لا نحتاج إلى تذكير أحد بأن شوارعنا تعاني من أزمة مرور خانقة تحيل حياة المواطن إلى جحيم, لكن ما نحتاج إليه هو أن نطرح السؤال الضروري, كيف يمكن إيجاد حل لهذه المأساة التي تتكرر كل يوم. إن إيجاد الحل يحتاج أولاً إلى معرفة الأسباب الحقيقية ثم التفكير في معالجتها بشكل منطقي وعملي بعيداً عن البيروقراطية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ودعنا بداية نحاول تلخيص أسباب المشكلة في نقاط واضحة:
۰ سوء التخطيط العمراني الذي أدى إلى تكدس أعداد كبيرة من الناس في مناطق لم تكن مهيئة أساساً لاستيعابهم ومع ازدياد هذه الأعداد تزداد أعداد السيارات المارة في الطريق بشكل يومي ثابت وتزداد حاجتها أيضاً لأماكن لصف السيارات وانتظارها. وسوء التخطيط هذا كان انتشار الفساد في قطاع التخطيط العمراني فيه مفتاحاً رئيسياً في المشكلة، فسمح بالمخالفات في ارتفاعع المباني فازداد عدد السكان وسمح بتحويل مواقف السيارات في الأدوار الأرضية إلى محلات تجارية فلم تجد السيارات إلا عرض الطريق لتقف فيه, فصارت لدينا شوارع ضيقة غير مخططة لاستيعاب عدد كبير من السيارات أصلاً وازداد ضيقها بوقوف السيارات على جانبيها مع تعطل مستمر في انسياب حركة المرور مع كل محاولة لصف سيارة أو الخروج بها من مكانها. كل هذا في الوقت الذي لا يجد الناس فيه بدائل مغرية للانتقال والعيش في مناطق أخرى أقل ازدحاماً.
۰ تردي حالة البنية التحتية لعدد كبير من الطرق نتيجة الإهمال والفساد مما يتسبب في قيام السائقين بمناورات مختلفة لتجنب المطبات والحفر مما يعيق سيولة الحركة المرورية. وأحياناً يقف طريق طويل بسبب حفرة صغيرة يضطر الجميع للوقوف عندها وعبورها كما تعبر الفتاة في ثوب زفافها فوق بركة من الوحل.
۰ شبه اختفاء للتخطيط والتنظيم المروري السليم المناسب لحركة وسائل النقل ومواقف الميكروباصات مما يتسبب في فوضى وعشوائية تعيق سير المرور بسبب التوقف المتكرر والعشوائي لتحميل وتفريغ الركاب.
۰ عدم وجود آليات للتعامل مع الحالات الطارئة مثل الحوادث أو تعطل السيارات في الطرق الحساسة التي تعتبر شرايين الحياة في المدينة فيتسبب عطل صغير أو حتى حادث تصادم بسيط في تعطل طريق كامل لعدة ساعات.
۰ الانعدام الكامل لالتزام السائقين من مختلف الفئات بقوانين المرور ناهيك عن آدابه وشيوع السلوك الأناني الذي يتمحور حول أنا والطوفان من بعدي أثناء القيادة وهو ما يتسبب في جزء كبير ومهم من المشكلة المرورية، خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر مطالع الكباري وهي دوماً أحد المصادر الرئيسية لاختناق الطرق, والسبب بسيط وهو تدافع البعض للمرور سريعاً قبل الآخرين منن خلال حارة إضافية في أقصى اليمين أو اليسار يحاول السائقين من خلالها دفع أنفسهم عنوة قبل من سبقوهم إلى بداية مطلع الكوبري مما يعيق تقدم الخط الأساسي للصعود ويعطل معه الطريق بالكامل خلفهم وفي نفس الوقت يعيق الطريق المجاور الذي اتخذت الحارة الإضافية على حسابه، وغير هذا من الأمثلة كثير وكنت لأسرد بعضها لولا خشية الإطالة.
والآن إذا أردنا أن نكون واقعيين وأن نقدم حلولاً واقعية فعالة أو نعرض تصوراً منطقياً قابلاً للتطبيق فعلينا أن نضع الزمن بالاعتبار كعامل مهم، إن علاج النقطة الأولى له شقين أحدهما يمكن النجاح فيه بشكل واضح خلال سنة أو اثنتين على الأكثر إذا توفرت الإرادة الحقيقة وهو القضاء على الفساد في قطاع التخطيط العمراني للحد من تفاقم الأزمة, وينطبق الأمر ذاته على النقطة الثالثة المتعلقة بتردي البنية التحتية.
أما الشق الثاني فقد يحتاج إلى نحو خمسة عشر إلى عشرين عاماً من التخطيط والعمل الدؤوب لانشاء تجمعات عمرانية جديدة خارج المناطق المكتظة بشرط أن تتوافر فيها ليس فقط الخدمات الحياتية المعتادة من ماء وكهرباء....إلخ بل وأيضاً مصادر الرزق. فلا فائدة من مدن سكنية جديدة يضطر أصحابها للنزول إلى المدن المكتظة كل صباح من أجل لقمة العيش وهذه الفكرة تحديداً واحدة من الدوافع القوية لتنفيذ واحد أو أكثر من المحاور العمرانية الجديدة ااتي كثر الحديث عنها سواء على قناة السويس أو المحور الرأسي (شمال– الجنوب) أو المحور الأفقي (شرق – غرب). في حين قد يحتاج إصلاح البنى التحتي للطرق في ظل الظروف الحالية إلى نحو 3 أعوام ولكننا سنتمكن من لمس نتائج العمل فيها جزئياً خلال بضعة أشهر.
أما فيما يتعلق بتوفير خطط الطوارئ والتخطيط المروري المناسب لحركة وسائل المواصلات فهو دون شك أسهل المهام اذا توفر قدر مناسب من التمويل والنية الجادة مع معالجة مشكلة التزام السائقين عموماً كما سنتحدث أدناه, فإننا نستطيع أن نحقق تقدماً ملموساً فيما لايزيد عن ستة أشهر ونجاحاً باهراً في أقل من عام، ومرة أخرى يعول الأمر على النية الفاعلة وليس نية الحالمين فقط ومحاربة الفساد، ودراسة حقيقة للخيارات والبدائل المناسبة وبشرط أن يراعي ذلك أيضاً مصلحة الركاب والسائقين في نفس الوقت الذي يراعي فيه سيولة المرور لأنه بدون مراعاة تلك المصلحة فإن فرض الالتزام والاحترام لهذا التنظيم سيكون مستحيلاً وسيكون العمل كله مجرد عبث لا طائل منه.
أما النقطة الأخيرة فهي الأصعب حلاً في رأيي في ظل العقلية الإدارية الحالية ولكنها رغم ذلك سهلة وممكنة جداً ومع ذلك فهي الأهم من بين المشاكل جميعاً. إن التزام السائق بقواعد بل وبآداب المرور هو دوماً عصب الحركة المرورية الذي يتحكم في سيولتها أو شللها، إن الحل له طرفان أحدهما يركز الجميع عليه وهو التشديد في تطبيق قواعد المرور بحزم ولكنه مع ذلك لا يحل في أحسن أحواله أكثر من 20% من المشكلة. إن الأهم هو انطلاق حملات توعية مكثفة بقواعد المرور وآدابه وحث الجميع على الالتزام بها باعتبارها واجباً دينياً وأخلاقياً وقومياً أيضاً، حملات تتشارك فيها المدارس والجامعات ودور العبادة ووسائل الإعلام المختلفة والأندية الرياضية والثقافية بل وحتى السينما والمسلسلات يمكنها أن تقدم عوناً قوياً في هذا المجال بدلاً من مسلسل الانحطاط والهبوط الذي تسير فيه دون هوادة. وأزعم أن قيام حملة قومية للتوعية المرورية تستنفر الجميع للاستيقاظ وتعديل السلوك المروري للأفراد هو واجب وطني يسأل عنه من بيدهم مفاتيح إطلاقها.