جديدة، نظم تحقق المعادلة البسيطة الوصف العسيرة الحل التي اختصرها رابع الخلفاء الراشدين في قوله اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
إن واحدة من المعادلات الصعبة التي لا حلول لدينا لها حتى الآن هي النظام السياسي، ففكرة الديمقراطية التي استعرناها من الغرب واليونانيين قبلهم فيها جزء يتفق مع مقاصد الشريعة ولكنها تتنافى في جوهرها مع الفكر الإسلامي ومقاصد الشريعة، (لست هنا أتحدث عن قضية الحاكمية وقول العزيز سبحانه [إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ] والجدل الذي أثارته حولها كتابات بعض المفكرين في الماضي، فتلك قضية أخرى أعتقد أن كل ما كتب عنها لم يصل لنضج كاف ولم يفرز لنا إلا صداماً بين الداعين إلى الدولة الدينية بكل صورها المنسوخة عن الماضي ورافضيها على الجانب الآخر). إن التنافي الذي أعنيه هنا هو أن السلطة والأمارة والحكم في الإسلام لا يعطَى لطالبه الساعي إليه إلا عند الضرورة القصوى وفي أضيق نطاق، أما الديموقراطية فهي تؤطر الصراع على السلطة وتقننه وتنقله من ساحة المعارك بالسيف والنار إلى الخطابة والكذب والتضليل باسم فن السياسة وعلمها....؛
وهنا أتساءل لماذا حتى اليوم لم نطور آلية واضحة تحافظ على هوية الدولة ومقاصد الشريعة وفي نفس الوقت تحافظ على حرية الناس في الاعتقاد وحريتهم في اختيار حكامهم وممثليهم وتؤطر ذلك كله في نظام يستوعب واقع الزمن الذي نعيش فيه، وكأني أسمع صوتاً يقول الآن هذا ما نفعله ولكن عفواً، كل ما نفعله الآن هو ترقيع مشوه وكلام مرسل بلا آليات واقعية على الأرض تجعل الأمر واقعاً ملموساً ولا يخرج عن نطاق الاستدانة والترقيع.
خذ معادلة أخرى، أين هو نظام الاقتصاد الإسلامي الذي ستقوم عليه الحضارة حتى الآن لم تتبلور نظرية واضحة له، وليس لدينا إلا تجارب صغيرة في نطاقات محدودة لا يمكن تعميمها، لم يقدم لنا إلى اليوم إطار حقيقي واقعي لهذا الاقتصاد، كل ما نراه ليس إلا محاولات ترقيع وتمجيد لفكرة الاقتصاد الإسلامي استدلالاً بأفعال القدماء، ثم نعود إلى الترقيع فتارة يدعي البعض أن الاقتصاد الإسلامي شديد القرب من الرأسمالية ويكفينا أن نزيل منها الربا والاحتكار وبيع ما لا نملك كي تكون الرأسمالية إٍسلامية!! وتارة نقول أنه أقرب إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وأنه لو أقرت الاشتراكية بحقوق الأفراد بشكل أوسع لأصبحت إسلامية!! مرة أخرى الاستدانة والترقيع، ومحاولة النسبة إلى ما لدى الآخرين وكأنه الأساس ومطلوب منا أن نرقع فيه ليتوافق معنا.
لماذا لا نعترف صراحة أن الإسلام إنما جاء بتحديد المقاصد وروح النظام وحدد بعض القواعد والحدود العامة اللازمة للموازنة بين أطراف المجتمع ومنع الممارسات الفاسدة ثم ترك الآليات والتطبيق لنا لأنها ببساطة متغيرة ولو حددها لنا لحكم علينا بالجمود والقصور وما كان صالحاً لكل زمان ومكان، إننا لا نعترف لأننا نرفض أن نواجه حقيقة أننا مخطئون بأننا لم نحاول أن نطور هذه الآليات المناسبة لزماننا وما زلنا نستعير ونستعير.
معادلة ثالثة أكثر تعقيداً ما زالت بلا حل، أين هو النظام الاجتماعي الذي يوازن بين طبيعة الحياة الحديثة التي أصبحت المادة تضغط فيها على الروح رغم أنف الجميع وبين الحاجات الإنسانية الطبيعية فسيولوجية وروحية؟!! أين هو هذا النظام الذي يقدم للأفراد الحرية الحقيقية دون أن يقيدهم بقوالب تفرضها السياسة والاقتصاد وفي نفس الوقت لا يحيل المجتمع إلى فوضى أخلاقية واجتماعية؟!
النظام الذي يعلي من شأن العلم دون أن يجعله أداة استنساخ فكري أو آلة إنتاج جماعي تساوي الغث بالسمين تحت مسمى الضرورات الاقتصادية والحضارية، النظام الذي يجعل الزواج مثلاً حقاً من حقوق الإنسان بدلاً من أن يكون جحيماً يهرب من الشباب لثقل حمله ويعودون إليه خاضعين بضغط المجتمع أو تأنيب الضمير، النظام الذي يحل كل هذه المعادلات دون أن يطلب منا ببساطة أن نلقي بالواقع وراءنا ونعود إلى ما قبل التاريخ، النظام الذي يجعل العمل والعبادة غاية وراحة كما هي واجب وضرورة، ويساوي بين الناس دون أن يحرم كل صاحب حق حقه وكل ذي قدر ومكانة من قدره. إن هذا النظام موجود في خيالي وخيالك فقط نحلم به ونتمناه ولكننا حتى اليوم لم نبدأ في البحث عن آلية تطبيقه أو إطار فكري واضح يعرفه، كل ما لدينا أطر قديمة ما عادت قابلة للتطبيق ولو كانت قضية كثرة أعداد الناس وحدها وما تطرحه من تحديات تنظيمهم حجة أسوقها لأؤكد ذلك لكانت كافية، هذا النظام الذي فشلت كل حضارات العالم الموجودة على الساحة اليوم أن تقدمه ولا يملك مفتاح إنتاجه إلا نحن بما لدينا في دليل الاستعمال الذي وضعه صانعنا سبحانه بين يدينا لنتبعه وما زلنا نعجز عن استخلاصه لا لصعوبة ذلك وإنما تقصيراً منا عن السير في الاتجاه الصحيح.
ويتبع >>>>>: إشهار إفلاس، واجب تأخر أداؤه
اقرأ أيضاً:
علم جديد / التطبيع مع الفساد